زكي الدروبي
صدمني الخبر عندما وصلني في الواحدة بعد منتصف الليل، إصابة الصديقة عتاب شاهين ابنة حي السبيل بحمص، برصاصة غادرة أطلقها مجهولان على دراجة نارية. عتاب الثائرة والناجية من تعذيب وسجون نظام الأسد، كانت بطريق العودة إلى منزلها، بعد مشاركتها بمعرض لمنحوتات الفنان الشهيد وائل قسطون. وائل – وهو ابن قرية مرمريتا – لم ينجُ من سجون الأسد، ومات فيها أثناء تعذيبه ببدايات الثورة.
تحمل هذه المقدمة الخبرية سردية وطن، وثورة حرية، آمن بها شعب سعى للخلاص من مستبد مجرم، حالمين ببناء دولة المواطنة لجميع أبناءها. شعب متنوع الطوائف والأديان والقوميات في مقابل مستبد مجرم.
في طريق عودتها، استوقفها راكبان على دراجة نارية، وسألوها مع صديقها عن مقر مؤسسة المياه، فالتفتت لتقول لهما انظروا، هذا بناء المؤسسة، وتعود بنظرها إليهما لتجد أحدهم يمسك مسدسه ويطلق عليها الرصاص ويهرب، فتصاب في فخذها إصابة بليغة غير قاتلة، ويهرب الفاعلان في عتمة الليل، ويسعفها صديقها إلى المستشفى.
رصاصة تكشف الجرح السوري:
ماذا فعلت عتاب كي تنال ما نالته؟ هل لأنها ابنة طائفة متهمة بأن نظام الأسد انتمى لها؟ ما ذنب العشرات من الأطفال والعمال والآمنين في بيوتهم الذين قتلوا على هوية طائفية بسلاح منفلت خلال الأيام الماضية تزامنا مع سحب العشرات من حواجز الأمن العام من الطرقات وبين القرى والمدن؟
يجادل البعض لنفي الاستهداف على الهوية الطائفية بأن هناك حالات قتل لأشخاص من خارج الطائفة المتهمة بانتماء النظام المجرم لها، لكن النمط المتكرر من الاستهداف اليومي على أساس طائفي يجعلنا لا ننفي هذا التوجه بحصول حالات قتل لأفراد من خارج الطائفة، وبهذا فإن الفوضى الأمنية وسهولة تحرك العناصر المجرمة ليست “حوادث فردية” بل نمط متكرر يشير لوجود تيار داخل السلطة يحمل أيديولوجيا صفرية تجاه المخالفين له، في ظل ضعف شديد لأجهزة الدولة غير القادرة على المنع أو حتى ضبط الفاعلين بعد جريمتهم أو محاسبتهم.
ففي وقت تسعى السلطة الجديدة بدمشق لرفع العقوبات، وترسيخ الاستقرار في الوطن، وتنشيط الاقتصاد وجذب الاستثمار، نجد أن هنالك من يعرقل هذا المسار عبر هذه الجرائم، سواء أكانت العرقلة لعجز في الأداء، أو لأسباب أيديولوجية أو شخصية، فقد يرى البعض أن الاستقرار مضر بمصالحه الخاصة، فإن تراكم “الحوادث الفردية” وعدم القدرة على ضبطها، واستطاعة المجرمين تجاوز حواجز الأمن العام، وظهور صور بعضهم في مجازر الساحل، ثم مشاهدتهم في صور أخرى في مجازر السويداء، وظهور صور أخرى لهم أثناء تنفيذ جرائمهم، ثم صور أخرى يلتقي فيها مع مسؤولين بالدولة، كل ذلك يشير لهذه الازدواجية والفوضى بشكل دقيق.
قد يفهم البعض العنف بأنه القتل الموجه فقط ضد المختلفين بالهوية الدينية أو الطائفية أو القومية، لكنه لا ينتبه للعنف اللفظي، وللتمييز المنتشر بين السوريين، والذي وصل إلى تحقير الذين صمدوا في مناطق سيطرة نظام الأسد، ولم ينزحوا إلى الشمال وجعلهم في مرتبة أدنى من مرتبة النازحين، والذين اعتبروا أنفسهم المنتصرين عليهم، وهنا صنعت هوية تقسيمية إضافية للهويات التي تنوء بها سوريا.
يوميا هناك العشرات من المشاحنات والعنف اللفظي الممارس على السوريين الذين بقوا في مناطق سيطرة النظام من الذين تم تهجيرهم إلى الشمال السوري، وعادوا بعد سقوط النظام، ولا تقف عند مشاحنات لفظية، بل تصل لحد التعنيف والتهديد لموظفي الدولة الذين يطبقون القانون كما حصل حين تهجم أربعة مسلحين على مديرة مدرسة بحمص لأنها كانت تطبق القانون، ورفضت تسليم أطفال لصبية تدعي أنها شقيقتهم دون إبراز وثيقة رسمية تثبت هذا، أو حين تهجم عنصر أمن عام على صبية في مقهى عام، لأن الصبية اختلفت مع زوجته ولقم بندقيته الكلاشينكوف، وهو مستوى من مستويات العنف يسبب توترا دائما بين الناس، ويخلق إحساسا بعدم الاستقرار، وهو ما ينعكس بكل تأكيد على شرعية السلطة الحاكمة ويقلص من هذه الشرعية، وعلى فرص الاستقرار والتنمية، فلا اقتصاد دون أمان.
الفوضى وانعكاساتها:
السلطة المنشغلة بشكليات بعيدة كل البعد عن هموم المواطن، كحفلات توقيع وعود الاستثمار غير الملزمة للشركات، وإطلاق الهوية البصرية، والمعارك الفاشلة للسيطرة على السويداء والتي انعكست مجازر أساءت لسمعة الوطن، وسببت شرخا مجتمعيا بين السوريين، وفتحت الباب واسعا للتدخلات الخارجية، والتي أصبح بعدها خروج ثلاث محافظات جنوبية من سوريا عن سيطرة الدولة أمر واقع برعاية إقليمية دولية، وبموافقة من السلطة المركزية. وقبلها مجازر الساحل والتي تكاملت مع ما حصل في السويداء لتعطل مسار إلغاء قانون قيصر والعقوبات الأمريكية عن سوريا، وتمديدها لأربعة أعوام، مع إعطاء استثناءات وتوقف مؤقت، فمن المستثمر الذي سيجرؤ على وضع أمواله في بلد واقع تحت سيف العقوبات الأمريكية؟!
بعد عشرة أشهر من التحرير، لازالنا نستجدي الدول الخليجية لدفع رواتب الموظفين، فقد مولت مؤخرا قطر والسعودية رواتب موظفي الدولة لثلاثة أشهر قادمة عن طريق وكالة الأمم المتحدة للتنمية، بما يوضح عدم ثقة هذه الدول بالسلطة السورية لتدفع التمويل لها بشكل مباشر، ولخوفها من سيف العقوبات الأمريكي، وهو يعني أيضا أن لا يوجد دخل للدولة يكفي لتدفعه رواتب لموظفيها، ومع توقف الاقتصاد، وارتفاع نسب البطالة، وفرار سجناء جنائيين بأعداد كبيرة من سجنهم عند إسقاط نظام الأسد، وفتح السجون، فسيخلق أعباء أمنية إضافية، فوق الأعباء الأساسية الناجمة عن احتكار السلطة، والانقسام المجتمعي، وتبادل الاتهامات بين مكونات الوطن السوري.
كل هذه الأعباء تركتها السلطة وركزت على قضايا هامشية لا تلمس حياة المواطن بشكل حقيقي، وبعد جرائم أتباعها في الساحل والسويداء، خرج مستشار الرئيس ليهدد قسد بمعارك قريبة إن لم تخضع لسلطة رئيسه، مما يجعلنا نتوقع أن تلتحق ثلاث محافظات في الشمال الشرقي من سوريا بعد أن تنفذ السلطة تهديداتها لقسد، بالمحافظات الجنوبية التي أصبحت كما أسلفت منفصلة عن العاصمة وتحت وصاية إقليمية.
لا تنمية دون استقرار وعدالة انتقالية:
اليوم خرجت عتاب من المستشفى بعد أن ضمد جرحها، لكن من يضمد جراح الوطن التي لازالت تنزف؟! ما هي مشروعية هذه السلطة التي لا تستطيع حماية مواطنيها في المدن والشوارع؟ وكيف ستبني الاقتصاد وتطلق عجلة التنمية الاقتصادية في ظل فلتان أمني وانتشار السلاح غير الشرعي؟
أليس من الأفضل أن تعمل السلطة على ضبط هذه السيولة الأمنية، وجمع السلاح العشوائي المنتشر بين جمهورها، وإطلاق حوار مجتمعي حقيقي، يزيل أسباب الاحتقان، ويدفع نحو الاستقرار بدلا من افتعال المعارك هنا وهناك؟ ألم نسأل أنفسنا إن كان معيار وصول الشرع إلى السلطة هو قدرته على ضبط سلاح الفصائل، فإلى أي مدى سيبقى، وهو لا يستطيع تنفيذ هذا الضبط، ومنع هذه الفوضى من الاستمرار؟ وهي التي ستحرج الناس شيئا فشيئا، وتخرجهم من دائرة تأييد السلطة عاجلا أم آجلا.
إصابة عتاب واستمرار العنف بكافة مستوياته ليس مجرد انفلات أمني بسيط، يمكن حله بمنع حركة الدراجات النارية، بل هي تعبير عن أزمة عميقة في المجتمع السوري، ولا حل لها إلا بمعالجات سياسية حقيقية، أهمها هو العدالة الانتقالية، بحيث يشعر الجميع أن لا مكان للجريمة، وأن الجميع مهما كانت مكانته خاضع للقانون والمحاسبة، فلا يمكن قبول أن يضرب ضابط أمن عام قاضي تحقيق أثناء أداء عمله، ويخرج من السجن بعد أن يجبر ويهدد القاضي كي يتنازل عن حقه. إن استمرار الفوضى يهدد شرعية السلطة نفسها، وقدرتها على بناء دولة لجميع مواطنيها، والتي يجب أن تبنى على العدل والقانون وليس على التهديد والسلاح المنفلت.

Social Links: