قالت: نَفَسُكَ قصيرٌ، (طوِّل بالك، ليش بتضل بصلتك محروقة؟).
لم يأخذ مني الأمر طويلًا حتى بَدَّلتُ صنف دخاني من الحمراء القصيرة الى الشرق الطويلة، ثمَّ توسَّع نفَسي الى نرجيلةٍ.
فجأة، ومن دون صافرةِ الـ / قف/، أقلعتُ عن كل أنفاس الدخان والبصل المحروق؛ لسببٍ بسيط وأبسط من البساطة، وهو إنها أتت لكي تقطع نفَسي.
كتبتُ لها سيناريو عشقٍ، عن أول خسوفٍ دهريِّ للقمر فأخرَجَته من شفتيها مسلسلًا رماديًّا، ولائحة الممنوعات والخسوف الكلي. نفختُ ما بداخل حوجلتي من همومٍ، لينبعث من بين منفضة دخاني وحوجلة النرجيلة رمادٌ له رائحة البصل. بلَّلتُ سبابتي بلعابي، ثم غمستها بالرماد، وكتبتُ لها على ورق دخان الشام: “أحبكِ وأنا مكتومُ الأنفاس”. على هامش السيناريو كتبَتْ لي: “ليس عجبًا أن يكون الهلال مذكَّرًا”.
على قارب قلبي، ابحرتُ قارورةً بداخلها رسالةٌ كتبتُ عليها: “ليس عجبًا أن يكون القمر مؤنثًا، بل العجب أن يكون مخسوفًا”. وكتبتُ أشياء أُخر؛ على ورق الجرائد، وعلى “ورق دخان الشَّام”، ومن ثم أشعلتُ الأوراق، خوفًا من أن يقرؤونها.
مججتُ من دخانها بعمقٍ فانتشر الدخان بداخلي وتشبَّثَ رماد الأحرف بشراييني. ومنذ ذلك الحين، كلما تكلمت مع أحدٍ ما يسألني:
- “أما زلتَ تحبُّها؟”.
= “أما زالتْ رائحتها تنطلق من مساماتِ جلدك؟”.
حملتُ قلبي على مشعلٍ، واتَّجَهْتُ صوب منزلها. على حبلِ غسيلِ شرفتها، كانت تعلِّق بالملاقط قلبها فوق قميص نومها. أطلَّتْ من الشرفة مُحمرَّة الوجنتين، كأنها خارجة لتوِّها من التَّنّور. ظننتها رغيفًا، قلَّبْتُه بين خميرةِ يديَّ فاشتعلتْ أصابعي. تمدَّدتُ كالسنابل فوق بيادر شعرها فانهمر القمح طحينًا وارتفعت حرارة الحصاد، فيما بين قمرٍ وهلالٍ.. في ذلك الوقت انفجرت النجوم. حاصَرَنا حوتُ الشمس بوشاحٍ أبيض، أسموه غيمةً، والبعض اعتبره كسوفًا. من حرقتها، كلما حاولتُ التقرُّبَ أكثر وجدتُها إما مخسوفةً كـ هيَ، أو مكسوفةً كـ أنا، وتتناولها ألسنُ البشر وتقول: “تلبَّدت السماء بالغيم.. ويبدأ هطول الكلام”. هيَ بقدِّها الميّاس، وأنا بصمتي المفجوع. ودائمًا لا تنسى أنني زرعتُ أصابعي، ذات يومٍ، في شعرها فنبتت لنا مسنناتٌ حادة اسموها “مشطًا”. مشَّطتُ شعرها بيديَّ فاستساغت، ولم لا؟ وأصابعي كالديناميت تبللت بالماء.. تَشَّت وأضحت كعظمةٍ ضائعةٍ بين قطةٍ تموءُ ومكنسة زبَّالٍ.
كأنني لم أعد أعرف سرد الحكاية، وأن نَفَسي قصيرٌ وبصلتي محروقة.
دلَّكت فانوسي السحري لعل المارد بداخلي ينفجر فأُخرج من فمي بقية الحكاية في أول خروجٍ للمارد. حاصرتُها بحزامٍ من القبل فاصطدمتُ بأول شجرةٍ اعترضت طريقي، أما هي فلبستْ ثوب الخضرة، وأما أنا فصرت دائمًا أترقَّبُ فصل التعرية.
أصبحتِ الشجرة مزارًا للعشاق؛ تحوم فوقها عصافير الدوري، وتشكَّلت تحتها بركة ماءٍ يرمي العشاق محابسهم الى قاعها.
بدأتُ سردَ الحكاية بتسارعٍ، ويدي على صدرها في محاولة للتسلق. وبدأ سباقنا يشرف على حافة الهاوية بخطىً مثقوبةٍ، ليبدأ نزوحنا نحو أمكنة مجهولة، إلى أن اصطادنا تنُّورٌ. تكورنا بداخله، تبللنا برماده. تذكَّرتُ رماد سيجارتي ولفافة ورق الشام وسيناريو قصيرٍ لحالةٍ طويلةٍ.
ضحكتْ.. ضحكتُ. طبعتُ ضحكتي على ابتسامتها. صدرت عن التنور أصوات انكساراتنا وقهقهاتٍ مكتومةٍ، وتعالى الرماد المُتَّقد أبدًا.
بدأتْ جلبة الأصوات تصلنا من كل الجهات: - هذا زرَقُ عصافيرٍ وليس دموعَ عشاقٍ.
- الحوت يبتلع القمر.
- القمر يبتلع الحوت.
- الهلالُ انخسفَ بكسوفكِ.
التنور ابتلع الإثنين.
صرخت صاحبة التنور بابنتها:
“أشعلي الحطب يا بنت! اختمر العجين بين يديَّ”.
من بين المسافات المضغوطة، مرّرنا نظرنا بخوفٍ إلى راحتَيْ صاحبة التنور، فإذا بالرَّاحة الأولى ترسم شفتيَّ وبالرَّاحة الثانية ترسم شفتيها.
تعالى لهاثنا مبدِّدًا الرماد. وازدادت حرارة التنور توهُّجًا مع تسارع حركة كفيها، وصياحٌ من كل الجهات:
“يا نار كوني بردًا عليهما”.
ونحن نحكُّ ماردنا بجنونٍ صارخين:
“كوني نارًا.. نارًا..”….. - اللوحة ل ذوي الهمم الرسامة غيداء صقر
Social Links: