<strong>النظرية السياسية الرابعة وعودة الجيوبوليتيكا الروسي</strong>

النظرية السياسية الرابعة وعودة الجيوبوليتيكا الروسي

د جمال الشوفي


أعادت الثورة السورية العالم إلى شكل جديد في العلاقات والتحالفات الدولية، تذكّر بما كانت عليه أيام ما قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، فكل من التوسع الإيراني في الشرق الأوسط، وما تلاه من تدخل روسي مباشر عسكريًا في سورية، جعل نظام العولمة العالمي وعلى رأسه أمريكيا يعود للمنطقة بطريقة عسكرية جديدة، وذلك بعد أن أعلن أوباما انسحاب بلاده العسكري من العراق أواخر 2011، وعزوف بلاده عن تنفيذ القانون في فضيحة السلاح الكيماوي السوري أواخر 2013 على خلاف ما جرى بالعراق عام 2003، فـ “So far, the year 2014 has been a tumultuous one, as geopolitical rivalries have stormed back to center stage، العام 2014 كان عامًا صاخبًا، حيث عصفت به عودة التنافس الجيوبولوتيكي وعودته لمركز الحدث، فكل من القوة الروسية آخذة بالتزايد، والصين أيضًا، كما أن اليابان بدأت تميل بشكل متزايد للخطط الإستراتيجية هي أيضًا، وإيران أخذت بالتمدد داخل سورية بالتعاون مع حزب الله وذلك للسيطرة على الشرق الأوسط، ما يظهر عودة القوة التقليدية للعب الدور الرئيسي في العلاقات العالمية”.
لقد شهد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وبعد انحسار روسيا الكبير عن الساحة العالمية بروز محاولات نظرية جديدة في الفكر السياسي، تبحث في إعادة هيكلة القرار السياسي العالمي، وتعيده لمربع التوازنات الكبرى التي كانت سائدة قبل الهيمنة الأمريكية عليه. أحد أهم منظري النظرية السياسة الرابعة هذه، هو الروسي ألكسندر دوغين ومن خلفه مركز كاتخيون “Katehon” للدراسات، وهو ذو نزعة عنصرية روسية، ويعتبر الأب الروحي لبوتين والمنظر الأول لضرورة كسر نظام العولمة عبر علوم الجيوبوليتيك الحديثة “انه عقل بوتين، فيما آخرين رأوا فيه نبي الإمبراطورية الروسية الحديثة، ومنظر “أوراسيا”، ذلك الحلم الذي رآه من قبل “شارل ديغول” عن أوروبا الواحدة من شواطئ الأطلنطى إلى جبال الاورال. فيعد “دوغين” من أوائل المفكرين الناقدين لفكرة القطبية الأحادية، ويرى إنها شر مستطير، انه يرى هذا النوع من أحاديه القطب بمثابة إمبرياليه جديدة”.
الفرضية الجيوبوليتيكية الجديدة لدوغين هذه تجاوزت فكرة الجغرافية والجغرافية السياسية، بحيث أعادت تعريف الجيوبوليتيك كخطاب مناقض للهيمنة الأمريكية، ويسعى للتأسيس لصورة العالم بشكل جديد لبناء صورة مختلفة للسياسات الدولية وأشكال تغوّلها العنفي المهدد للسلم العالمي عامة.
هذه الصورة الجديدة في السياسة أكّدت على أن الجيوبوليتيك النقدي كإطار نظري أولًا ذو أهمية بحثية كبرى للإبداع السياسي، حسب زعم منظريها، مختلف عن المدارس الكلاسيكية التي وطدتها العولمة ونظامها العالمي وقوانينه، فالفرضية البحثية هذه تقول أن: “مفاهيم مثل: الهوية، الأمن والقرب الجغرافي والمسؤولية هي ليست محايدة لكنها غالبًا ما تعكس تحيز المستخدمين لها في تعبيراتهم الذاتية، ومن ثَمَّ، ضرورة تجاوز دراسة ممارسات الدولة والتحرك نحو كيفية ترسيمها للأساطير الثقافية الكامنة من وراء هذه الممارسات كأسطورة التفرد الوطني؛ فالتفكير الجيوبوليتيكي الجديد في روسيا ارتبط بالأوراسيانية “Eurasianism” المؤكّدة على التفرّد والتميّز الثقافيّ عن العالمين الأوروبي والآسيوي، فهي بصفتها حركة فكرية وسياسية ظهرت خلال عام 1930 بداية، وعكست الحاجة المتوخاة لروسيا للتركيز على استقلالها النسبي الثقافي، الجغرافي والسياسي؛ وهو اهتمام باستقرار الحدود وإقامة محيط حيوي وراسم تنوع عرقي، كما يعكس الموقف غير المتعاون مع الغرب الحاضر دائمًا في قلب الفلسفة السياسية الأوراسية”.
