المادية التاريخية وعلم الأخلاق

المادية التاريخية وعلم الأخلاق

انطونيو غرامشي – قضايا المادية التاريخية

يبدو لي ان المنطق في البحث عن الأساس العلمي للأخلاقية المادية التاريخية يجب ان يكون في المقولة القائلة بأن “ما من مجتمع يطرح على نفسه مهاماً معينة إلا إذا توافرت في داخله الظروف التي تسمح بتنفيذ هذه المهام”. فإذا ما توافرت الظروف ” يصبح تنفيذ هذه المهام “واحباً”، وتصبح “الإرادة” متحررة من كل قيد “. إذ ذاك، تتحوّل الأخلاقية إلى عملية بحث عن الظروف الضرورية لإطلاق حرية المبادرة باتجاه معين -نحو هدف معين- والبرهنة عن أن هذه الظروف قائمة فعلاً. كذلك ينبغي وضع جدول بتراتب الأهداف الواجب بلوغها -لا “الأهداف بشكل عام”.- لأننا نريد أن “نرفع المستوى الأخلاقي” للمجتمع بأكمله، وليس لأفراد معزولين.

الانتقال من العلم الى الفهم الى الشعور (وبالعكس)

العنصر الشعبي “يشعر”، لكنه لا يَفهم أو لا يَعلم دائماً؛ والعنصر المثقّف “يَعلم”، ولكنه لا يَفهم ولا “يَشعر” دائماً. في الطرفين، نحد -إذن- المتحذلق ومدّعي المعرفة، من جهة، والعاطفية العمياء والتعصّب، من جهة أُخرى. هذا لا يعني أن المتحذلق عاجز عن الشعور، بل بالعكس، فالحذلقة العاطفية سخيفة وخطرة، بقدر سخف وخطورة التعصّب والديماغوجية الأكثر جموحاً. إن الخطأ الذي يرتكبه المثقّف يكمن في اعتقاده بإمكان وجود العلم، بدون الفَهم، وبدون الشعور والتحمّس خاصة (التحمس ليس للعلم بذاته وحسب، وإنما لموضوع العلم أيضاً) – أي في اعتقاده بأنه قادر على أن يكون مثقفاً فعلياً (وليس مجرد متحذلق)، إذا انعزل وتمايز عن الشعب-الأمة، إذا لم يشعر بأهواء الشعب البدائية، ولم يفهمها، ويفسّرها، ويبرّرها في الوضع التاريخي الراهن، ويربطها جدلياً بقوانين التاريخ، برؤية شاملة أرقى، تجري بلورتها اعتماداً على منهج علمي متماسك، هو “العلم”. لا تُمارس سياسة، ولا يُصنع تاريخ، بدون هذا الشعور – أي بدون هذا الرابط العاطفي بين المثقّف والشعب-الأمة إلى علاقات محض بروقراطية وشكلية، ويتحوّل المثقفون الى فئك متمايزة مغلقة (ويمكن تسمية هذه العلاقة علاقة “مركزية عضوية”).

أما إذا اتصفت العلاقة بين المثقّفين والشعب-الأمة، بين القادة والأتباع، بين الحكّام والمحكومين، باندفاع عضوي، يتحوّل فيها الشعور-الشغف الى نَهْم، وبالتالي الى علم (ليس علماً آلياً، وإنما علم خلّاق) تتولد – إذ ذاك، وإذ ذاك فقط – علاقة تمثيل، ويجري تبادل عناصر بين المحكومين والحكّام، بين الأتباع والقادة؛ أي تتحقّق الحياة المشتركة التي هي وحدها القوة. الاجتماعية الفاعلة؛ وتولد “الكتلة التاريخية”.

  • Social Links:

Leave a Reply