عبد الباسط الصوفي وغَرَب الفرات ــ صبحي حديدي

عبد الباسط الصوفي وغَرَب الفرات ــ صبحي حديدي

 

في أواخر خمسينيات القرن الماضي، عُيّن الشاعر السوري الحمصي عبد الباسط الصوفي (1931 ـ 1960) مدرّساً للغة العربية في مدينة دير الزور؛ وهناك كتب واحدة من أرفع قصائد الشعر السوري في تلك الحقبة: «مدينة الغَرَب»، التي نشرتها مجلة «الآداب» اللبنانية في العدد الثالث ـ آذار (مارس) 1960. كانت القصيدة تتصادى، ولكنها لا تحاكي، رائعة بدر شاكر السياب «أنشودة المطر»؛ من حيث اعتماد عنصر طبيعي أقنومي، أو أيقوني على نحو ما، لتجسيد أبعاد حسّية ومجازية، فيزيائية وميتافيزيائية، في علاقة البشر بالطبيعة، والتقاط جدل هذه العلاقة، والبحث عن منعكساتها في تفاصيل المعيش اليومي، ومعطيات المصير الجَمْعي: المطر، عند السياب؛ وشجر الغَرَب، عند الصوفي.

وعلى غير عاداته في كتابة الشعر، وربما لأنّ مناخات القصيدة ذات الكثافة العالية أخضعت الشاعر إلى إغواء التعبير بالنثر أيضاً؛ فقد نشر الصوفي قصيدته مع مقدّمة ليست قصيرة (أكثر من 600 كلمة)، لم تكن فاتنة في الصياغة اللغوية وفرادة المعجم وحرارة التعبير، فحسب؛ بل كانت فلسفية أيضاً، في التقاط علاقة الناس بهذا الشجر الذي «يخيّل إليك وأنت تتأمله أنه لم يكن سوى نتيجة روح أنثوية في طبيعة الأرض، أو نتيجة عبث قديم مبهم لتفاعل التربة»؛ وأنثروبولوجية، في منظورات شعرية: «الغَرَب يشبه نمطاً خاصاً من الرجال كانوا نتيجة قوّة باطنية تدفقهم، فيفرغون أيامهم بلا سبب معذبين ضائعين بين الخبز والخمر والأسف، يلقون ظلالهم القاتمة ثمّ يرحلون، فإذا بهم عبث حقيقي حين تعبّر الحياة عن خصوبتها وترفها».

وأيضاً: «عندما تلهث الطرق المعبدة بالإسفلت المحاذية للنهر، في أوائل الصيف، بسبب أشعة الشمس المسعورة، ينثر الغَرَب فتاتاً أبيض يتساقط بطيئاً كالثلوج، ويحسب الناظر إلى الشجر أنه يبكي بكاءه الموسمي ذارفاً دموعاً من القطن».

وفي مطلع القصيدة (134 سطراً، تتوزع على خمسة مقاطع)، يقول الصوفي: «كلّ الحقول جمرة من الذهب/ وأنت أحطاب الشتاء، يا غَرَبْ/ سرب الفراش، كالوشاح، طارْ/ والتمعتْ سنابل النضارْ/ أغنية الحصاد، هزّها الطربْ/ وفي الجباه قطرة من التعبْ/ وخلف كثبان الرمال، غارْ/ ظلّ النخيل، وارتمت قفارْ/ وبرتقاليّ اللظى، شرارْ/ فضجّ، في الصحراء، ينضح الغضبْ/ العطش القديم فيه، والسغبْ/ والشفق الكظيم، والأوارْ/ وأنت تابوت الذهول، يا غَرَبْ». ولم يكن مألوفاً، في الشعر السوري خلال خمسينيات القرن الماضي، أن يتجاسر شاعر شابّ طالع (مجموعة الصوفي الشعرية الأولى، «أبيات ريفية»، والوحيدة في الواقع، سوف تصدر سنة 1961 عن دار الآداب، بعد وفاته)، على اقتراح مجازات من طراز «تابوت الذهول»، و»تلتقي الظلال بالظلال بالظلال»، و»تدفن أشلاء الليالي والحقب»، و»انغرزت أصابع وحشية/ في مقل الشوارع القفراء»، و»انداح عمقٌ للظلال، وانسرب»، و»في رماد التبغ، والحطام/ يهرول الحلم، ويفغر العدم»، «وأنت ثلجيّ الفؤاد، والعصب/ تنام، صمغيّ الجفون، يا غَرَبْ»…

والحال أنّ الصوفي كان ثالث ثلاثة شعراء تكفلوا بنقل الحركة الشعرية في مدينة حمص، ثمّ في سوريا بأسرها أيضاً، إلى مصافّ تجديدية جذرية، في الموضوعات كما في الأشكال. رفيقاه في رحلة التجديد كانا وصفي قرنفلي وعبد السلام عيون السود، ورغم أنّ قرنفلي كان أقرب إلى الأستاذ عند الصوفي وعيون السود، إلا أنّ الثلاثة تقاربوا، وبعدئذ تكاملوا، في تأسيس حركة واحدة أنجزت غرضين كبيرين: تحرير اللغة الشعرية من إفراط البلاغة الكلاسيكية وقيودها، دون تفريط بالجزالة والفصاحة والمعجم الخصب؛ وإطلاق مدرسة رومانتيكية مثّلت واحداً من أبرز تحديات الشعر السوري في خمسينيات القرن الماضي، بالمقارنة مع مدارس أخرى ناجزة احتكرتها تيارات قصيدة الغزل والقصيدة الوطنية والقصيدة الرمزية والقصيدة الملتزمة.

غير أنّ الصوفي امتاز عن زميليه بحسّ فلسفي قلق حول معضلات الوجود، لعله نجم عن قراءاته المبكرة في أعمال نيتشه وشبنغلر، ويقينه بأنه سيزيف آخر: «في أعماقي كائن عجوز، هرم، مريض، أحمق، يرتطم الآن ارتطاماً قاسياً، على صخور تجارب وحقائق جديدة. أنا الآن في البوتقة، أريد انصهاراً كلياً لأدرك وأستطلع قابلية الإدراك في ذاتي… أريد انتصاراً كبيراً على الجزع الروحي الذي مزّقني… أريد أن أتعرى…»؛ هكذا كتب إلى أحد أصدقائه، قبل أسابيع قليلة من نجاحه في الانتحار، في كوناكري التي أوفدته إليها وزارة التربية لتدريس اللغة العربية، بعد محاولات انتحار سابقة باءت بالفشل.

وفي العودة إلى مقدّمة القصيدة، والحديث عن أهل دير الزور، يكتب الصوفي: «إن الإنسان هناك يمثّل توزّعاً قاهراً بين عالمين: عالم الصحراء وعالم النهر. فالصحراء باتساعها الرملي المتموج، وغريزة الحرّية المتأصلة فيها، تغذيه بنُبل عريق ومُثُل قديمة وامتداد متحرر، والنهر باستمراره الظافر المجهول، وبالنسغ الدائم الذي يحمله، يهبه القدرة على الاستمرار وقهر العطش. فالرجال يتطهر جوهرهم الإنساني حين يحملون جذوات الصحراء التي لا تنطفئ، ويمتلئون بالخصب المترف حين يغمرهم النهر. فهم أحفاد البداوة العربية الأصيلة في جانب، وفنانون حقيقيون في جانب آخر».

وهم هكذا، اليوم أيضاً، حين تستشهد هذه المدينة البهية كلّ يوم، بين أنياب نظام آل الأسد وبراثن «داعش»؛ فيواصل الغَرَب انتثاره العبقري من شرايين الشفق، لكي يفيض على أنداء النهر الخالد.

  • Social Links:

Leave a Reply