جيش لبنان الأخضر والقداسة الزائفة ــ مالك داغستاني

جيش لبنان الأخضر والقداسة الزائفة ــ مالك داغستاني

 

يذكر الجميع، وقبل أن ينكشف كل غطاء، حين كان حزب الله اللبناني يمتلك تلك الهالة القدسية لدى معظم الجمهور المحلّي والعربي عموماً، يوم كان مترفعاً عن الخوض في السياسات اليومية، ولم يضطر لأن يأخذها بيده بوجود جيش الأسد في لبنان، وكيف كانت الأصوات تتطاير في سماء الفضيلة عندما كان يتجرأ أحد ما على المساس بحزب المقاومة وسيده سيد المقاومة. حيث شُكِّلت شبكة مدروسة لمحاصرة كل من يوجه أدنى انتقاد إلى الحزب الإلهي المقاوم.

بدأ الأمر يومها مع تعهيد حافظ الأسد وبالتنسيق مع الإيرانيين مقاومة إسرائيل لحزب الله حصرياً. ليصبح منذ تلك الفترة عميلاً ومتجاوزاً للخطوط الحمر كل من تسول له نفسه أو قلمه أو حتى لسانه ليس دراسة ظاهرة هذا الحزب وتكوينه وموارده المالية، بل وحتى الاقتراب منها كظاهرة سياسية قابلة للتحليل.

أصبح الحزب في تلك الفترة وبطريقة مدروسة ظاهرة إلهية. كان يتوجب على من يذكر اسمه أو اسم سيّده، سيد المقاومة أن يُشعر الآخرين أنّ روحه تنحني قداسةً كما مع لفظ الجلالة، فالحزب أصبح خطاً أحمر بحسب الكثير من السياسيين والمحللين والباحثين الاستراتيجيين الذين شاركوا جميعاً في رسم ذاك الخط الذي أوصل الحزب إلى ما هو عليه الآن.

على الدوام كان هناك صراعاً مستتراً وأحياناً ظاهراً، بين مؤسسة الجيش الممنوع من الاقتراب من الجنوب اللبناني قبل عام 2006 وحزب المقاومة الإلهي. وكان الاستخفاف بالجيش وحتى التشكيك بوطنيته أو على الأقل قدراته، شائعاً وسط النخب السياسية المندرجة ضمن تيار (المقاومة) وجمهورها العريض.

فيما بعد، وحين بدأت التسويات السياسية لبنانياً، بدا وكأن حزب الله ومشغليه السوريين والإيرانيين قد اطمأنوا أن الجيش اللبناني قد دخل شيئاً فشيئاً تحت عباءة المحور الإيراني وظاهرياً تحت عباءة حزب المقاومة وسيّده. عندها انقلب الموقف من هذا الجيش لتبدأ ذات الجوقة المشككة فيه برسم الخط الأحمر حوله بصفته مؤسسة وطنية فوق النقد.

للمفارقة فإن ارتباكاً كبيراً أصاب مشايعي الجيش السابقين، والذين طالما نادوا أن السيطرة العسكرية في لبنان وحيازة السلاح يجب أن تكون محصورة بجيش لبنان الوطني. هؤلاء الذين طالما طالبوا بأن يكون الجيش خطاً أحمر بصفته الجهة المسلحة الوحيدة الشرعية في لبنان، انقسموا اليوم. بين من هو فرح بهذه السطوة (الشكلية) للجيش اللبناني المدعوم (مقاوماتياً) حيث تحقق حلمهم وبات جيشهم الوطني خطاً أحمر، وبين من اكتشف اللعبة الجديدة ويريد الفكاك منها والانسحاب ومن خطها الأحمر، ولا يدري إلى ذلك سبيلاً.

ما جرى أمس في مخيمات “عرسال” فتح الجرح على نقاش اللون الأحمر، خصوصاً بعد الأنباء المتواترة عن عدد لم يحدد بعد، من الضحايا السوريين الذين اعتقلوا من المخيمات وقتلهم جيش لبنان الوطني المزنر بالخطوط الحمر تحت التعذيب.

الحادثة ليست عارضة في لبنان، أو يمكن المرور فوقها. ففي سوريا كان يمكن دوماً لجيش الأسد ومخابراته أن يقتلوا ما شاؤوا من السوريين، دون الاكتراث للرأي العام، ودون الشعور بالحرج في أن يدفنوهم في مقبرة جماعية ما، وحتى أن ينكروا اعتقالهم. أما في لبنان فلم تترسخ بعد تقاليد القتل على هذا النحو.

ارتباك عام يسود المشهد اللبناني، وخاصة الحكومي، اليومي. ولم ينجو من الارتباك في التصريحات حتى بعض من كانوا يعتبرون من الأعداء الأشداء لمحور المقاومة، فالخط الأحمر يحمل القداسة والدوس عليه مغامرة لا تحمد عقباها دائماً، وكذا السكوت عن جريمة بهذا الحجم. جريمة علنية تعتبر سابقةً في الدوائر الرسمية اللبنانية.

إنه حقاً يوم الاستحقاق اللبناني الأهم، فالسوريون الذين اعتادوا الموت تحت التعذيب سيصرخون قليلاً ويبكون قليلاً وهم يدفنون ضحاياهم. أما اللبنانيون، أقصد المتمسكون بالحقوق والكرامة الإنسانية وعدم جواز التغوّل، فسيكون هذا هو يومهم الأسود إن هم ارتبكوا ولو قليلاً أمام الخط الأحمر الزائف. فإن هم لم يتحركوا اليوم لتثبيت أن مثل هذه الانتهاكات هي الخط الأحمر الذي يمنع على أي مؤسسة تجاوزه، فلن يكون بعيداً اليوم الذي يختفي فيه لبنانيون في أقبية التعذيب دون أن يتجرأ أحد على مجرد السؤال عنهم. عندها سيدخل لبنان الأخضر الذي بقي في أحلك أيامه متمايزاً، سيدخل بجدراةٍ إلى الحظيرة التي حاول السوريون كسرها ودفعوا مئات آلاف الضحايا ولم يفلحوا بعد.

 

*مالك داغستاني: كاتب وصحفي سوري. معارض ومعتقل سابق. له رواية “دُوار الحرية”. مراسل سابق لمجلة “هاي ماغازين” وجريدة الشرق.خاص – المكتب الإعلامي لقوى الثورة السورية

  • Social Links:

Leave a Reply