تحديات في عالم متغير! ــ حازم صاغية

تحديات في عالم متغير! ــ حازم صاغية

 

يبدو عالمنا اليوم كأنه يسبح في فضاء مفتوح خارج أية جاذبية تشده إلى مرجع مألوف أو مقدمات معهودة، ففيما يقفز العلم والتقنية قفزات هائلة تسرّع التطور على نحو لم يعهده هذا العالم في أيٍّ من عهوده السالفة، تتكامل مغادرة النمط الصناعي إلى نمط ما بعد صناعي مصحوب باقتلاع الوحدات الإنتاجية من البلدان المتقدمة وانتقالها إلى حيث اليد العاملة أقل تكلفة بكثير، وهذا، كما بات واضحاً، يساهم في إطلاق عمليتين متناقضتين: في المراكز الرأسمالية التقليدية انكماش مرفق بآلام إنسانية يحاول القادة الشعبويون والقوميون الاستثمار فيها، وفي البلدان التي تنتقل إليها وحدات الإنتاج فُرص غير مسبوقة للإقلاع الاقتصادي.

ولكننا، من ناحية أخرى، نعيش أيضاً رجحاناً متعاظماً وضخماً للقارة الآسيوية، ولا سيما منها الصين، وبدرجة أقل نسبياً الهند، وذلك على حساب العالم الأطلسي بضفتيه الأوروبية والأميركية، والرجحان هذا لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية والتجارية فقط، بل يتعداهما إلى النفوذ السياسي والقدرات العسكرية والاستراتيجية، وأهم من كل شيء آخر أن التجربتين الجديدتين في الصين والهند نجحتا في إزاحة الفقر عن مئات ملايين البشر الذين كانوا يرزحون، جيلاً بعد جيل، تحت وطأته، ومع ذلك فإن العلاقات المتوترة، لأسباب بعضها تاريخي وبعضها راهن، بين أقطاب آسيا الثلاثة، الصيني والهندي والياباني، تجعل صورة المستقبل الآسيوي برمته مشوبة ببعض الضباب، وغني عن القول إن ذاك الضباب هو ما لا تفعل الأزمة الكورية الراهنة وما قد يترتب عليها من مخاطر سوى مفاقمته.

وإلى ذلك، لا يبدو أنّ الدولة- الأمة قد استقرت على حال، ففي حقبة الحرب الباردة ما بين الخمسينيات والتسعينيات، بدا أن تلك الصيغة محمية ومرعية بالثنائية القطبية الأميركية- السوفييتية، فحين انتهت الحرب الباردة وتفجّر الاتحاد السوفييتي ودولة يوغوسلافيا، ظهر أن العالم يفتتح حقبة جديدة تنشطر معها دول قائمة وتنشأ دول مستحدثة. وفعلاً، وعلى مدى ثلاثة عقود، قامت دول جديدة على رقعة تمتد من أوروبا الوسطى، حيث انفصلت سلوفاكيا عن دولة تشيكوسلوفاكيا، إلى أفريقيا حيث انفصل جنوب السودان عن شماله.

ومع أن الانفجارات الأهلية، الطائفية والإثنية، في دول «الربيع العربي»، دلت على مصاعب لم تكن منظورة في الوحدات الوطنية القائمة، فإن ما شهدناه في الأسابيع القليلة الماضية يوحي بانطلاق وجهة معاكسة، ففي العراق، كما في إسبانيا، تضافرت جهود إقليمية ودولية لمنع المشروعين الاستقلاليين- الانفصاليين لإقليمي كردستان وكتالونيا وإحباط القيادتين السياسيتين الراعيتين لهذين المشروعين، وهذا من دون أن يغيب عن البال عدد من الفوارق البارزة بين التجربتين، أهمها أن ما يتمتع به الكتالونيون من استقلالية كان معترفاً بها دستورياً لا يتمتع الأكراد بمثله إلا بقوة الأمر الواقع، ثمّ إن التأييد الذي أظهره الاستفتاء الكردي في صدد الانفصال يقابله تصدع كتالوني- كتالوني في ما خص البقاء في إسبانيا أو الانفصال عنها.

ولا يسع المراقب إلا أن يلاحظ درجة التفكك في الروابط السياسية والعسكرية والاقتصادية التي لعبت أدواراً ملحوظة إبان الحرب الباردة والعقود التي تلتها. فالوحدة الأوروبية باتت اليوم، بعد استفتاء بريكسيت البريطاني وصعود الشعبويات القومية على مدى القارة، عرضة لعلامات استفهام كثيرة بعضها يطال شرعية هذا المشروع نفسه. أما حلف شمال الأطلسي «الناتو» فيبدو مصيره، هو الآخر، محفوفاً بالغموض ما بين قلّة الحماسة له التي تبديها الإدارة الأميركيّة الحالية وعجز باقي الأعضاء، الأوروبيين، المأزومين ماليّاً، عن رفع مساهماتهم في تكلفة الدفاع الذي يوفره الحلف.

وإذ تتخبط دول كروسيا وتركيا في البحث عن هويات تهرب بها من الهوية الأوروبية، وعن ممارسة سياسية تجنّبها سلوك طريق الديمقراطية الليبرالية، يستبد بالعالم خوف جديد من الاحتمال النووي الذي تلوح به دولة ككوريا الشمالية، وقد تلوح به في الغد دولة كإيران. وهذا، على عمومه، عالم تختلط معالم صورته وتستعصي على التحليل البسيط كما عهدناه في حقبة الحرب الباردة.

  • