السلطة الرابعة : وداعاً أيها الحَبيب … مُمــــــــتاز البـــَـــــحرة ــ محمود البحرة

السلطة الرابعة : وداعاً أيها الحَبيب … مُمــــــــتاز البـــَـــــحرة ــ محمود البحرة

 

وعيت على هذه الدنيا وأنا أرى والدي ممتاز البحرة جالساً على أريكته المفضلة مرتدياً عباءة وبر الجمل البنية التي ورثها عن أبيه فعشقها وقد وضع خشبة الرسم كما كان يسميها على ركبتيه ككاتب مصري من العصر الفرعوني منكباً على رسومه ينقشها بقلمه الرصاص على الورق ومن ثم يبدأ بالتحبير بواسطة الريشة والحبر الصيني وحين ينتهي من التحبير يقوم بمحو آثار قلم الرصاص ليبدأ برحلة التلوين التي كانت تزيد رسومه أناقة فتدخل قلوبنا نحن الأطفال بلا استئذان لتحتل فيها أمكنة يصعب انتزاعها منها حاملة بهجة وسرور يصعب وصفهما.

مشاهدة والدي أثناء الرسم متعة ما بعدها متعة إذ كان بإمكانك أن ترى تعابير شخوصه تنعكس مرسومة على وجهه بحيث تستطيع أن تدرك على الفور منها فيما إذا كان يعالج وجهاً متألماً أو ضاحكاً أو مترقباً، هكذا عرفت والدي دائماً، كان يذهب صباحاً لعمله كمدرس لمادة الفنون في إحدى ثانويات دمشق وحين يعود ظهراً ينام لساعات معدودة ثم يبدأ بعدها رحلة عمله المضني التي تستمر حتى ساعات الفجر الأولى ليقوم بحلاقة ذقنه مدندناً وهو يستعد ليوم العمل الجديد، هكذا قضى ممتاز البحرة سنواته شهراً بعد شهر ويوماً بعد يوم، لم أشهده فيها متذمراً من قسوة هذا الروتين أو شدة ضغط العمل المتراكم ذي الأجر المتدني بل على العكس كان يشع مرحاً وحيوية سلوانه في رحلته هذه كانت كأس الشاي المميزة التي كان يفتخر بطريقة إعدادها المتوارث ضمن العائلة حيث إبريق الشاي المغطى بالقلنسوة المشغولة يدوياً بعناية تامة لحفظ حرارة الشاي فيما موسيقى عبد الوهاب تصدح في أرجاء المكان … يا ضفاف النيل بالله ويا خضر الروابي… هل رأيتن على النهر فتى غض الإهاب … اسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب… سيجارة الحمرا الطويلة تشتعل بين أصابعه.

استطاع والدي بمعونة أمي دفعنا جميعاً إخوتي وأنا للتحصيل العلمي المتفوق وإلى جانب تفوقنا جميعاً باختصاصاتنا العلمية زرع والدي فينا شغفنا للفن فكان أن أصبح أخي الاصغر فارس شاعراً من الشعراء السوريين المعروفين وعازفاً للقيثارة مبدعاً فيما أقامت أختي الكبرى معرض لرسومها الفنية بدمشق قبل ست سنوات وآخراً منذ بضع أسابيع في مدينة كوتبوس الألمانية حيث تقيم الآن كما أقوم أنا من حين لآخر بنشر بعض النصوص التي تعالج مواضيع متعلقة بالرسم بالاضافة لكوني رسام هاو للوحات الزيتية.

في حياة ممتاز البحرة الكثير من الجوانب التي لطالما وددت لويعرفها محبوه فقد كان رحمه الله ودوداً لطيفاً دمثاً حلو المعشر محدثاً يشدك بحديثه فتستمع إليه بكل جوارحك كما كان يحب الموسيقى العربية التراثية و الغربية الكلاسيكية والفن عموماً أما شغفه بالقراءة فقد كان يدفعه لالتهام الكتب إلتهاماً فكان يقرأ الروايات على أشكالها بل كان يستبدل حبوب المنوم عند الأرق بها كما كان يعشق كتب التاريخ فكان مولعاً بقراءة كتب أسامة بن منقذ وتاريخ الحروب الصليبية وسيرة صلاح الدين والظاهر بيبرس وأذكر كيف أشرق وجهه حين طلب منه رسم لمعركة حطين فانهال على الكتب يغرف منها ليجسدها برسومه فرسم الساقموزه، القطعة المعدنية التي يرتديها فرسان العرب لحماية منطقة ما تحت الركبة من الساق ورسم الخوذة الإسلامية المزودة بحماية الأنف المتحركة بواسطة برغي يسمح برفعها وخفضها واستعان بالكتب لمعرفة تفاصيل الأشياء كما راجع المتاحف واختصاصيي التاريخ من أصدقائه هكذا كان يندفع حماسة وحباً بعمله ويتشوق لتنفيذ الأفكار التي كان يقرأها في رسومه بحيث لم تكن مجرد رسوم بل توثيقاً للمعلومات التي كان يقرأها وفي كل مرة يتطرق فيها لموضوع ما كان يبحث بالكتب والمراجع قبل الرسم. وربما هذا ما كان يميز رسومه عن غيره بأنه كان يعد لها دراسات مطولة قبل الشروع بالرسم على الورق.

قبيل رسم لوحة ميسلون تزود بكتب عن الأسلحة المتاحة حينها وراجع اللألبسة المتداولة بهذه الفترة كما راجع المتحف الحربي وعمل اسكتشات سريعة للآليات الحربية وقابل بعضاً من المحاربين القدماء الذين عايشوا هذه الفترة ودون ملاحظاتهم وتوجه إلى موقع معركة ميسلون وعمل على دراسة تضاريس المنطقة ونباتاتها وألوان حجارتها ليجسد كل ذلك في لوحته تلك.

بالإضافة لذلك كان والدي مغرماً بالشعر قراءة وكتابة فكثيراً ما كان يتوقف عن الرسم حين يهطل المطر ليقف أمام النافذة ممسكاً بسيجارته متأملاً أنهمار المطر من الشرفة ليسارع فجأة ويمسك بورقة وقلم ويكتب بعجالة قصيدة قصيرة يصف ما رآه للتو عبر النافذة ثم يتحمس كطفل صغير فيما هو يقرأها لنا. لقد كان والدي حالماً كبيراً لكنه كان يسعى دوماً لتحقيق أحلامه عن طريق موهبته ولطالما تمنى العيش في جزيرة أرواد السورية ليرسم الصيادين فيها لكن ضغوط الحياة القاسية التي عاشها لم تسمح له بتحقيق هذا الحلم الذي بقي عصي المنال عليه.

كانت النجارة أحدى هواياته المفضلة فقد أصرّ أن يصنع لأختي أثاث غرفتها بيديه كما قام بصناعة أغلب قطع الأثاث في منزلنا من الخزن والمقاعد والكنب والقطع الزخرفية وما لم يقم بصنعه بيديه كان يصممه حسب ذوقه الشخصي ويكلف به نجاراً يقوم بتنفيذه لضيق الوقت وهكذا كان منزلنا عبارة عن متحف صغير لأفكاره الرائعة عشنا فيها ضمن مخيلته الفذة الرائعة واكستبنا منه عشقه لمادة الخشب وعروقها ونقوشها حتى أنه زاد عليها في بعض الأحيان رسومه ينقشها على الخشب لتبقى قطع متفردة تضيف على بيتنا جواً من الحميمية الخاص.

بعضاً من أصدقائي ومعارفي ممن كانوا تلاميذه في الثانوية سألني هل هو قاسٍ و صارم دائماً ألا يضحك أبوك أبداً؟ نعم لقد كان قاسياً وصارماً ولكن قبل كل شيء كان قاسياً على نفسه فكان يطالبها بالكثير وبنفس الطريقة كان يطالبنا كما كان يطالب طلابه بالكثير هكذا كانت حياته وهكذا كان فالحياة لم ترحمه حين توفي والده وكان في مقتبل العمر فاضطر لقطع دراسته بكلية الفنون الجميلة في القاهرة والعودة لسوريا بعد إنفراط عقد الوحدة بين سوريا ومصر ليبدأ من جديد دراسته من الصفر بكلية الفنون الجميلة والتي كانت قد افتتحت في دمشق في تلك السنة فانتسب إلى سنتها الدراسية الثانية بحكم كون الكلية جديدة النشأة فاضطر لإعادة تعلم كل ماتعلمه في مصر ثانية على مدى أربع سنوات وبنفس الوقت عمل على رعاية أخويه اليافعين مخلص ومحسن فساعدهما على اجتياز المراحل الدراسية الأولى ليتابعا دراستهما في الخارج محسن هندسة الميكانيك في تشكوسلوفاكيا ومخلص الإخراج المسرحي في ألمانيا لكن الحظ العاثر سدد له مرة أخرى ضربة قاصمة حين توفي أخوه مخلص عن أربع وعشرين عاماً بأسباب مجهولة في الغربة مما أحبطه بضع سنوات تخللها سجنه بسبب انتمائه للحزب الشيوعي السوري حينها حتى أن بعض الانفصاليين الناصريين قرروا إعدامه بعد محكمة ميدانية قصيرة بسبب نشره لعدة كاريكاتورات في الصحف حينها تناولت سياسة جمال عبد الناصر لكن الانقلاب الذي قام فيما بعد باللحظات الأخيرة فأقصى هؤلاء عن السلطة أنقذه كما أنقذ أصدقائه.

لم تكن حياته سهلة فقد حورب كثيراً من أصحاب القرار في الحكومات المتتالية التي كانت تتزعم الصحافة في بلدنا فكثيراً ما منعت رسومه كما منع من السفر في كثير من الأحيان فاضطر للعمل في صحافة الخارج من سوريا فكان أن عمل ورسم للكثير من البلدان العربية معتمداً على قوته بالرسم وصيته الذائع فرسم للسعودية والأردن ولبنان وليبيا وعمل في عدة صحف ومجلات ودوريات سورية وأخرى عربية كما قام بتقديم بعض المعارض بالخارج في عدة بلدان وشارك بعدة لوحات في مناسبات شتى هنا وهناك إلا أنه كان مقلاً على العموم بالرسم الزيتي إذ أن العمل الصحافي “إلوستريشن” عموماً ورسوم الأطفال خصوصاً قد شغلا أكثر وقته بحث لم يتوفر لديه الكثير للأعمال الزيتية التي كان يبدع بألوانها أيما إبداع.

عندما كنت صغيراً كانت سمعة أبي قد اجتاحت مدارس سوريا عن طريق مجلة أسامة وشخصيات كتب القراءة باسم ورباب وميسون ومازن وقد كنت أشعر بمنتهى الفخر أن شخصية مازن تمثلني فيما شخصية رباب هي أختي الكبرى فيما كان أخي الأصغر فارس يجسد شخصية الطفل الذي ردد مع سليمان العيسى خاف الأرنب قفز الأرنب أما شخصيتا باسم ورباب فكانت لأطفال في محيطنا وحين سألت والدي ذات مرة لماذا لم يمنح هاتين الشخصيتين الأساسيتين شعراً أشقراً كشعري وشعر أختي فأجاب بمنتهى الهدوء أنا أرسم لكل الأطفال السوريين ولما كنت مربياً فقد توجب علي أن أتصرف بمسؤولية وأن أمنح الشخصيات الرئيسية مظهراً ينطبق على أغلب الأطفال السوريين وإلا شعروا بالغربة حيال شخصياتي ونفروا منها وبالتالي لن يحبون كتب القراءة التي يفترض بها أن تشدهم لا أن تنفّرهم، بهذا المنطق رسم ممتاز البحرة شخوص مسلسلاته وكتبه ومنحها عيوناً بنيّة أو سوداء و شعر أسود أو خرنوبيّ لتكون محلية الطابع وتشعر الطفل بالألفة وتجعله يفتخر بمظهره، بهذه العقلية المسؤولة حاكم ممتاز البحرة رسومه، بنفس الطريقة رفض أن يصور الدماء والحروب العنيفة للأطفال بل حاول أن يتجنب قدر الإمكان المظاهر الهمجيّة لأنه كان يرى فن الرسم للأطفال رسالة ومسؤولية تربوية على كل فنان أن يدركها ويمارسها.

كانت شخصياته ناجحة و مؤثرة بأطفال جيلنا لدرجة أذكر معها حادثة حصلت معي حين كنت في الصف الرابع عندما كنت عائداً من المدرسة إلى البيت وإذا بأحدهم يدفع بي من الخلف فسقطت في حفرة من حفر الدفاع المدني التي كانت شائعة حينها على أطراف الطرقات ولما كنت صغيراً تعذر على الخروج من هذه الحفرة العميقة ذات الجدران الاسمنتية الملساء ولما نظرت للأعلى وجدت زميلي في الصف حسّان واقفاً وقفة المنتصر ممسكاً بيده حجراً ثم خاطبني مهدداً ستبقى في هذه الحفرة ولن تخرج منها حتى تبوح لي كيف تنتهي قصة الملكة سيسبان و هل ستتزوج الأمير حسام الدين أم لا وهنا يجدر بي أن أذكر أن حسان كان أكسل أطفال صفنا وأتعسهم بالقراءة ومع هذا فقد كان يقرأ مجلة أسامة بشغف منقطع النظير دفعة للإيقاع بي في هذه الحفرة لأنه لم يطق الانتظار للعدد القادم وكما تشاء الصدف ببعض الأحيان أتى والدي على دراجته النارية لينقذني من هذا الموقف بعد أن كان قد قلق لكوني تأخرت عن المنزل أكثر من العادة فمضى يبحث عني.

أتصفح اليوم الانترنت لمواساة نفسي فيما الألم يعتصرني بوفاة والدي الحبيب لأعزّي نفسي بقراءة ما كتب عنه وعن شخصياته المحببة باسم، رباب، ميسون، مازن، أسامة، شنتير، القرد ميمون … الخ لأكتشف من خلال تعليقات القراء والصحافيين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم سواء كانوا مؤيدين منحبكجية أو معارضين، عرباً، أكراد، آشور، شركس، تركمان من يسار أم يمين أتوا إلا أنهم جميعاً أجمعوا على محبته ومحبة شخصياته التي ذكرت فيكفيني فخراً أن والدي قد جمع السوريين كلهم على محبة باسم ورباب وساهم بخلق وعي جمعي للهوية السورية فشلت كل الأحزاب والحركات والمؤسسات على خلقه.
شكراً لك ممتاز البحرة.

السلطة الرابعة : الدكتور محمود البحرة

  • Social Links:

Leave a Reply