الحلقة الثامنة
الاتجاه الثاني لمعالجة ماركس ينصب على موضوعة انفصال المجتمع المدني عن المجتمع السياسي، انفصال المالك (في المجتمع المدني) عن المواطن (في المجتمع السياسي = الدولة)، انفصال عالم الحاجات والإنتاج عن عالم الحقوق السياسية٠ يسلط ماركس نيران نقده على بناء الوحدة المصطنعة، عند هيغل، بين الاثنين. فالدولة تبدو له بمثابة استلاب، إنها ليست الفكرة متجسدة إنها ليست مشتقة من الفكرة المطلقة، إنها ليست العام الذي يوجد في جوفه الجزئي، إنها الاستلاب متجسدا.
سيحتفظ ماركس بهذه الموضوعة الهامة في نقده للدولة الحديثة ويطورها في تحليلاته السياسية لعدد من الحالات الملموسة.
خلاصة نقد ماركس أن الأولوية المقررة في نشوء الدولة تنبع من المجتمع المدني، وثانيا، إن الانفصال بين المجتمع المدني والدولة ينبغي ان يجد سبيله إلى الحل.
إن فلسفة هيغل السياسية، كما يلاحظ (بيلسينزكي)، تقوم على أربعة عناصر أساسية هي:
1- مفهوم المجتمع المدني كمظهر هام وفريد للدولة الحديثة.
2 – مفهوم الدولة كجماعة سياسية أو أمة منظمة سياسيأ٠
3- مفهوم التاريخ العالمي بوصفه مسار تشكل ونمو، وسقوط وانحلال الجماعات الأساسية (الأمم).
4- مفهوم التحقق الذاتي للوعي والحرية من خلال نشاط الأفراد في الأمم.
لقد أخذ ماركس عن هيغل الحقل الأول (مفهوم المجتمع المدني)، ونبذ الحقول الثلاثة الأخرى.
يرجع هذا الموقف إلى المناخ الفكري وظروف كتابة كل من “فلسفة الحق” ونقد ماركس لهذا الكتاب.
كان ماركس، كما أسلفنا، في الخامسة والعشرين حين وضع هذا النقد، وكان قد كتبه تحت تأثير فيورباخ أساسا. (هناك من ينكر تأثير الكونت البولوني أوغست سيوكوفسكي)، وتركز المدرسة الفيورباخية على نقد صوفية ومثالية هيغل، مثلما تركز على جبنه وتراجعه السياسي بوجه الدولة البروسية.
والملاحظ في هذا الصدد أن هيغل وضع نصين مختلفين عن فلسفته السياسية. النص الأول هو سلسلة محاضراته عن “القانون الطبيعي وعلم الدولة” التي ألقاها في الفصل الدراسي لشتاء 1818-1819. وفي هذه المحاضرات يعلن هيغل، جهاراً، انحيازه إلى الشكل الجمهوري، الديمقراطي والدستوري حول الحكم. ولدى الإعداد لنشر الكتاب في ربيع 1820، صدر ما يعرف ب “مرسوم كارلزباد”، في فترة عودة العروش الأوروبية (بعد هزيمة نابليون)، الذي فرض رقابة صارمة على الجامعات، وأعاد نشر فكرة أن سيادة الملوك أصيلة، غير مشتقة! رضخ هيغل، صاغرا، لهذا التحول وحذف كل الفقرات التي تفصح عن نزعات دستورية أو جمهورية مباشرة. زد على هذا أنه وسّع المسودة الاصلية للمحاضرة وأعاد صياغة اسلوب العرض، ممعنا في طابعه التجريدي. لهذا السبب اعتبره الكثير من معاصريه كتابا نما في حقول الخنوع والذل. عدا عن المناخ الفكري، المؤثر بلا شك، هناك انعدام للتناسب بين عرض المجتمع المدني، عند هيغل، وعرض الدولة كجماعة قومية محددة. وهذه نقطة هامة لا يمكن إغفالها.
يستعير هيغل الفلسفة الاقتصادية (سميث وآخرين) لوصف وتحليل المجتمع المدني كنظام عام، مجرد، الفاعل فيه هو الإنسان (أو الفرد) المجرد، والفعل فيه يتركز على نظام الحاجات: المأكل، الملبس المشرب، الذي يخلق شبكات معقده من تنظيم وتقسيم العمل والإنتاج والتبادل والحقوق والمؤسسات الاجتماعية الناظمة لهذه النشاطات٠
يكرس هيغل لهذا الجانب العمومي (العمل، الحاجات، الحقوق، إلخ) الحيز الأكبر من مؤلفه.
لكن للمجتمع المدني مظهرا آخر، خارج حدود العمومية المجردة للإنسان “العالمي” وهو مظهر المجتمع القومي المحدد، المتميز بثقافة ولغة وتاريخ محدد، تلغي العمومية المجردة أو تضفي عليها طابعا جديدا.
هذه الازدواجية المميزة للمجتمع المدني، التي يقرّها هيغل (خلافا للمدرسة الاقتصادية الكلاسيكية) لا تبرز عنده إلا في إشارة وجيزة (الفقرة 209 من فلسفة الحق)، حسب قول بيلزنسكي: فهيغل يحذر هنا من أن صورة المجتمع المدني كنظام شامل للحاجات، لا تشكل سوى نصف الحقيقة، لأن الإنسان ليس مجرد عضو في مجتمع مدني مؤلف من المنتجين والمستهلكين المتعاقدين، بل هم أيضا أفراد جماعة قومية محددة قائمة في إطار سياسي معين، وبناء عليه، يخلص بيلزنسكي، إلى أن هيغل يرى أن المجتمع المدني والجماعة السياسية -القومية هما مظهران متعارضان، شكلان اجتماعيان متضادان ومترابطان ديالكتيكيأ، للظاهرة الواحدة عينها٠
هذ٥ الفكرة الهيغلية، الحاسمة إلى حد كبير، تكاد آن تكون مهملة في سياق (فلسفة الحق). ورغم أنها تشكل الوجود الثاني، ان صحّ التعبير، للمجتمع المدني، فإن نصيبها من التحليل يكاد أن يكون عابرا، وهذا الخلل يرجع إلى هيغل نفسه.
هذا الخلل الهيغلي تعزز أكثر عن طريق الحذف من جانب ماركس. وكما أشرنا من قبل، فإن ماركس يقطع نقده عند الفقرة 311 من كتاب فلسفة الحق، ولا يمضي أبعد من ذلك لاستكمال نقده (تقريظا أو اعتراضا) لبقية الفقرات التي تتحدث، بعدئذ، عن الدولة كاملة، والدولة كجماعة قومية، ودورها في التاريخ العالمي.
هذا الحنف حكم على معالجة ماركس اللاحقة بالاختلال، وتعزز ذلك، فيما بعد، بمؤثرات فلسفة الأنوار (زوال الدولة)، أو باستنتاجاته الخاصة من أن الثورة العالمية وشيكة، وآن الدولة الحديثة ستنطلق في مسارها المحتوم إلى الاضمحلال.
إزاء هذا الفراغ الناشئ تلقت الماركسية اضافتين كلاسيكيتين: الأولى من (إنجلز) لتغطية الحقل التاريخي، والثانية من لينين، التي ركزت على الحقل الأول (الدولة كأداة قع طبقي).

Social Links: