خمسة عشر عاماً مع المناضل 4/5

خمسة عشر عاماً مع المناضل 4/5

زكي الدروبي

الربيع :

كنت أجلس مشدوها أمام شاشة الجزيرة متابعاً هروب بن علي، والثورة المصرية، والثورة الليبية، وحين رحل حسني مبارك حملت طفلتي بين يداي وجعلت أرميها في الهواء ضاحكا فرحا وأنا أرد خلصنا من الاخو .. الثاني. لم أصدق أن يأتي يوم يقول فيه الشعب كلمته وينتهي من هؤلاء المستبدون.

سألت أبو مطيع على درج منزله وأنا خارج من عنده بعد نقاش طويل حول أسباب ما يحدث، كيف حدث هذا ؟ بن علي يراقب الهواء والماء، كيف نجحوا في الثورة؟ فقال الأنظمة المستبدة تراقب أمثالي من السياسيين المعارضين، وأمثالك من النشطاء الشباب، وعددنا محدود، لكنهم لا يستطيعون الوقوف أمام شعب بأكمله.

وفعلا ما هي إلا أسابيع حتى خرجت مظاهرة صغيرة بتاريخ 18 آذار من مسجد الصحابي الجليل خالد بن الوليد في حمص وتم قمعها واعتقال كثير ممن شارك فيها، وما أن علمت بها حتى هرولت مسرعاً لمنزل أبو مطيع وأخبرته بما حدث، وسألته قلقاً من إجابته، أتوقع أن تخرج مظاهرة أخرى يوم الجمعة القادمة، فهل سنشارك ؟

قال لي بثقة، هيك شي بدو سؤال؟ طبعا سنشارك وبقوة

كانت فرحتي لا توصف بجوابه، فقد قلقت من خسارته، وأنا عازم على المشاركة في المظاهرات، ولم أرغب في رؤيته لا يشارك.

انطلقت الثورة السورية، وشاركنا فيها كهيئة الشيوعيين السوريين بكل قوتنا، وأذكر أنني كنت مطارد في الأيام الأولى للثورة من عناصر المخابرات، وأجدت الاختفاء جيداً، وفي الأسبوع الثالث من الثورة أصبحت أستطيع التنقل ليلاً، وكانت أول زيارة أقوم بها – بعد زيارة والدتي – لمنزل أبو مطيع، كنت ظمآن للسياسة ولفهم ما يجري، وكان لديه أحد الرفاق، واستقبلني أبو مطيع بالأحضان ضاحكاً معرفاً بي لضيفه، رفيقنا المطارد من المخابرات، وجلست استمع له وللتحليلات السياسية ودورنا في تعزيز المشاركة وتحفيز الناس، ورفع الشعارات الوطنية، وتفاعلات الدول الخارجية والتسريبات التي وصلته حول الأسلوب الذي سيتبعه النظام في مجابهة الثورة.

تمضي الأيام، وبتاريخ 12/5/2011 وبعد تشييع الشهيد ماهر نقرور التقى مجموعة من المثقفين والمعارضين الممثلين لعدد من الأطياف الحزبية في منزل أبو مطيع للنقاش حول ما يجري وأسبابه وكيفية التعامل معه.

كان حاضرا في ذلك الوقت من مختلف أطياف المجتمع الحمصي، وأكد أبو مطيع على إجرام واستبداد النظام، وعلى أنه نظام غير قابل للإصلاح، ويجب إزالته، وبناء نظام ديمقراطي بديلاً عنه، وكان حاضراً في تلك الجلسة الشهيد المحامي عماد الدروبي وأبو علي الصالح وغيرهم ومجموعة من الشباب الناشطين في المظاهرات، وتم الاستماع لوجهة نظر الشباب، ووجهت لهم التحية لنشاطهم، واتفق المعارضون المشاركون على أن يحافظوا على وطنية ومدنية الثورة ويمنعوها من الانزلاق إلى مهاوي الطائفية.

كنت كلما حدث أمر يشعر بخطورة انزلاق الثورة لأماكن قاتلة لها، أركض باتجاه مكتب أبو مطيع لأحذره، ففي إحدى المرات ألقت سيدة من شرفة منزلها في حي بستان الديوان المسيحي وعاء مزروع بنات زينة منزلي، فوق المتظاهرين، وشتمتهم، وبجهد كبير استطعنا منع الناس من ردة الفعل، وأخبرت أبو مطيع بأنني أخاف من عدم استطاعتنا رد الناس عن أذيتها إن تكرر الفعل، وفعلا تواصل مع شخصيات في الحي، وأخبرني فيما بعد أن السيدة مريضة نفسية وأن أهلها مؤيدين للثورة لكنهم لا يستطيعون الإعلان عن تأييدهم لها، وأنهم سيخرجونها من الحي لمكان بعيد كي لا تتكرر الحادثة وتسبب شرخاً في هذا الحي “المسيحي المسلم”.

في تلك الأيام كنت أرغب بالبقاء متظاهراً عادياً مستمتعاً بالمشاركة دون تحمل مسؤولية قيادية، لكن بعد توالي الأخطاء التي سببت دماء كثيرة لم يكن هناك داعي لها، اضطررت لتحمل المسؤولية وشكلت أولى التنسيقيات وكانت في الحي عندي، ومنها انطلقت لتشكيل غيرها – بالتعاون مع شباب الحي – في أحياء أخرى وبإشراف مباشر من أبو مطيع.

كان مكتبه في طريق حماه معلناً وكان مع الرفاق والاصدقاء صمام أمان يمنع المدينة من الاندفاع نحو الطائفية والتطرف والعسكرة، وكنت كلما سنحت الفرصة أزوره مع شباب التنسيقيات للاستماع لحديثه وتحليله السياسي، وكان يكتب لنا الشعارات التي خططناها على اللافتات المرفوعة في مظاهراتنا، وكان يكتب لنا بيانات الثورة، ويوقع تحتها باسم هيئة الشيوعيين جنباً إلى جنب مع تنسيقيات حمص القديمة وتنسيقية الزهراء للتغيير الديمقراطي، وغيرها من التنسيقيات التي كانت تعمل بالتشاور الدائم معه، وكانت تجري الكثير من النقاشات الفكرية والسياسية في المكتب الذي ضم خيرة أبناء المدينة، وكان من ضمنهم رفيقنا الشهيد الدكتور عبد الفتاح الزبن الذي كان يزودنا بأهازيج لنهتف بها في مظاهراتنا، وأذكر أن من بينها أهزوجة مطلعها “عزي وبلادي سوريا، أرض الأحرار سوريا، أرض الثوار سوريا …”، وأعطيتها يومذاك للصديق أبو عبدو البشير ليصدح بها في مظاهرات حمص القديمة.

في زيارة صباحية له وكان بصحبتي منير شقلب ” أبو مازن الحمصي” الصديق والأخ الغالي وأحد الفاعلين المشاركين معي في صناعة تنسيقيات حمص القديمة فيما بعد، أوصانا أبو مطيع بالثورة وقال بأننا نصنع التاريخ ويجب عدم الاستسلام، وأنها ثورتنا نحن الشباب، وهو يشارك معنا فيها بوصفه ناصحاً لا قائداً، وأنه إنسان كبير بالعمر وعلى حفة قبره ولا يسعى لأن يكون رئيس جمهورية، بل يريد الشباب أن تكون في صدارة العمل وهي القائد الفعلي له.

في اجتماع ضم عدد من ممثلي التنسيقيات في أحياء حمص القديمة بمنزل اختاره أبو مازن وكان حاضراً أبو مطيع رحمه الله، قدم عرضاً سياسياً، وشرح أهمية ما يقومون فيه، ورغبة النظام ببث الفتنة بين مكونات المدينة، فهي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها النظام وأد ثورتنا، وحثنا على تنسيق الجهود، وتكريس الشعارات الوطنية، ودفع أكبر عدد من الناس للمشاركة بالنشاط الثوري، ونتج عن الاجتماع تشكيل تنسيقيات حمص القديمة.

كثيرة هي اللقاءات والزيارات التي قام بها أبو مطيع لحمص القديمة، ففي إحدى المرات نسقت لاجتماع سري بينه وبين الصديق عماد غليون عضو مجلس الشعب آنذاك، الذي كان يرغب بالانشقاق، لكن أبو مطيع حثه على الصبر والبقاء داخل بنية النظام، والعمل من الداخل على دعم الثورة، من خلال بث الشائعات بين صفوف النظام، ونقل الأخبار لنا عما يحدث، وتم الاتفاق على هذا، وفعلا قام بإخبارنا أول بأول عما يحدث، حتى لم يعد بمقدوره الصمود في هذا الجو المعادي، فاضطر للانشقاق.

وفي لقاءات أخرى كان يجتمع في ندوات مسائية بعد صلاة التراويح مع الشباب في حديقة العلو بحي الخالدية، وكانت حوارات ثورية سياسية تشد اهتمام الشباب إليها وتثقفهم وتنورهم.

وكان هناك من أطراف أخرى من يعمل في أماكن أخرى، فساهم في تشكيل تنسيقية الزهراء للتغيير الديمقراطي، وساهم في تشكيل تنسيقيات أخرى في المدينة وفي ريف المحافظة، وكنت أعرف عن هذا من خلال الرفاق، إلا أنني في هذه المرة كنت اتبع توجيهات أبو مطيع بدقة فيما يتعلق بالسرية وعدم كشف ما أعمل عليه لأي كان، وعدم السؤال عن أعمال غيري من الرفاق، ونسيان المعلومات التي أسمعها منهم، حتى لا أسبب أضراراً للحركة الثورية الناهضة.

  • Social Links:

Leave a Reply