سوريا بعد الاستبداد.. فجرٌ يتنفس الحرية

سوريا بعد الاستبداد.. فجرٌ يتنفس الحرية

فاطمة سليمان

هناك لحظاتٌ في التاريخ لا تنسى، تظل محفورةً في ذاكرة الأمم، شاهدةً على العذابات التي كابدها شعبٌ ما، وعلى الأمل الذي نهض من تحت الركام، كعنقاء تحترق لتولد من جديد. هكذا هي سوريا، تلك الأرض التي لطالما كانت مهدًا للحضارات، لكنها وجدت نفسها لخمسة عقود أسيرةً لجدران الخوف، تحت قبضة مستبدٍّ لم يعرف سوى لغة القمع، فسُجن الأمل، ونُفيت الحرية، وسُرقت أحلام الأجيال القادمة.
لكن الليل، وإن طال، لا بد أن ينجلي. وحين تهبّ رياح التغيير، تهتز أركان الطغيان، فيصرخ الشعب باسم الحياة، مطالبًا بحقّه في الهواء النقي، في وطنٍ لا يسجن أبناءه خلف قضبان الفساد والاستبداد. خرج السوريون من صمتهم، كمن يخلع ثوب الذلّ ويستعيد هيئته الأولى، غير آبهٍ برصاص الجلّاد، غير مكترثٍ بالزنزانات التي فُتحت له، فقد أدرك أن الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع، وأن الكرامة لا تُشترى، بل تُخلق مع الإنسان.
واليوم، بعد أن انهار الطاغية، بعد أن سقط الصنم الذي توهّم أن سوريا ميراثٌ شخصي، يقف الشعب أمام سؤال أكبر من النصر نفسه: كيف نبني سوريا جديدة؟ كيف نعيد ترميم الروح قبل أن نعيد إعمار الحجارة؟ فالثورات لا تكتمل بإسقاط الطغاة فقط، بل بإرساء دعائم العدل، بخلق وطنٍ يُشبه أبناءه، لا أن يكون نسخةً أخرى من الظلم بثوبٍ مختلف.
في لحظة كهذه، تبرز التحديات التي قد تبدو كجبالٍ شاهقة، لكنها ليست سوى امتحانٍ آخر لصبر السوريين وإرادتهم. فالأخطار ليست فقط فيمن كانوا بالأمس جلّادين، بل في أولئك الذين يحاولون سرقة الثورة، وتشويه معانيها، باسم الدين تارة، وباسم الطائفة أو العرق تارة أخرى. لم يكن الحلم يومًا أن تُستبدل ديكتاتورية بأخرى، بل أن تكون سوريا بيتًا يتسع للجميع، حيث لا تُقدَّم الهويات الصغيرة على الهوية الوطنية، وحيث القانون هو الحاكم الوحيد، لا الأهواء ولا المصالح الضيقة.
اليوم، لا بد أن تنطلق مرحلة جديدة، مرحلة لا تُدار بعقلية الانتقام، بل بروح العدالة. من الضروري أن يُعاد بناء الجيش ليكون جيشًا للوطن، لا ميليشيا لفئة أو حزب، وأن تُصاغ القوانين بحيث تحمي المواطن، لا أن تكون سيفًا على رقبته. لا بد أن تعود سوريا إلى موقعها الطبيعي، دولةً تنتمي للإنسانية، لا حلبةً لصراعات القوى الإقليمية، ولا ساحةً لتمرير مشاريع الآخرين.
التاريخ يُخبرنا أن الثورات التي لا تصون نفسها قد تنتهي إلى ما هو أسوأ مما قامت ضده. ولذلك، فإن أصعب التحديات ليست فقط التخلص من بقايا الاستبداد، بل منع أي استبداد جديد من أن يولد في رحم الفوضى. لا بد أن يكون هناك حوارٌ حقيقي، لا شعارات تُلقى في الهواء، بل إرادة صادقة لتأسيس دولة مدنية حديثة، قائمة على المواطنة، حيث لا يُقصى أحد، وحيث يكون صندوق الاقتراع هو الفصل، لا السلاح ولا التحريض ولا الخطابات المتطرفة.
إن سوريا اليوم على أعتاب حقبةٍ جديدة، تشبه الفجر الذي يسبق بزوغ الشمس. قد يكون النور خافتًا بعد طول ظلام، لكن القلوب التي نبضت بالثورة لن تعود إلى السكون. الطريق طويل، والجرح عميق، لكن الشعوب العظيمة لا تموت، والأوطان الحقيقية لا تُبنى إلا بأيدي أبنائها، حين يؤمنون أن الماضي قد انتهى، وأن الغد ليس مكتوبًا بعد، بل هو صفحة بيضاء، بانتظار أن تُكتب عليه حكايةٌ مختلفة، حكايةُ وطنٍ لا يُقهر، وحريةٍ لا تُسلب.
المجد لكل من حمل الحلم في قلبه ولم يتنازل عنه، ولتكن سوريا، أخيرًا، كما أرادها أبناؤها.. وطنًا يستحق أن يُعاش.

  • Social Links:

Leave a Reply