يقلم سامر كعكرلي

سكرتير المكتب السياسي في حزب اليسار الديمقراطي السوري
خلال المظاهرة التي جرت في مدينة إيسين الألمانية يوم الأحد تاريخ 15/09/2024، وفي وقت كنت فيه أستريح جالساً على قارعة الرصيف، جاءني طفلُ سوري وقال لي باستحياء: ((عمو ممكن أن تُعطيني علم الثورة الذي معك لأرفعه في المظاهرة، فأنا ليس لدي علم))، فَضحكتُ وسألته: من أين أنت قادم؟ فقال لي من مدينة بعيدة، فسألته لماذا أنت هنا؟ فقال لي بطفولةٍ ممزوجةٍ برجولة لم أشهدها: حتى أُشارك بمظاهرة السوريين لأنني سوري. في تلك هذه اللحظة تذكرت بيت شعر الذي يقول: ((رشاشك يعقد قمته منفردا، ونعالك في قمتهم)) للشاعر “مظفر النواب”، في قصيدته المشهورة “عبد الله الإرهابي”. فقلت للطفل: ((تفضل عمو العلم لك، اذهب وأصدح بصوتك، فحنجرتُك تعقُد مُؤتمرها منفردةً، ونعالك بمؤتمراتهم)). بعد ذلك بدقائق سمعت من المنصة الرئيسية للمظاهرة، بأن هناك طفل سوري أخر سيلفي كلمة في جموع المتظاهرين، وفي التعريف عليه قالوا بأنه ابن أحد شهداء كتائب الفاروق في حمص العدية، فشدتني تلك الكلمة التي كانت لا تقل شهامةً وشرفاً من شرف والد الطفل الذي استشهد خلال معارك الشرف التي خاضتها كتائب الفاروق وهي تدافع عن حمص العدية. فتذكرت أيضاً بيت أخر لنفس الشاعر وفي نفس القصيدة والقائل: ((رشاشك كان وكالة أنباء الثوار، إذا كذبت فيك وكالات الأنباء)). وطبعا بعد التعديل قلت لمن حولي: ((كلمة هذا الطفل بيان مؤتمر هام، في وقت تكذب بيانات مؤتمراتهم)).
طفلين سوريين كل منهما من مشرب مختلف هزوا وجداني بقوة بموقفهم وغمرتني فرحةٍ وثقة ُ كاملة بأن ثورتنا مستحيل كسرها مع وجود مثل هؤلاء الأطفال اللذين ربما ولدوا في دول اللجوء، وربما لم يشاهدوا إجرام الأسد وعصاباته، ومع ذلك كانوا في مظاهرة إيسين كالمنارة للعالم أجمع بأن هذا الشعب السوري العظيم لن يستكين حتى تحقيق أهدافه بالحرية، ولكن المؤلم بأن تلك الفرحة كان بها غصة آتية من وجود هؤلاء الشباب والصبايا اللذين قارب عددهم الألف وخمسمائة، والذين تركوا أعمالهم ,اصروا إلا أن يشاركوا في مظاهرة السوريين. وهم لم يقدموا أنفسهم سوى أنهم جزء من هذا الشعب المَكلوم، فلم يُشكلوا كياناتٍ أو تجمعاتٍ أو تياراتٍ سياسيةٍ، فقط هم سوريين وهذا ما يجمعهم لم ينصبوا أنفسهم قادة أو نخب ثورية، في وقت غاب عن مشهد المظاهرة أشخاص دائما ما يقدمون أنفسهم خلال سنوات من عمر الثورة على أنهم نخب سياسية ثورية ودائما ما يرفقون ذلك بعبارة ديمقراطية.
لن أتحدث هنا عن كلمة “سياسية” التي ترافق كلمة “نُخَب” لأن أعتقد بأن للجميع الحق بالعمل السياسي، من ناحية ومن ناحية أخرى فأنا أيضاً أعتقد بأن للسياسة دهاليزها وأساليبها والتي غالباً ما توصف بالقذارة والتي أيضاً ليست دائماً تتفق مع فكر الثورات الشعبية، ولكن سأتحدث عن عبارتي ثورية وديمقراطية التي تصر تلك النُخب بإلحاقها بأسماء كياناتها وأحزابها ومؤتمراتها.
ولأبدأ بعبارة “ثورية” مثل مؤتمر أو حزب أو تجمع أو تيار ثوري، هنا يقصد من أطلق هذه العبارة على كيانه بأنه ينتمي لثورة السوريين التي ألهبت مشاعر ملايين السوريين وكانت مثالاً يحتذى به في صمودها، ولكن يراودني سؤال في ظل غياب متصدري تلك المؤتمرات والكيانات عن ساحات التظاهر المؤيدة للثورة السورية، ماهي طبيعة الثورية التي تصفون بها تجمعاتكم ومؤتمراتكم في الوقت الحالي؟ ما أعرفه أن الثورة في الداخل في ساحات وشوارع البلد الذي نعشقه، ونريد له العيش بكرامة وحرية (طبعاً أنا أتحدث عن الثورة السلمية)، ولكن شاءت الأقدار وتآمر الجميع على ثورتنا فأصبحنا لاجئين في دول الشتات. ولا أرى غضاضة بذلك ما دمنا مستمرين بحشد الطاقات لتأييد ثورتنا، فكيف لمن لم يُشاهد في أي فعالية شعبية خاصة بثورة السوريين، ومع ذلك تراه يقدم نفسه في الصفوف الأمامية لمؤتمر هنا ومؤتمر هناك، ويبقى مصراً بوصف نفسه ثائر اًو وصف كيانه أو مؤتمره بأنه ينتمي لثورة السوريين، وهؤلاء يبدوا بأنهم لم يتعلموا من الثورات التي سبقت ثورتنا، فخلال الثورة الفيتنامية على سبيل المثال كانت جموع الفيتناميين في كل المدن الأوربية ولاسيما باريس، لا يتركون الشوارع، تنديداً بالغزو الأمريكي لبلادهم، وكان قادة العمل السياسي في الصفوف الأولى للمظاهرات، وكذلك الأمر خلال الثورة الجزائرية، وثورة تشيلي ضد الطاغية “بينوشيه”، والأفارقة خلال مناهضة الفصل العنصري، حيث أن أعضاء المؤتمر الوطني الأفريقي من زملاء نيلسون مانديلا والمتواجدين في المدن الأوربية، كانوا في مقدمة تلك المظاهرات. أما إذا اعتقدتم بأنكم برفع علم الثورة وأنتم لم تتجاوزون أناقتكم بارتداء أفخر الملابس وتدخنون الغليون، وتتغنون بالثورة أمام بعض العشرات من مريديكم وداخل قاعات الفنادق التي تعقدون بها مؤتمراتكم، أو خلال الولائم التي تحضرونها باسم الثورة أو ساعات الاجتماعات خلف شاشات الحواسب الألية (مع عدم تقليلي لأهميتها) تعتقدون بأنكم ثوار فاسمحوا لي أن أقولها علناً لا هذه ليست ثورة، هذه عبء على الثورة. وطيعا أتكلم هنا فقط عن المقيمين في أوربا ويملكون حرية الحركة بين المدن الأوربية.
أما بالنسبة لعبارة “الديمقراطية” التي تصرون على إلحاقها بأسماء كياناتكم ومؤتمراتكم، فما هي الديمقراطية التي تصرون على الحاقها بعناوين المؤتمرات والكيانات؟ هل تقصدون بها انتخابات ديمقراطية تجري فيما بين أعضاء مؤتمركم أو كيانكم (هذا في حال فعلتموها)؟ هذه ليست ديمقراطية هذه تحصيل حاصل للديمقراطية، فالديمقراطية الحقيقية تعني الالتصاق بالجماهير، وتبني مطالبهم وتلبية تطلعاتهم، بل يأتي من خلال الالتصاق بهم خلال فعالياتهم الحاشدة والجماهيرية، ولا يأتي في القاعات وخلف شاشات الحاسب، ألم تتعلموا ذلك من الأحزاب والكيانات في الدول الغربية التي تعيشون بها؟ ألم تشاهدوا الفعاليات الشعبية التي تحدث في المدن الأوربية التي تقيمون بها كيف أن الأحزاب والكيانات الأوربية تتسابق فيما بينها وترسل من يمثلها في فعالية شعبية وجماهرية في الطرقات والساحات؟ كفعالية حماية الحيتان في المحيط الأطلسي أو فعالية لحماية الأرض من ثاني أوكسيد الكربون على سبيل المثال، وذلك للاطلاع عن كثب عن تطلعات شعبهم (على تفاتها مقارنةً بقضيتنا السورية، ومقارنةً بقتلنا وتهجيرنا وسحق تاريخنا وحاضرنا ومستقلنا نحن السوريين) وليتم نقلها لمؤتمراتهم وكياناتهم لتصبح برامج سياسية جاءت من قلب الحدث، هذا وجه من أوجه الديمقراطية التي تصرون على ذر الرماد في العيون وإلحاقها بأسماء مؤتمراتكم وكياناتكم.
طبعاً أنا لا أعمم، فنعم هناك من ينتمي لتلك المؤتمرات والكيانات، والذين يحرصون على حضور الفعاليات السورية الشعبية الحاشدة، فلا يمكنني أن أغبن ذلك المحامي ذو الثمانون سنة، ابن الحسكة الذي شارك في مظاهرة أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، وتحمل عبء السفر من سويسرا على الرغم من كبر سنه، فقط ليكون مع السوريين، ولن أغبن المحامي ابن اللاذقية الذي قطع زيارته لولده – الذي لم يراه لمدة سنين – وحرص أن يكون معنا أمام المحكمة في لاهاي. ولن أنسى ابن المعضمية وابن عربين الذين تحملوا عناء السفر من مدينتهم إلى برلين على الرغم من قلة الإمكانيات ليشاركوا الشباب والصبايا في مظاهرتهم أمام البرلمان الألماني، وأيضاً لن اغبن الشاعر والأكاديمي والأديب ابن ريف حلب الذي تحمل عناء السفر من هولندا ليشارك في مظاهرة إيسين.
سرني حضور هذا الحشد من الصبايا والشباب السوريين في مدينة إيسين، والمؤمنين بعدالة ثورتنا، وأزعجني جدا غياب هؤلاء الذين يعتقدون أنفسهم بأنهم ممثلي هذا الشعب العظيم، وثقوا تماماً بأن كل فعالية شعبية تغيبون عنها بشتى الحجج تُنقص من عداد هيمنتكم الزائفة على قرار السوريين، ولذلك نعم حناجر السوريين تعقد مؤتمراتها ونعالهم بمؤتمراتكم.
Social Links: