الرقة من العشيرة إلى المدينة: المخفر العثماني.. دويلات عابرة.. البعث والجهاديون (2-3)

الرقة من العشيرة إلى المدينة: المخفر العثماني.. دويلات عابرة.. البعث والجهاديون (2-3)

 

دويلات عابرة :

يجب أن لا تفوتنا ملاحظة ذات شأن، عزَّزت على الدوام فكرة الصراعات الداخلية، الكامنة أو المعلنة، للسكان الذين توزعوا على خارطة المكان الذي يسمى اليوم محافظة الرقة؛ وهي أن المخيال العام لدى القوى والكتل العشائرية كان يغري بالسيطرة على مركز المدينة، خاصة بعد أن تحول اقتصاد المحافظة إلى ما يشبه “كومونة زراعية”، من يسيطر فيها على أكبر قدر من الأراضي المنتجة الخصبة، هو من يمتلك الجدارة والصدارة المجتمعية،

وبعد أن بدأ قطاع الاقتصاد المرتبط بالثروة الحيوانية يتراجع إلى اقتصاد رديف وفرعي من الدرجة الثانية (وفي مراحل لاحقة بدأ يتحول إلى ما دون ذلك بكثير)، فالنشاط الزراعي استأثر بالأولوية، وأطاح بمبدأ الرعوية كطريقة إنتاج قديمة، وهذا التحول أحدث نقلة في التفكير العام، مفادها أن مَنْ يتمكن من السيطرة على المدينة فإنه بالقطع سوف يسيطر على “القرار الإداري” وعلى “المرسوم” و”التشريع” و”توزيع الأرض” و”أولوية الري”.. وميزات أخرى كثيرة يصعب حصرها.. من هذا المبدأ، كان أجلى التعبيرات التي تفسر وتعبر عن منطق الاستحواذ على المدينة، هي محاولة القبائل البدوية التي عاشت حالة من الصراع المحتدم طيلة تاريخ طويل، بينها وبين عشائر الريف الأخرى، أبرزها البوشعبان وأحلافها، وبوجه أخص عشيرة الولدة التي صادمتهم وصادموها طويلاً، في حقبة دموية لن أتعرض لها في هذا البحث..

وما يوهم بأن هذه الفكرة، فكرة السيطرة على الرقة المدينة، قد تشبعت في المخيال العام للحاجة إلى ترسيخ وتثبيت مواقع قوى متزعزعة بين العشائر، بحكم فكرة السيطرة على الإدارة العامة في المحافظة، ومن هذا المخيال الذهني تجلت حادثتان تاريخيتان، لا بد من تذكرهما، كانتا أجلى تعبيراً في تفسير هذه الذهنية؛ الأولى هي ظهور دولة “حاجم بن مهيد”، عقب تخلي الدولة العثمانية عن ولاياتها في بلاد الشام ومنها سوريا، بعد الحرب العالمية الأولى، ووضع سوريا تحت سلطة الانتداب الفرنسي. والثانية هي الدولة الغفانية، أو”فلتة 4 تموز”، وذلك عقب انسحاب الفرنسيين من سوريا، وإعلان استقلال البلاد عن فرنسا.

أجد مناسباً أن أُذَكِّر بأن الرقة قد عاشت واقعاً استثنائياً، كمدينة وكمحافظة، منذ لحظات التخلق الأولى إلى الولادة وحتى الشباب والريعان.. فلا تشبه الرقة بقية المحافظات السورية، هذا مؤكد.. أما السؤال الضرورة: فيمَ هي مختلفة؟ فيمكن إجماله بالآتي: منذ بواكير تشكل الجماعات الأهلية في الرقة، والتي يحلو لنا أن نسميها عشائر، أو قريباً من هذه التسمية، كان هاجس الثنائية الانتمائية مسيطراً مستبداً في المُخَيلة الذهنية العامة لكل الرقاويين؛ فثمة ريف مستقل التكوين، مقابل مدينة في طور الخروج عن طوق القرية وحدودها، للّحاق بالمدن المنتهية التكوين. ومنذ طينتها السكانية المُخَلَّقَة، تموضعت خلاياها السكانية الأولى التي شكلت أولى الوافدين؛ تحت مسمى (القول العشاريين)، أي أنها عرَّفت نفسها بمسميين اثنين؛ البيئة التي جاءت منها، والبيئة التي قدمت إليها، وتلا القول العشاريين بعد ذلك (القول الأكراد)، ثم تتابعت تلك الثنائية بشكل مستنفر حاد التعريف؛ فكان ثمة (رقاويون قول)، أهل المدينة، ورقاويون شوايا أهل ريف، ثم رقاويون سفارنة، ورقاويون تواذفة، ورقاويون سخاني، ورقاويون حلبيون، ورقاويين ديريون، ورقاويون أدالبة.. الخ.. هذه الثنائية أهدت هويتين في تعريف السكان الحاليين، حتى بعد ولادة ثلاثة أجيال أو أربعة لكل فصيل مهاجر إلى الرقة، وهي ضمنياً فصلت فصلاً نفسياً حاداً في المُخَيلة الجمعية غيرَ مُدرَك ولا مشعورٍ به، فصلاً يوحي للفرد، أنه مادام يحمل هويتين فهو ينتمي إلى مكانين، وبالتالي إلى زمانين مختلفين، وإن ظلا متجاورَين، يُدرَكُ أحدُهما شعورياً، ويُتوَهّمُ الآخرُ توهماً.

أضفْ إلى ذلك، ما يمكن تصورُه، أو ينتهي إليه ذلك التخيل العلائقي الفصامي في الانتماء، بالنسبة إلى طوائف وإثنيات مغايرة، لم تعرف سوى تراب الرقة موطناً ودارَ إقامة دائمة، كالأكراد الذين جاؤوا من عين العرب أو من مناطق مختلفة أخرى، أو العلويين أو الأرمن أو غيرهم.. هذا النكوص والتعارض الاندماجي في ذوبان السكان ببعضهم يشبه رفض الزيت الاختلاط بالماء، بالطبع إذا ما استوعبنا أن الزيت هو مجموع السكان، وأن الماء هو أيضاً مجموع السكان. وبالاستثناء يمكن إخراج قبيلة البوشعبان نسبياً، ومعظم عشائر الريف، خارج المعادلة الازدواجية تلك، لا في المطلق، وإنما بنسبة أكبر من مكونات المدينة وسكانها، حيث توطدت إقامتهم في مواضع سكناهم في الريف منذ باكر الوقت، وأصبح انتماؤهم إلى الأرض والقرى أكثر مما يحمله سكان الرقة من مشاعر انتماء للمدينة؛ الأمر الذي أشاع “مزاجاً فندقياً”، يوحي بأن الرقة كانت واقعاً مريحاً سهلاً هادئاً، وخارج العلاقات المعتادة والمعقدة لسائر المدن الأخرى، أو مكاناً يسهل العيشُ والكسبُ فيه بسهولة، ويمكن التوافق مع بقية سكانه الآخرين دون حذر أو مخاطر.

قامت العلاقات التي ربطت السكان ببعضهم، بشيء من التوافق المحسوب والارتباط العضوي الضروري، وموازين قوى تَحسِب حسابَ الظروف الموضوعية: السلطة أو امتياز العلاقة بالسلطة، المال، الاقتصاد، الزراعة، الثروة الحيوانية، موازين الضعف والقوة والنفوذ والكثرة أو القلة العددية، دون أي حساب للمكان، كانت جميع تلك التجمعات الأهلية في الرقة تتخاطر فيما بينها بحسبان الرقة مجرد فندق بسيط وقليل الكلفة والمؤنة، سهل العيش الرغد، ويمكن تحقيق كل الطموحات الفردية والجماعية فيه دون عوائق، وبالطبع باستثناء سكانه الأوائل(القول)، رسخ وتوطد وَهمٌ لاشعوري جمعي لعموم سكان الرقة، بطبعة المزاج الفندقي، وبأنّ لهم وطناً آخر وبيئة أخرى سواه، يسوغها مخيال لاشعوري مفترض.. (القول) الذين هبطت نسبتهم السكانية إلى ما دون ربع السكان، باتوا يتوهمون بأن الرقة هي بلد المهاجرة والوافدين، والوافدون عاشوا في ذهنية الغرباء بأن للرقة أهلها الأصليين، وأهل الريف عاشوا انتمائين مختلفين: للريف وللمدينة في آن معاً، والبدو وصلوا إلى قناعة مريرة بأن المحافظة قد تم الاستيلاءُ عليها من قبل أهلها (القول) وسكان أريافها الشوايا (كما يتصورونهم)..

بتلك القابلية المزاجية، التي يعتذر عليها التشبع المطلق في الانتماء إلى المدينة، عاشت أجيال متعاقبة، بعضُها حديثُ العهد والوصول إلى الرقة، وبعضُها الآخر قديم نسبياً، في ذهنية تبعيض الانتماء.. فهي” مدينتي حقاً.. ولكن..”، وهي لهم في شطرها أو بعضها، وليس بكليتها.. وحتى هذا اليوم، ما يزال السخني أو السفراني أو الكردي أو الأرمني أو المنبجي أو الإدلبي أو الحلبي أو الديري، الذي ولد في الجيل الثالث أو الرابع لعائلة من العوائل، ما يزال يُسَمى بكل تسمية مفترضة، ماعدا أن يطلق عليه من مواطنيه الآخرين مسمى رقاوي.. فقد ازدادت مشاعرُ تَخَلٍ واغتراب كلما تقدم الزمان بسلطات البعث التي استولت على الرقة قريباً من نصف قرن؛ مرة تبيحها لأسر دون أسر، وتضطهد وتقصي مكونات وعشائر مخصوصة، وتهب امتيازات لعشائر دون عشائر، ولطائفة أو طوائف دون بقية السكان (العلويين تحديداً).. كل ذلك عزز مشاعر وأحاسيس تُجاه المكان، أن الرقة موطنٌ لذيذٌ سهل العيش رغيده، مع وهم فصامي مُتخيَل، أنه ليس وطناً نهائياً يملك قابلية التذويب الحلولي لجميع سكانه وأفراده، كما يملك الماء قابلية انحلال الحبر فيه.

هذا المبدأ العام الذي قسم المشاعر تجاه المكان، أحدث فراغاً في الانتماء الهوياتي للمحافظة، وهو المبدأ والقانون الوحيد الذي سهّل لسلطات الأسد الأب، ومن بعده الأسد الابن، أن تتغول وتسيطر، وتفتك بالمحافظة وتبتزها، وتمصها حتى سلخ الجلد ونحت العظم، وصولاً إلى تأخر فظيع في البنية والطابع العام، قياساً إلى بقية الجغرافية السورية، فإذا تصورنا أن الرقة أكبر في مساحتها من بلد مثل دولة لبنان بمرتين، (مساحة الرقة 19,616 كلم مساحة لبنان 10,452 كلم)، وأنها تعدل من حيث المساحة قريباً من 7 محافظات سورية مجتمعة المساحة إلا بأقل القليل، بما فيها العاصمة وريفها، وهي: محافظة دمشق ومحافظة ريف دمشق (1,599 كلم)، ومحافظة اللاذقية (2,279 كلم)، ومحافظة إدلب (6,097 كلم)، ومحافظة طرطوس (1,892 كلم)، ومحافظة القنيطرة (1,200 كلم)، ومحافظة درعا (3,730 كلم)، ومحافظة السويداء (5,550 كلم). وأنها أكبر بأضعافٍ من بعض الدول العربية، كقطر والبحرين، فضلاً عن وجود سد من أكبر سدود الدول العربية فيها، ومتاخمتها لخمس محافظات سورية على حدودها، ولدولة إسلامية وعضو في حلف الناتو وشرق أوسطية كبرى هي تركيا، مع تربة وخصوبة زراعية لا توجد في كثير من دول العالم.

كل هذه الصفات التي لم ترتقِ بطابعها العشائري ونصف الريفي، المُفَوَّت والمتأخر حضارياً، إلى مدينة كبرى ومحافظة متقدمة، وهو ما جعل منها أشبه بفريسة قريبة المطمع سهلة الهضم؛ وهذا برأيي هو ما أغرى تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش” (بعد نظام الأسد)، والتي تمددت في عديد الدول المحيطة، أن تتخذها عاصمة ومركزاً؛ لميزاتها الاستراتيجية الفريدة، ولهشاشة تركيبتها السكانية المنتمية نصف انتماء، والتي توحي بأن هؤلاء العشائر، وكل المتجمعين تحت مسميات عشائر أو مهاجرين وافدين إليها، متنازلون عنها لصالح وهمِ مشاعر الثنائية المزدوجة في الانتماء إلى هذا المكان..

سوف أقتصد في استجلاء التاريخ، وأقف عند حادثة استيلاء أحد أمراء البدو من عشائر الفدعان، قبيلة عنزة، عليها، مطلع القرن العشرين، وإعلانها دولة مستقلة تحت مسمى “دولة حاجم بن مهيد”، وأحاول أن أطبق الدلالات السابقة في شيءٍ من السهولة.. فقد كان لخروج الدولة العثمانية من سائر سوريا، وتخليها عن مستوطنتها القديمة سمة تخلي السلطة المركزية عن السكان الذين يحتاجون إلى (مطلق السلطة)، لأنها حاجة حيوية في توازن التوافقات، وترجيح التفاهمات التاريخية الضابطة والمعايرة لعلاقتهم فيما بينهم بعضهم ببعض، على العيش المشترك الذي ارتضوه في هذا المكان، فسهَّل ويَسَّرَ خروج العثمانيين ظهوراً مفاجئاً لطرف قوي الإمكانات والتنظيم البشري، أن يقود فكرة السيطرة على المكان، وأن يُسَوغها لنفسه ولسواه..

في هذا المناخ، أعلنت (دولة حاجم بن مهيد)، التي استمرت قريباً من سنتين إلا قليلاً، وبعد هذا التاريخ بخمس وعشرين سنة، وعقب خروج الانتداب الفرنسي من سوريا مباشرة، قفز أعرابي ريفي اسمه “غفّان”، جمع حوله عصبة من اللصوص والفتاك، وهاجم المدينة بمنتهى اليسر والسهولة، ثم أعلن عن ظهور “الدولة الغفانية” الجديدة، والتي استمرت قريباً من أسبوع واحد قبل إعلان السلطات الحكومية الوطنية في دمشق عن تشكيل حكومة لسائر البلاد تمثل سوريا كلها بعد خروج الانتداب الفرنسي، مما أجبر “غفان” على التخلي عن حلم إقامة (الدولة السهلة) في الرقة، حيث أمر اتباعه بالانسحاب منها.. ولكن ليس قبل أن يأمر “غفان” اتباعه بحرق سجلات الدوائر الحكومية كلها، خاصة دائرة الأحوال الشخصية والسجل المدني، وبعد نهب البيوت والأسواق، ورفع علم (اقترح غفان ألوانه بنفسه) فوق السراي الحكومي القديم..

يملي علينا واجب الأمانة التاريخية، أن نذكر بأن “غفان” هذا، أمير الرقة الذي ولد من باطن المجهول، وذهب فجأة إلى باطن المجهول، بالسرعة نفسها، (والذي ينتمي نسباً إلى العفادلة، فخذ الموسى الظاهر)، قد تحضر للمغامرة التي خطط لها، أو ارتجالها ارتجالاً، واستعد للمهمة الجسيمة التي أخذ قرارها بنفسه باستباقات ملفتة؛ منها أنه اتخذ شاعراً خاصاً به، كعادة الأمراء وكبار القوم، أسوة بسلفه (الأمير حاجم بن مهيد)، الذي سبقه في التخطيط للإمارة في الرقة بخمس وعشرين سنة، حيث عيّن حاجم بن مهيد شاعراً خاصاً اسمه ” صعيجر” ، أوكل إليه أن يروي تاريخه، وأن يمتدح أمجاده شعراً. كذلك الأمر مع “الأمير غفان” الذي عين شاعراً اسمه “خلف الكريدي”، وقد مدحه هذا الشاعر بعدة قصائد هامة جرت على ألسنة الناس فيما بعد. كما يُمتدَح “غفان” أيضاً عند بعض العامة، بأن أول قرار اتخذه، بعد سيطرته على الرقة، هو أمرٌ منه بتحطيم أقفال السجن وإطلاق جميع المساجين من داخله، دون مراجعة أو نظر في جرائمهم.

كلُّ هذه الفوضى العارمة التي أعقبت خروج المستعمرين الفرنسيين من البلاد، بات يتعارف عليها بلغة السكان ومصطلحاتهم، تحت مسمى “الدولة الغفانية أو فلتة 4 تموز”.. والأمر نفسه سوف يتكرر في حادث تاريخي مشابه، هو الإعلان عن سقوط نظام الاسد في المحافظة وتحررها من السلطة الديكتاتورية، حيث استعاد تاريخ الرقة القديم سيرته، واستأنفها في بعض الفوضى الجزئية القريبة المشابهة لسابقاتها، وهو ما تكرر أيضاً بعد سيطرة ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على جزء من ريف الرقة، وما سوف يتكرر مستقبلاً ـ كما نتوقع ـ عقب سقوط دولة داعش في الرقة.

حاجم بن مهيد من 1918 ـ 1921:

حاجم بن فاضل بن صالح بن خثعم بن مهيد (1927-1869)، هو شيخ فدعاني من قبيلة عنزة، نشأ یتیماً بعد وفاة والده، وترعرع في بیت ابن عمه، وزعیم عشیرته (الشیخ تركي بن جدعان)، ولا شكَّ بأن نشأته في بیت هذا الزعیم القبلي القوي قد أفادته كثيراً، فلقد استلهم خبرات ابن عمه المحنك، وتعلم مواهبه واستفاد من نصائحه، فكسب احترام الجمیع وتقدیرهم.

رحل ابن عمه تركي، مخلفاً وراءه طفلین صغیرین هما: (مجحم و محمد)، وكانت التقالید العشائرية تقتضي بأن یتولى أكبرهما الزعامة بعد والده، ولكن صغر سنَّيهما منعت من قیام أكبرهما، مجحم، بمهام الزعامة والمشیخة. فاجتمعت الأسرة بدعوة من أم تركي، جدة الطفلین، واتفقوا على تنصیب (حاجم بن فاضل بن مهید) شیخاً وزعیماً عليهم، یتولى أمور العشیرة ویدیر شؤونها ریثما یكبر الطفل مجحم ویبلغ رشده. وكان حاجم يومذاك في التاسعة عشر من عمره، حین تم هذا التنصیب.

تزوج الشيخ حاجم بن مهيد عدداً من النساء، جرياً على عادة مشايخ البدو، إحداهن بنت الشيخ (فارس الجربا)، من قبيلة شمر. وبعد أن شبَّ ابن عمه (مجحم بن مهید)، وأصبح مؤهلاً للزعامة، تنازل له عنها، إلا أن فریقاً من قبیلته ظل تابعاً له.. كما شارك في احتفالات خروج العثمانيين من البلاد، ورفع العلم العربي في المنطقة، وبعدها خلع عليه الشريف حسين أيضاً لقب “باشا”.

كانت الرقة آنذاك تسمى في التقسيمات الإدارية (قضاء الرقة)، وتتبع رسمياً لولاية حلب، ولما شاع الخبر بين الأهالي باستسلام حلب ودمشق للفرنسيين، تعاهد بعض الأهالي، بالتوافق فيما بين العشائر، على الاستقلال عن حلب ودمشق، وعدم التسليم بسلطات الاحتلال الجديدة، وتوافقوا على تسليم الشيخ حاجم بن مهيد السلطة، وتشكيل ما أطلقوا عليه اسم: (اللجنة الإدارية)، وجاءت أخبار معركة ميسلون واستشهاد يوسف العظمة، لتزيد من إصرار الناس على المقاومة وعدم التسليم للمحتل الجديد، والبدء بحركة مقاومة تحاول أن تتمدد نحو دير الزور وحلب لإجبار الفرنسيين على التراجع والخروج من البلاد، وأصدرت اللجنة الإدارية بياناً مطولاً تلاه الشيخ حاجم بنفسه، وقد توجه فيه بالخطاب إلى الفرنسيين، جاء فيه: (..وعلیه نحن سكانمنطقة الرقة المحدودة، شرقاً نهر الخابور، وغرباً جرابلس، وشمالاً الخط الحدیدي، قبل بلدة السخنة، قررناالاحتفاظ بهذه المنطقة ريثما یتقرر مصیر البلاد، وقد اخترنا المناداة بالأمیر (حاجم بن مهید) رئیساً لها باسم (رئیس الحركة الوطنیة)، وعلى الرئیس المذكور أن یكون الحكم في المنطقة شورى، بمجلس یختاره الشعب، ویصدر الأوامراللازمة والأحكام. وقررنا الدفاع عن هذه المنطقة، وإذا مست الحاجة، محالفة إحدى الدول المجاورة التي نختارها. على أن نبلغ هذا القرار إلى جمیع الدول بواسطة قنصل أمریكا الموجود في حلب).

أعلن الأمير حاجم بن مهيد بلسانه أمام كل أهالي المنطقة عن تشكيل حكومة وطنية مستقلة، وأن الفرنسيين هم (أعداء الدين والوطن)، بتعبيره.. ودعا إلى تشكيل جيش وطني للدولة الناشئة يقوده هو بنفسه، بعد أن تم منحه (رتبة لواء)، من قبل اللجنة الإدارية.. وقسم أفراد جيشه إلى قوتين:

الأولى : الجيش النظامي المتجهز دائماً للقتال، وتعداده ألف مقاتل.

والثانية : هي ما دعوه يومها بالعناصر الذين يسمون “زكرت”، أو”زكرتية”. وهؤلاء يتداعون ويبادرون إلى القتال عند الحاجة حين يدعون للمجابهة والمعارك. كما أن الزكرتية يقومون بمهام القوة المسلحة التي تقتضيها الحاجة في حالات السلم. إضافة إلى المتطوعة الذين يفدون من الأرياف والقرى استجابة لأي نداء يدعون إليه.

كان للجیش الذي أعلنه الأمير حاجم معسكرات خاصة، فلا یُدخل إلى المدینة، تفادیاً للمشاكل، ولا یتدخل الجیش في أي أمر من أمور (الإدارة المحلیة المدنیة)، والتي تولاها أعضاء (لجنة الحركة الوطنیة).. كل هذه الترتیبات كانت تتم وفق تشاور بین المعنيین بالأمر، على رأسهم الشيخ (حاجم بن مهید)، بعد الرجوع إلى الأهالي ورؤوس العشائر وأخذ مشورتهم. لكن الحكومة الفرنسية لما تأبه كثيراً لكل هذا الذي كان يجري في الرقة، ولكن بعد أن اتضح التعاون والمعاهدات التي جرت بين تركيا ودولة حاجم بن مهيد، (حيث اتفق الطرفان على أن تقدم تركيا الدعم العسكري المطلوب لمقاومة الاحتلال الفرنسي).. عند ذلك تغير الموقف الفرنسي غير المهتم بواقع ما كان يجري، فأصدر “الجنرال غورو” القرار رقم/367/ بتاريخ 21/ايلول عام 1920، والذي يعلن فيه إدخال كامل المنطقة التي يسيطر عليها حاجم بن مهيد تحت ظل الحكومة الفرنسية، لكن هذا القرار رُفض رفضاً قاطعاً من قبل الأمير حاجم بن مهید وأعوانه ومناصريه، مما دعا بالجنرال الفرنسي “دولامرت” إلى دعوة الأمیر الحاكم إلى المفاوضة، وكان العرض المبدئي أن تتعهد قیادة الجیش الفرنسي بدفع رواتب جیش الحركة الوطنیة، ورواتب كل القوى المنضوية تحت إمرته أو إمرة قیادة حاجم بن مهید، وأن تكلفه بحمایة الحدود الشمالیة السوریة من الأتراك.. كما تتعهد بأن تدفع إلى رئیس الحركة الوطنیة منحة مستعجلة، قدرها مائة ألف لیرة عثمانیة ذهباً، ولكن رد حاجم كان حاسماً، وأجابهم بأنه لم یقم بهذه الحركة ابتغاء مال أو منفعة زائلة، بل دفاعاً عن فكرة آمن بها..

أمام رفض حاجم وحكومة دولته العرض، قررت حكومة الانتداب الفرنسي توجیه حملة عسكریة للاستيلاء على هذه المنطقة بالقوة، والقضاء على الحكومة الوطنیة في الرقة، وفي أیلول من عام 1920، وصلت الحملة إلى الرقة، مصحوبة بالمدافع وأربع طائرات، فاستخدم حاجم بن مهید الحیلة في تأخیر الصدام الأول مع الفرنسیین، وأرسل إلى الجیش التركي یطلب مدداً؛ يتعهد فيه الأتراك بدفع رواتب جنود حاجم، فبعثوا له 250 جندياً، ومبالغ مالية وأسلحة، لرفع معنویات أهالي المنطقة.

ابتدأ الصدام المسلح، وانطلقت قذائف الفرنسیین، وبدأ الرد من حاجم وأنصاره، ومعهم بضعة مدافعين أتراك، واستمرت المناوشات أشهراً بين الطرفين، وانتهت المعركة بإعلان انتصار جزئي لقوات حاجم، وتحقق انسحاب الفرنسیین، عدا طائراتهم التي كانت تلقي قنابلها على بلدة الرقة بشكل یومي، حتى اعتاد الناس علیها، فكانوا یختبئون حین یرونها مقبلة، وإذا أدبرت خرجوا ساخرین منها.

لم يكتفِ حاجم بن مهيد بهذا الانتصار الجزئي، وإنما قرر أن یطارد الحملة الفرنسیة إلى دیر الزور لمحاربتها، وطلب من الأتراك مدداً، فأشار علیه قائد الجیوش التركیة فيما بین النهرین، محمد نهاد باشا، بأن یتجه بجیشه إلى حلب لقطع خطوط تموین الفرنسیین، واحتلال ضواحي حلب، ووعده بمساندته بألف جندي إضافي. وفعلاً بدأ حاجم زحفه الكبیر إلى حلب بجیش ضخم قوامه خمسة آلاف محارب، واستولى على عدة مناطق في طریقه، من بینها منبج، وحقق انتصارات سریعة ومذهلة جعلت اسمه معروفاً في سائر أنحاء البلاد السورية، حتى وصل مشارف حلب، وبدأت الاشتباكات بینه وبین الجیش الفرنسي المنظم، على أمل أن یصل المدد التركي المكون من ألف جندي، إلا أن الأتراك خذلوه وتخلوا عن وعدهم له، بعد أن سارعت الحكومة الفرنسية إلى تنظيم اتفاق سري ومعاهدة دولية تقضي بوقف الإمدادات عن حاجم بن مهيد، فتابع خوض المعركة اليائسة وحده دون عونٍ أو مدد.

نوهتُ فيما سبق، بأن الأمير حاجم بن مهيد كان قد شيد داراً خاصة بالحاكم والإدارة في الرقة، وقد رفع علم الثورة العربية الكبرى، واتخذ مجلس أعيان بمثابة برلمان مناطقي مؤقت. كما كان له شاعره الخاص للإشادة به ولمدحه، اسمه “صعيجر”، وهو الذي اشتهر بهجاء أعداء الأمير، وأعداء الفدعان والبدو عامة، من كل العشائر والقبائل، وبوصف المعارك التي يخوضها الأمير حاجم، والحث على مناصرته والتحميس له. للأسف الشديد لم يتم توثيق جميع أشعار هذا الشاعر، التي تروي وتسطر تاريخ تلك المرحلة، فقد ضاع معظمها في ثنايا النسيان والإهمال.. من ذلك ما اشتهر على لسان صعيجر، وما يُروى لدى عامة السكان حتى اليوم من أشعاره البدوية السافرة التحدي، حيث يقول مخاطباً الجنرال “آروش”، القائد العسكري الفرنسي الذي أقدم على مهاجمة الرقة لانتزاعها من نفوذ دولة حاجم بن مهيد:

 

“آروش”واشْ لك بـ”الطنايا” * توزيهم عَ الهوشة وزا

تـحَـسّـبْـهُــمْ لـمـةْ شــوايـا * كـلْ يوم تَحطّطهمْ جزا

الـرگـة مـا فـكـت وسـيـجْ * و”القولي”ماعمرو غزا*

 

{*آروش: اسم قائد الحملة الفرنسية التي اقتحمت الرقة ـ واش لك: ماذا تريد منهم، أو ماذا لك عندهم ـ الطنايا: اسم جيش أو مجموعة قتالية بدوية، كانت محمولة على إبل يسمونها الطنايا، وقد نزل هؤلاء المقاتلون قرب قرية المعيزيلة، فقامت الطائرة الفرنسية بقصفهم، حيث قتلت عدداً من النوق وأصابت بعض المقاتلين ـ توزيهم: تجبرهم وتضطرهم ـ الهوشة: المصادمة والقتال ـ وزا: مفعول مطلق لفعل توزيهم ـ تحسبهم: تظنهم ـ شوايا: من عشائر ريف الرقة من غير البدو ـ تحططهم: تجبرهم بالإكراه ـ جزا: إتاوة أو غرامة تدفع بالإكراه ـ وسيج: وثيق، وهو الأسير؛ أي أن سكان المدينة(القول)لم يقاتلوا يوماً، ولم يفكوا أسيرهم من عدوهم، فلا تغترّ وتحسب أن سائر الناس مثلهم.. ويُلحظ ما في معاني الأبيات من لهجة تحدٍ للفرنسيين، واحتقار وتهديد ووعيد يشمل الجميع؛ الفرنسيين وأهل المدينة وريفها}.

أبدى جیش حاجم بن مهيد مقاومة منقطعة النظير في مواجهة الفرنسيين، لكن الطائرات الفرنسیة ألقت على هؤلاء الفرسان قنابلها المروعة المدویة، محدثة هلعاً في صفوف الجیش البدوي القوي الشكيمة، وفزعاً في قلوب الخیل والفرسان، الذين كان بعضهم مايزال يستعمل السيوف القديمة، مما اضطر جیش حاجم إلى التقهقر، بعدما كادت مدینة حلب أن تسقط على یدیه. وفي ذلك یقول الشاعر صعیجر، منوهاً بميزان القوى المختل والمتفاوت بين الطرفين:

 

طیارتنْ فو گنا حامت * ذبّتْ على الجیشْ بمـباتي *

والبارحْ العـین مانامت   ماتدري الصبح وش یاتي ـ {*بمباتي: قنابل ـ ذبَّت: ألقت}

 

عاد حاجم بن مهيد إلى الرقة، وقد فقد الثقة  بالأتراك، ويأس من النصر، وشعر بأنه ليس بمقدور جیشه المتواضع العتاد والإمكانات أن يقوى على مقاومة جیش المحتل الفرنسي، والذي كان يملك أحدث وسائل الحرب من طائرات ومدافع، وقد سبقت وصوله إلى الرقة الأخبار السیئة المتصلة ببنود الاتفاق بین تركیا وفرنسا، على ترسیم الحدود المرسمة في اتفاقية سايكس بيكو، وإقرار تركيا بها، وذلك ما حصل في(معاهدة أنقرة) الموقعة في 20 تشرین الأول من عام 1921، وفي 17 كانون الأول من عام 1921، عبرت قوات الكولونیل “دو بغوار” نهر الفرات نحو الرقة، فلم تلقَ أیة مقاومة، وتلاشت دولة حاجم بن مهيد بعد أن استمرت خمسة عشر شهراً رفرف خلالها علم الفرنسيين في سائر أرجاء سوريا، ماعدا في سماء الرقة، حيث “دولة” حاجم بن مهيد التي استعصت على الاحتلال.

قررت السلطات الفرنسیّة محاكمته في مدینة حلب، ولكن ابن عمه الشیخ “مجحم بن مهید” توسط له، واستقر في منطقة (عین عیسى)، واضطر بعدها مكرهاً أن يوقع صك الاعتراف بالانتداب الفرنسي في عام 1922، وعاد یمارس نشاطه القبلي حتى تاريخ وفاته عام 1927، ويقال بأنه عاش السنوات الاخيرة من بقية عمره ومعه حاشیة من أتباعه وأقاربه منزویاً ومبتعداً عن الأحداث السیاسیة، بعدما امتلأ بمشاعر خیبة الأمل مما رآه من تخاذل مَن كان يأمل مساندتهم له. ويذكر بعض الرواة أنه دفن في قرية”عين عيسى”وأن قبره هناك.

التاريخ لا يمزح مزحات غير مقصودة: (مدخل وخلاصات عامة):

ثمة العديد ممن حاول أن يخلص إلى مجمل أسئلة حول إعادة قراءة تجربة دولة حاجم بن مهيد، ومصادرة نتائج تقريرية من خلال أحكام قيمية مسبقة؛ هل يمكن أن نعدَّ إمارة حاجم بن مهيد حركة وطنية مبكرة ومتفتحة على وعي وطني شامل؟ مقابل آخرين أيضاً؛ استبقوا تلك المصادرات ذاتها، بالحكم على التجربة بأنها نوع من نزوع انشقاقي عشائري الطبيعة، مدفوع الهمة والنوايا إلى السيطرة على مقدرات الرقة، لصالح نفوذ قبلي لا يحمل أية قيمة تحررية لأهالي الرقة، وبدعم لوجستي من تركيا الكمالية، وفي أرجح النوايا التي يمكن أن تزن التجربة بميزان المعجبين بها، وفي أعلى قيمة ووزن يمكن ان توزن بها، لا تخرج عن الوصف بكونها تمرداً عشائرياً فقير المضمون، وحدثاً عشوائي الدلالة، لا يمكن أن يصنف إلا بمصنف العمالة والخيانة لدولة أجنبية، دون أي هدف أو محتوى وطني تحرري. فهل يكمن إعادة تقييم الحركة اليوم؟ وهل الإقرار بوصفها حركة عميلة للأتراك، ذات منزع لا وطني، هو إقرار موضوعي كما يستنتج آخرون؟

المسألة يمكن النفاذ إليها ببساطة شديدة، إذا توافقنا على تنحية مدلول” الوطنية” ومعناها الملتبس، لا قبل قرن مضى من الزمان، بل وحتى في يومنا هذا.. فإن تكون الوعي السياسي، والنظرة الشاملة إلى مضمون الوطن والدولة، بكونهما شيئاً مكتمل التعريف وواضح المعالم والسمات في تلك الآونة، لا يمكن الحكم عليه إلا بأنه إسراف وتسرع في استخلاص قيمة كل حدث، وفي استقصاء النتائج وقراءتها.. في مجتمع كان فيه مفهوم الوطنية بحد ذاته (وما يزال)، مسمىً ملتبساً، بل الأدعى إلى الدقة، أن يُصطلح عليه بمصطلح “غير المتمايز” عما سواه.. فلقد احتوى الوعي الاجتماعي العام، منذ قرن وما يزال حتى اليوم، كل عناصر ثقافة الماضي (ثقافة الحضارة الإسلامية الناشبة في التاريخ المتنوع، والمتعدد الخصائص وسمات الوعي)، وثقافة الوعي المعاصر (الوعي بالحداثة ومفهوم الدولة الحديثة، والتطور التاريخي للرأسمالية الحديثة والليبرالية، ابتداءً من الحربين العالميتين وحتى اليوم)، ونزعة إنجاز المستقبل بناءً على هذا الوعي..

تاريخ هذه المنطقة ابتداءً من وصول محمد علي باشا إلى السلطة في مصر، وانتهاء بالموقف العام من الانتداب الغربي والاستعمار الاستيطاني الكولونيالي المعاصر، وانبثاق الثورات الاشتراكية خلال القرن العشرين، وصعود الديمقراطية ومؤسسة الدولة الحديثة، كل ذلك لم يكن شيئاً” لامفهوماً”، بل”لامتمايزاً” بالأحرى، في مستوى الوعي الشعبي والثقافة النخبوية، وأكثر منه أن ثقافة شعوب الشرق الأوسط قد “زامنت”في الخلط بين ثقافات الماضي المنقرض، الذي لم تستطع حتى اليوم أن تعمل على تصفيته التصفية الكاملة، مع مفاهيم الحداثة والعصر، والوعي بالتطور التاريخي للأمم الحديثة وهي تمضي في سيرها نحو المستقبل.

هل كان حاجم بن مهيد وطنياً يتصدى لاستعمار بلاده المستهدفة من قبل الفرنسيين؟ أم كان عميلاً للأتراك؟ يستعمل عشيرته، وبعض عشائر البدو، وكثيراً من النوايا الطيبة المختزَنة في عواطف بعض المكونات الأهلية الرقاوية والعشائرية لغايات مخصوصة؟ أم أن القوم كانوا دون ما نحسب ونظن بكثير؟ وأن الوطنية في تلك الأيام كانت خلطة تجمع العشيرة بمكونات الماضي الديني وما يمليه من الواجب الأخلاقي؟ في العموم أجدُ بؤساً في السؤال وفي الجواب عليه، كما أجد بأن هذا ليس سؤالاً، وليست الأجوبة التي تترتب عليه، تحمل معرفياً وموضوعياً، سمة الجواب.. كما أنه لا يجب أن يفوتنا بأن عشائر البدو عامة، وعشيرة “عنزة” خاصة، قد وجدت نفسها تعيش فراغ السلطة، وفراغ النهايات والمآلات التي يمكن أن تفرزها الحرب الأولى، ولذلك فإن انقسامها إلى قسمين أو جناحين، قد تمَّ بالتراضي والتوافق وفق خطة “تبادل الأدوار” والبدائل المحكمة؛ خطة تقضي بأن يقف أبرز طرفيها مع الأتراك، ويقف طرفُها الآخرُ منحازاً إلى الحلفاء.. فإذا انتهت النتائج إلى فشل أو وهن يمكن أن يُطوّح بنتائج الحرب العالمية الأولى لصالح الأتراك، فإن الجناح الذي انحاز إلى الأتراك سيكون فائزاً بالغنيمة وضامناً لهيمنة العشيرة ونفوذها المُبَيَّت له، وإذا نجح الحلفاء الغربيون في حصد نتائج النصر في هذه المنطقة، فإن الجناح الآخر هو من سوف يضمن النصر في كلا الاحتمالين وكلتا الحالتين؛ وللأمانة فقد مضت هذه الخطة في ازدواجية الولاء بنجاح منقطع النظير؛ فانحاز “حاجم بن مهيد” ومناصريه إلى الأتراك، وانحاز ابن عمه “مجحم بن مهيد” إلى الفرنسيين، وحين توقف دعم الأتراك لحاجم، وقاربت انتفاضته المناوئة للفرنسيين حافة التهلكة والهزيمة؛ ضمن الجناح الآخر، جناح “مجحم بن مهيد” نصراً وفوزاً سياسياً، باصطفافه إلى جانب الفرنسيين، كما ضمن عفواً عاماً عن ابن عمه المتمرد، حاجم، بعد أن حكمت عليه إحدى المحاكم الفرنسية بالإعدام.

والأمر نفسه تكرر عام 1956، بعد ذلك التعارض الحاد بين حزبي السلطة الرئيسيين في سوريا؛ الكتلة الوطنية وحزب الشعب، حيث خطط الوزير والنائب البرلماني عن مدينة دمشق “منير العجلاني” مع قوى عربية وأجنبية، للانقلاب على النظام القائم في سوريا، لصالح فكرة ضم سوريا إلى العراق في وحدة اندماجية، مقابل ذلك كان “النوري بن مجحم بن مهيد”، الذي ورث زعامة العشيرة عن أبيه، وأصبح نائباً في البرلمان السوري ممثلاً عن عشيرته وكتلة عشائر أخرى،  ولقد استطاع أن يضمن حصة خاصة به وبعشيرته، تقضي بفصل الرقة عن سوريا، وتشكيل إمارة بدوية مستقلة عن دولة الوحدة المقررة، ولقد اتفق مع عدد من الدول الداعمة للانقلاب على كامل تفاصيل ذلك الانشقاق، وعلى مباركة وتأييد من حزب الشعب حينها على هذه النية (1)..

الشيخ نوري بن مجحم بن مهيد، 1939

الشيخ نوري بن مجحم بن مهيد، 1939

تمَّ يومئذ بناء دار للإمارة المخصصة للحكومة الموعودة و”للأمير نوري بن مهيد” وحاشيته في الرقة، وكان ذلك البناء بمقاييس مستوى ودرجة الرقي العمراني الذي وصلت إليه الرقة آنذاك، يعد باسقاً فخيماً، وملفتاً للنظر من قبل الأهالي، حيث كانت دور أهل الرقة وجدرانُها بالكامل، مشادة من الفَخار والجص والطين، وحيث الأسقف تصنع من أعمدة خشبية وصلصال من غضارة طينية، كان البناء (قصر الإمارة للنوري بن مهيد)، داراً واسعة مبنية من الحجر الأبيض الثمين، وتحتوي تلك الفيلا مسبحاً وحدائقَ ذات ممرات وعرائش وأسيجة، مما لم يعتد على بنائه وسكناه حتى أثرياء الرقة في ذلك الزمان، ولكن ما لبثت الحكومة أن وضعت يدها سريعاً على الخطة المبيتة، وسرعان ما تم اعتقال عدد من النواب والوزراء والضباط المشاركين في المؤامرة، وحُكم على بعضهم بالإعدام، وعلى آخرين بالسجن لمدد طويلة مختلفة، فكان من قدر النوري بن مهيد، الذي استشعر الخطر بعد تكشف المؤامرة التي خطط لها حزب الشعب وقوى التنفذ فيه، أن قرر الفرار من المنطقة كلها إلى الأبد، والرحيل نحو السعودية، فوهب مؤقتاً دار الأمارة الثمينة والفخمة، والتي شادها لتكون قصر الأمارة المزعومة، إلى أحد موظفيه ومساعديه من عائلة “الكعكجي”، لتظل تحت حمايته على أمل فرصة سانحة في المستقبل، أو نافذة للعودة إلى الرقة قد يسمح بها الزمن مرة أخرى.. ومنذ ذلك التاريخ، وحتى يومنا هذا، مايزال ذلك البناء (الذي شُيِّد بأموال حلف الأطلسي)، قائماً في الرقة، في الزاوية الشمالية الشرقية لدوار الساعة، والأهالي يتعارفون عليه بمسمى:”عمارة الكعكجي”..

مصادر البحث :

1- فيما يختص بهذه القضية، نشرت جريدة “الإنشاء” الدمشقية يوم 24 كانون الأول عام 1956 الخبر، وفيه تفاصيل المحكمة الخاصة بالقضية، وذلك بمحاكمة كل من: الوزير الدكتور (منير العجلاني) {تم توقيفه}، نائب حمص الوزير الدكتور (عدنان الأتاسي) {تم توقيفه}، الزعيم الدرزي (فضل الله جربوع) {تم توقيفه}، زعيم الحزب الوطني، النائب والوزير (ميخائيل إليان)، الضابط (صبحي العمري) {تم توقيفه}، الزعيم الدرزي (زيد الأطرش)، المربي الدكتور (عدنان العاندي) {تم توقيفه}، النائب والوزير وصاحب جريدة النضال، الدكتور (سامي كبارة) {تم توقيفه}.

المحكمة طلبت الإعدام لكل من الرئيس السابق (أديب الشيشكلي)، وزعيم البادية (هائل سرور) {تم توقيفه}، وحاكم جبل العرب الأمير (حسن الأطرش) ، و (سعيد تقي الدين)، أحد زعماء الحزب السوري القومي الاجتماعي، {لايزال فارّاً}، قائد حركة الضباط السوريين الأحرار في العراق، الضابط (محمد صفا) {تم توقيفه}، الضابط السوري (محمد معروف) {لايزال فارّاً}، الضابط السوري (غسان جديد)، أحد أركان الحزب السوري القومي الاجتماعي {لايزال فارّاً}، الضابط في الجيش السوري (صلاح الشيشكلي) {لا يزال فارّاً}.

كما طالبت المحكمة بالحكم ثلاث سنوات لنائب حمص الوزير (فيضي الأتاسي)، ونائب دمشق (عادل العجلاني) {تم توقيفه}.. ولائحة أخرى طويلة من الأسماء.

2- عشائر الشام، أحمد وصفي زكریا، دار الفكر.

3- أحادیث العشیات، د. عبد السلام العجیلي.

4- بطولات عربیة على ضفاف الفرات: (فرنسا، بريطانيا، تركيا) 1945-1516، إبراهيم علوان، دار الفكر اللبنانية.

5- البدو، ماكس فون أوبنهايم. تحقيق: ماجد شبر، دار الوراق، لندن.

  • Social Links:

Leave a Reply