سِجنٌ بلا جدران

سِجنٌ بلا جدران

فاطمة سليمان

في هذا المكان . لا حاجةَ للأقفال . ولا فائدةَ من المفاتيح. الأبوابُ مفتوحة. لكن الطرقَ لا تؤدي إلى أيِّ مكان. الشوارعُ واسعةٌ، لكنها تضيقُ بمن يسيرُ فيها، والبيوتُ عامرةٌ، لكن ساكنيها غرباءُ حتى عن جدرانها. هنا، لا أحدَ مسجونٌ، ومع ذلك، لا أحدَ حُرّ.
الجوعُ لا يقرعُ الأبواب، بل يجلسُ على الموائد، يتخذُ من الصحون الفارغة مقاعدَ له، ويتكئُ على الكفوفِ الممدودة نحو اللاشيء. ليس الجوعُ في المعدة فقط، بل في الروح التي تظلُّ تتوقُ إلى أكثر مما يمكن أن يُعطى. الفقرُ ليس في الجيوبِ الخاوية، بل في العيون التي اعتادت أن تُخفضَ نظرها كي لا ترى أكثر مما يجب، تلك العيون التي تعلمت كيف تُطفئ الضوء في داخلها حتى لا تُقابل الظلام في الخارج.
أما الأحلامُ، فقد تعلّمت أن تمشي على أطراف أصابعها، حافيةً، حتى لا توقظَ مَن لا يحبّون الحالمين. هنا، كل شيء يمرُّ بصمت، وكأن الصوتَ أصبحَ جريمة. الأمنياتُ تولدُ خرساء، فإن نطقت، فهي لا تقولُ سوى ما يُرادُ لها أن تقول. لا مكان هنا للخيال، ولا للمزيد من الأسئلة، فكل شيء في هذا السجن مكتوبٌ مسبقًا.
وحدهُ الأملُ يختبئُ خلفَ الأبوابِ المواربة، ينتظرُ أن يُخطئَ السجّانُ فيغفو للحظة. يحفرُ في الجدرانِ التي لا يراها أحد، يتركُ إشاراتٍ صغيرة، يُخبئُ رسائلَ في ثنايا الهواء، يكتبُ على الغبارِ المتراكمِ فوق النوافذِ المهجورة: “أنا هنا، لم أمت بعد.” ولكن هل سيجد من يقرأ؟ وهل سيُكتشف الطريق الذي يضيء في هذا الظلام، أم ستظل الجدران غير مرئية، ويظل السجن بلا ملامح؟
في هذا المكان، لا تهم الجدران، فالسجن ليس شيئًا تراه العين، بل هو شيء تشعر به في عظامك، في قلبك، في الهواء الذي لا يسمح لك أن تتنفسه بحرية. إن كنت لا تشعر بذلك، فأنت في المكان الخطأ. وإن كنت تشعر، فأنت في المكان ذاته الذي لا يتيح لك الهروب.

  • Social Links:

Leave a Reply