زكي الدروبي
عانَى الشعب السوري لسنواتٍ طويلة من استبداد نظامٍ مافيوي استغلَّ مقدرات البلاد لمصالحه الشخصية، وكنّا دوماً نتندر بمقولة (أيدٍ أمينة) حين كنا نتحدث عن الدولة ومؤسساتها، في إشارةٍ لسرقة عائلة الأسد والحلقة المنتفعة منها لمقدرات الوطن وثروات الشعب.
لقد ضحَّى الشعب السوري بالغالي والنفيس لأجل الحرية. حريته من الاستبداد، والفساد، والنهب. حريته من نظامٍ دكتاتوريٍّ مستبدٍّ، قاتلٍ لشعبه، ناهبٍ لثروات بلاده، عميلٍ لقوى الخارج، كان دوماً يسأل عن ثروات البلاد: أين تصبّ؟ في جيب مَن؟
إنَّ كلَّ مَن يحلم بسوريا وطنًا لجميع سكانها، عليه أن يتوقف ليسأل عن نقطةٍ جوهرية: الشفافية، فهي توضح الفصل بين الدولة الحقيقية، وبين السلطة، بحيث تدار الدولة من قبل السلطة في وضح النهار وليس في العتم.
ما مصير الأسئلة التي نسألها كلَّ يوم وتُشغِلُنا السلطة الحالية عنها بأمورٍ شكلية تتعلق بالإفطار على طبق الكرامة، ودمشق أموية إلى يوم القيامة؟ تُشغلنا فيها بقضايا لها أهمية في حياتنا اليومية، لكنها انعكاسٌ لجوهرٍ وليست هي الجوهر، كالحريات العامة (اللباس والمأكل والمشرب) وتجاوزات الأمن على الناس، وحرية المعتقد، و… إلخ. فهي وإن كانت مهمةً ومحقةً، لكن الجوهر يتعلق بفكرة الحرية أصلاً، والتي لم ننلها حتى هذه اللحظة، وقد عبر عنها وزير الخارجية الذي قال بأن المخطوفة عندما تُحرَّر لا تُسأل إلى أين نسير بها.
من اختطافٍ لاختطاف:
إذا كنّا نحن مختطفين من نظام الأسد، وقد حرَّرنا الشيباني وزملاءه من الخطف، ونشكرهم على جهودهم في تخليصنا من الخاطف الأول، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نقلنا من سجن بشار إلى سجنٍ آخر؟ لماذا لا يتركنا نقرر مصيرنا إلى أيِّ مكانٍ سنذهب؟ لماذا يجبرنا على المسير معه إلى سجنٍ آخر؟
إنَّ هذه الممارسات تخلق قلقًا شعبيًّا حقيقيًّا، وسيخاف الناس من أنَّ التضحيات الهائلة التي قُدمت، قد تذهب هباءً، دون أن توصلهم إلى الحرية التي ينشدونها، وبأننا قد نقع في فخِّ استبدادٍ جديدٍ، يحمل قناعاً مختلفاً. والردُّ على هذه المخاوف لا يكون بالصمت، أو لوم الناس على أسئلتهم المشروعة وجلدهم لأن التوقيت خاطئ من وجهة نظر البعض، بل يكون بفتح قنوات حقيقية للمساءلة والشفافية، تعيد الثقة بين السلطة والشعب، ولا يمكن أن “تخرج الدولة من منطق الفصائل والمحاصصات” إن لم يكن الشعب قادرًا على مساءلة السلطة والفصائل حول إدارة الموارد التي تخصُّ الشعب، فالصمت لا يولد مشروعًا نبيلاً.