وضع دوغين أساسيات نظريته السياسية الرابعة في كتب ومقالات عدة، وليس فقط بل كان المستشار الرئيس لبوتين في كل عمليات روسيا العسكرية وأحلافها السياسية، وذلك من خلال تحديده مهمات الجيوبوليتيكي مبدئيًا “فلا بد للجيوبوليتيكي وهو ينطلق إلى بحوثه العلمية، من أن يحدد مكانه الخاص على خارطة الأقطاب الجيوبوليتيكية، وبهذا ترتبط زاوية الرؤية التي سيحلل من خلالها كافة الأحداث العالمية، ولا يوجد عالمًا جيوبوليتيكيًا اتسم باللامبالاة نحو دولته أو شعبه أو لم يشاطرهما توجههما الخلقي أو التاريخي()، ومن ثم ضرورة الانتقال لاكتمال النظرية فكريًا وتحولها للعمل والتنفيذ السياسي لاحقًا.
أساسيات وفرضيات النظرية السياسية الرابعة هذه تقوم أساسًا على فرضيات التوسع الروسي الجيوبوليتيكي والتي تتمحور على نقاط عدة يمكن تلخيصها في:
فرضية دوغين الأساسية تقوم على أن ثمة توازن رعب عالمي مفاده عدم إمكانية إقامة حرب عالمية مباشرة بين الدول الكبرى النووية “الواقع الآن أن العنصر النووي بشكل خاص يسيطر أكثر على العصر الذي نعيش فيه، ويبدو أن الدول لا تزال مصممة على عدم استخدام هذه القوة الرهيبة، بشكل كثيف على الأقل، في الحروب الشاملة” (سيليزييه، ص 11) .
رفض الهيمنة الأمريكية على العالم بما فيها ثقافة الليبرالية، والتي يراها دوغين الشر الأكبر، وبالضرورة العمل على إنتاج نظريات سياسية جديدة قابلة لوضع الحد لتوسعها وتمددها، وروسيا هي الدولة الكبرى المرشحة للعب هذا الدور “إن روسيا كقلب الجزيرة الأوراسية، كقلب العالم “heartland”، استطاعت في الوضع الجيوبوليتيكي الحيوي، وبصورة أفضل من جميع الأقاليم الأخرى، أن تواجه الجيوبوليتيكية الأطلسية وأن تكون مركز المجال الكبير البديل”، وهذا ما يعيد إنتاج شروط جديدة للعلاقات الدولية السياسية في ظل عالم مزدوج القطبية، لا عالم أحادي القطبية والهيمنة.
الهمجية التي ظهرت بها الحروب العسكرية التي قادتها أمريكيا، خاصة في العراق، جعل الروس يعتقدون أنهم أكثر قبولًا من غيرهم عند دول العالم، وربما يبدو هذا صحيحًا قبل تدخلهم العسكري الكارثي في سورية، كما عبر عنها نواف التميمي “لفهم روسيا الجديدة، لا بدّ من فهم طبيعة الأيديولوجية “الأوراسية الجديدة” التي باتت تحظى بقبول في أوساط واسعة من النخبة السياسية والإعلامية والفكرية في روسيا بما فيها الرئيس فلاديمير بوتين”، وهذا ما أوردته صحيفة رأي اليوم المصري أيضًا “إن الأوراسية، في الواقع، هي أيديولوجية معادية للغرب بمعنى أنها ترفض حق المجتمع الغربي لفرض معايير الخير والشر وتسويقها وكأنها قاعدة عالمية. لا يعارض الأوراسيون فقط الهيمنة الغربية والتوسعية الأمريكية، بل يرون في القيم الليبرالية خطرًا على الحضارة الروسية والمجتمع الأرثوذكسي المحافظ”.
البحث عن أدوات سياسية معرفية جديدة تستطيع تجاوز عقدة الهيمنة الليبرالية ومن خلفها نظام العولمة أحادي القطب، فرسوخ واستقرار النظام العالمي الجديد لعقود وتنحي فكرة الحرب المباشرة جعل الروس، كما مفكري الحداثة للبحث عن علوم سياسية جديدة تتجاوزها، طبعا مع وجود الفارق الكبير بين التوجهين (ويمكن إدراجه في دراسة فكرية نظرية مختلفة عن هذه الدراسة لكثافتها وتوسعها الفكري والنظري)، فكان لمركز كاتخيون للدراسات توطئة كبرى في هذا الجانب تأخذ بعلوم الاجتماع والتاريخ المشترك وبالضرورة السياسي أيضا “بما أننا نتعامل مع مجتمع عالمي جديد نوعيا لا يواجه أي معارضة، فقد فتح أفقا جديدا لعلم الاجتماع. ومن هنا، في الواقع، نواجه إيديولوجيات جديدة في العلاقات الدولية، تختلف عن أدوات المدارس التقليدية في العلاقات الدولية التي تفقد أهميتها تدريجيا وبالتالي ضرورة إدراج نظريات اجتماعية جديدة”.
العودة الثقيلة لمفهوم التوسع الإمبراطوري من خلال عودة السيطرة على مثلث القوى العالمي الكلاسيكي وعدم الاكتفاء بالتقانات الحديثة:
السيطرة على الممرات البحرية وعقد اتصالها المائية،
والوصول البري للمياه الدافئة،
التعامل على أساس فرضية علوم الأنتروبولوجيا التي تقوم على فكرة وجود اتصال تاريخي بين كل من أوروبا وأسيا، أسماه دوغين، “الأوراسية” أو منظومة “أوراسيا الكبرى” التي تلعب روسيا فيها دور المركز وصلة الوصل الكبرى عبر دوائر ثلاث متعاقبة:
الدائرة الأولى مركزها موسكو ضمن محيطها في روسيا الاتحادية.
الدائرة الثانية تتمثل في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، المحيط الحيوي الأقرب لموسكو وسياجها الأول.
الدائرة الثالثة تبدأ من دول أوروبا الشرقية مرورًا بتركيا ووصلها بإيران ومنها إلى آسيا الشرقية في الصين، ونقطة الوصل فيها تمر عبر سورية، وذلك لاستكمال المحيط الحيوي الأكبر لروسيا فيما يسمى بالأوراسية، فـ “إن إيجاد مخرج على البحار الباردة في الشمال والشرق يجب أن يتمم بالانفتاح على البحار الدافئة في الجنوب والغرب، وفي هذه الحالة فقط تصبح روسيا “مكتملة” من الناحية الجيوبوليتيكية، أما الاندفاعة الأخيرة نحو الجنوب، التي تمثل ضرورة حياتية لروسيا فكان التوسع الفاشل للاتحاد السوفييتي نحو أفغانستان. والمنطق الجيوبوليتيكي يظهر بنفس المعنى بأنه سيكون حتما على روسيا أن تعود إلى هناك على الرغم من أنه كان أفضل بكثير أن تعود في صورة حليف، وحام وصديق، من أن تعود في صورة جلاد غليظ القلب. وآنذاك فقط وعندما يصبح الخط الساحلي حدودا جنوبية وغربية لروسيا يمكن الحديث عن الاكتمال النهائي لبنيانها الاستراتيجي”.
تلخصت أفكار دوغين ونظريته في كتابه المترجم للغة الانكليزية، النظرية السياسية الرابعة The Fourth Political Theory””، والكتاب غير مترجم للغة العربية لليوم، ومنه يستقي دوغين معظم أفكاره السياسية ومقالاته في ذلك والمدونة في مراجع هذه العمل، ويحدد به فرضياته الجيوبوليتيكية: “النظريات السياسية الثلاث الأولى تم إنتاجها من فكر الحداثة. أيا يكن، فالعالم من الممكن أن يحكم بالقوانين الاقتصادية وبالأخلاق الكونية لحقوق الإنسان، فكل الحوارات السياسية تم استبدالها بالتقانات فقط. عليه فالنظرية السياسية الرابعة صيغت ضد: الأزلية، النظرية الاجتماعية الصناعية، أحقية الفكر الليبرالي سياسيًا، والعولمة، كما هي قواعد لوجستية وعالمية، هذا ما يعيد التقليدية السياسية واللاهوتية الفكرية” (دوغين، ص 10-19- 52).
“Three political theories have been produced from the ideology of modernity. The status quo and this inertia do not presuppose any political theories. whatsoever. A global world can only be ruled by the laws of economics and the universal morality of ‘human rights’. All political decisions are replaced by technical ones. So, The Fourth Political Theory is a ‘crusade’ against: postmodernity, the post-industrial society, liberal thought realized in practice, and globalization, as well as it’s logistical and technological bases. That will return to the tradition and theology..
فتلك الدراسات النظرية لدوغين قادته لمجموعة من الاستنتاجات القابلة للتموضع سياسيًا وذلك في سياق مواجهة نظام العولمة، ومن ثم عودة روسيا لموقع الريادة العالمي مرة أخرى، لكن ليس من بوابة نقدها وتجاوزها فكريًا كما فعل مفكرو الحداثة، بل من بوابة عودة الصراع الأممي والعالمي من وجهة نظر جيوبوليتيكية وفق نقاط ثلاث محددة تشكل نقاط ارتكازها:
إعادة تشكيل التحالفات الاقتصادية والسياسية والعسكرية لفرض المحيط الحيوي لروسيا بحكم الواقع، وإيجاد الصلة المباشرة بين تركيا وإيران لمحاولة وصل أوروبا بآسيا، وبدء عمليات فرض وجودها بسورية وإحراج الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك مع العمل على تجنب الاحتكاك المباشر فيها، بل والعمل على عقد اتفاقات بينهما كما في اتفاقات الكيماوي السوري أو قواعد فض الاشتباك وتحديد خطوط التماس البرية والجوية في سورية.
الذهاب العسكري المباشر لاحتلال موقع مهم على البحر المتوسط من خلال سورية، وتثبيت وجودها العسكري والسياسي فيها وتحصينه من خلال قاعدتي حميميم وطرطوس واتفاقات استثمارها، وذلك وفق تسريبات عن الملحق السري للاتفاقية. حيث يلتزم طرفاها، حكومتا روسيا والسلطة السورية بعدم نشرها، وتتضمن استثمار القاعدتين لمدة 49 عام قابلة للتجديد ل 25 عامًا ما لم يطلب أحد الطرفين بإيقاف العمل بالاتفاقية قبل عام من نهايتها . وهو ما يعزز فكرة دوغين في السيطرة المتقدمة على المجال الحيوي البحري “التالاسوكراتيا”، فحسبه أنها “القوة البحرية تمثل نمطًا لحضارة تقوم على أسس مغايرة. فهو نمط ديناميكي، نشيط الحركة، ميال إلى التطور التقني”(دوغين، ص 60) وربطه بالخط البري الواصل من موسكو لطرطوس عبر طهران وبغداد مرورًا بالبوكمال إلى الساحل السوري، ومحاولة إقفال الدائرة الجيوبوليتيكية تلك في المحيط الأوراسي؛ هذا ويمكن إضافة: إن المتغيرات الممكنة على هذا المحور، خاصة بعد ما يُعلن عن ضرورة إخراج إيران من سورية، هو استبدال بوابة البوكمال ببوابة حلب شمالًا ومنها إلى نصيب جنوبًا، وهذا لن يغير في المعادلة الجيوبوليتيكية سوى بالاكتفاء بالتفاهمات الأمريكية والروسية والتي سنأتي عليها في موضع آخر من هذا العمل.

– العمل على تفريغ الداخل السوري وتهجير وقتل الشعب السوري بدل استمالته سياسيا واقتصاديًا وإبراز الدور المهم لشراكته انتروبولوحيًا، ما يعني تمامًا نقض فرضيتي التاريخ المشترك جيوبوليتيكيا وأن روسيا مقبولة لدى شعوب المنطقة بدل أمريكيا.. وتبدو هاتين الفرضيتين ما كان يمكن تحقيقها إلّا بعمليات حماية حواضن السلطة وتهجير خلافها بالتوازي، ما ولد كارثة بشرية سورية عامة وسياسية اجتماعية في البنية العامة..

  • Social Links:

Leave a Reply