لنسأل بوضوح:
لماذا لا تُعلَن تفاصيل العقود التي يتم توقيعها؟ أليس من حق الشعب أن يعلم كيف تُستثمر أملاكه؟ أين المزادات العلنية، والمناقصات، واستدراج العروض الشفاف؟ ألم نرَ كيف كانت تجربة البوسنة والشفافية في العقود، وكيف أثمرت؟ ونفس الكلام ينطبق على تجارب أخرى كتجربة تيمور الشرقية، فقد كان نشر العقود أساساً متينًا تُبنى عليه إعادة الثقة مع الشعب، وهنا يصبح المواطنون شركاءً في القرار وليس فقط متفرجاً على عقودٍ تُنجز في العتمة؟ مَن هي الشركات التي تفوز بهذه الصفقات، ولماذا هذه الشركات وليس غيرها؟ هل سنستمر في عقودٍ مجهولة المعالم، لا يعلمها إلا الله، وأصحابها، والمتنفذون؟
إنَّ إعلان العقود بشفافية يبني الثقة لدى المستثمر المحلي والخارجي، ويُشجّع على المنافسة العادلة، ويخلق بيئةً اقتصاديةً صحيةً. وهذه القضايا مُلِّحة وضرورية لاستعادة الحياة إلى مؤسسات الدولة، وخلق استقرارٍ اقتصاديٍّ مبنيٍّ عبر الثقة والحدِّ من الهدر والفساد، وهي ليست قضايا رفاهية يمكن أن نؤجلها حتى يتحقق الاستقرار، فكيف سنطالب بانطلاق الاقتصاد دون حدٍّ أدنى من الأمن الاقتصادي؟
نسمع دوماً كلمات مثل (استلمناها تحت الصفر) لكنه كلام عام وغير منطقي في العمل الحكومي، فالمفروض أن يكون هناك شفافية وإعلان. أين البيان الرسمي الذي يوضح ماذا وُجد في قصور عصابة بشار ومواليه؟ ماذا وُجد في البنك المركزي؟ في البنوك الأخرى؟ ماذا عن أرصدة المؤسسات الأخرى المملوكة للدولة؟ في أيِّ عملية استلامٍ وتسليمٍ، يحدث جردٌ للصندوق، ويصدر تقريرٌ ماليٌّ يقول: وُجدنا في الصندوق مبلغَ كذا، فأين الاستلام الذي حصل من حكومة تصريف أعمال؟ أين الأوراق؟ أين الشفافية؟
أين ميزانية حكومة الإنقاذ؟ عندما كانت في إدلب، قبل فرار بشار، لقد كان هناك مداخيل لصندوق الحكومة. هل قدمت الحكومة للناس حجم الأموال التي كانت تأتي إلى الخزينة، وأين تمَّ صرفها؟ أليس هذا مالًا عامًا، ومن حقِّ كلِّ مواطنٍ سوريٍّ أن يطلع عليه؟ اليوم وبعد التغيير، لماذا لا تُعلَن الميزانية؟ ما حجم الأموال الداخلة ومِن أين، وأين صُرفت؟
واستطرادًا، كان هناك القليل من دعم المواد التموينية والمحروقات في عهد النظام السابق، لكن وبعد استلام الحكومة الانتقالية، تمَّ رفع الدعم وتضاعف سعر ربطة الخبز، وصَغُرَ حجمها. ونفس الشيء بالنسبة للمحروقات، فأين ذهبت أموال الدعم التي تمَّ توفيرها؟ هل عادت للخزينة؟ أم أنها تُدار في العتمة بعيدًا عن الناس؟
ماذا عن الفروق في الرواتب بين موظفي حكومة الإنقاذ في إدلب، وبين موظفي بقية مؤسسات الدولة؟ ألا تعتبر ستة أشهر فترةً كافيةً لإصلاح نظام الرواتب والأجور؟ أم أنَّ بالقضية “خيار وفَقُّوس”؟!
أسئلة وجودية:
هذه الأسئلة حقٌّ طبيعيٌّ لكلِّ مواطنٍ سوريٍّ يرى أنَّ الدولة كيانٌ يخصه، وليس ملكية لفصيلٍ أو حزبٍ، وهي – أي الأسئلة – ليست للتشكيك أو الاتهام، بل صمامُ أمانٍ ضدَّ الفساد، وخطوةٌ أولى وأساسيةٌ نحو بناء الثقة، وركيزةٌ مهمةٌ وضروريةٌ لأيِّ إصلاحٍ حقيقيٍّ، لهذا فالشفافية ليست رفاهية.
يجادل البعض في أنَّ مطلب الشفافية مطلب حقٍّ لكن “التوقيت خاطئ”، ويدعون للانتظار حتى يُعادَ بناء مؤسسات الدولة وسيادة القانون، وبأنها شرطٌ ما بعد البناء. لكني أرى في هذا التأجيل مخاطر كبيرة على عملية بناء المؤسسات نفسها، فالشفافية وتطبيق القانون وبعد عقودٍ طويلةٍ من حكم نظامٍ مستبدٍّ قاتلٍ لشعبه ناهبٍ لثروات بلاده عميلٍ لقوى الخارج، ألغى الدستور والقوانين، وشوَّه المؤسسات، وجعلها الشفافية شعارًا فارغاً من مضمونه. حتى أنني أذكر أننا كنا نسخر من الشعار المرفوع، غير المطبّق في واقع الأمر، المفرّغ من مضمونه، وهذا دأب المستبدين: أن يرفعوا شعاراً، لكنهم يفرّغونه من مضمونه، ويبقى شعاراً شكلياً، كما في شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية.
إنَّ الغموض والتكتم على العقود والميزانيات في عهد نظام الأسد، هو الذي أسَّسَ لانهيار الثقة سابقاً. واليوم لا يمكن انتظار بناء الهيكل كاملاً، حتى نرى ما بداخله، فالأساس الهشُّ لا يُنتج بناءً قوياً. فكيف سنبني الثقة عند تأسيس “شرعية دستورية ومؤسساتية” دون ممارسات شفافة منذ اليوم الأول؟ إن تجربة تونس المتعثرة، جعلتنا نرى أنَّ غياب الشفافية في مراحل التأسيس يُضعف الثقة لاحقاً، لأن الشفافية ليست بنداً قانونياً يمكن أن نضيفه لاحقاً، بل هي سلوكٌ يؤسّس لتطبيق القانون ويسبقه. إنها البيئة التي تُمكِّنُنا من بناء مؤسسات قوية ونزيهة. كيف يمكن أن نضمن أنَّ المؤسسات الجديدة ستكون وطنية وجامعة، إن لم تُبنَ على أسسٍ شفافةٍ منذ اللحظة الأولى؟
ويرى البعض أنَّ مطالبتنا بالشفافية في بيئةٍ منقسمةٍ أمرٌ صعبٌ، وبأنَّ التحديات هائلة، وأنا أوافقهم في توصيفهم للحالة الحالية، لكني أرى أنَّ هذا التوصيف يجب أن يدفعنا لاعتماد الشفافية لأنَّ الغموض أحد أسباب هذا الضعف والانقسام. عندما لا نعلم أين تذهب أموال الدولة؟ كيف تُدار ثروات الشعب؟ مَن هم المستفيدون من العقود؟ فإنَّ هذا يُغذّي الفساد، ويُعمّق الشكَّ، ويَقتل أيَّ مبادرةٍ اقتصاديةٍ حقيقية.
مشروع بناء لا أداة ضغط:
اليوم وبعد ستة أشهر من فرار بشار الأسد، حان الوقت كي نرفع صوتنا عالياً، ونطالب بإجاباتٍ واضحةٍ ومسؤولةٍ وشفافةٍ، لأنَّ أبسط حقوق الشعب أن يعرف أين تذهب أمواله؟ وهذا الأمر ليس أداة ضغطٍ سياسيٍّ، بل هو دعوةٌ لبناء الثقة، ولإرساء دولة العدل، وكي نستطيع صيانة كرامة الشعب، فهو مشروع بناءٍ حقيقيٍّ هدفه حماية ثروات الشعب السوري من أيدي الفساد الذي أفقر سوريا لعقودٍ طويلة.
نحن اليوم بأمسِّ الحاجة إلى عقدٍ اجتماعيٍّ حقيقيٍّ، وتثبيت سلطةٍ واحدةٍ بعيداً عن سلطات الفصائل والأمراء، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف الكبرى، سوى بممارسات شفافة منذ اليوم الأول، فالثقة في ظلِّ الانقسامات والتخوين هي أساس أيِّ عقدٍ اجتماعيٍّ مستقبليٍّ.
لنعمل على عدم تضييع الفرصة التاريخية التي حصلنا عليها، بعدم تأجيل ما هو أساسي لبناء أفضل مستقبل لوطننا، والمطالبة بالشفافية محاولةٌ للمساهمة في بناء هذا الوطن ومؤسساته، وليس انتظاراً لخلقها من العدم.
علينا أن نؤمن بأنَّ سوريا تستحقُّ هذه التضحيات التي بُذلت للخلاص من حكم الاستبداد والقتل والفساد، وبأنَّ أولى خطوات بنائها، يجب أن تنطلق من تعزيز ثقافة الشفافية والمساءلة.
Social Links: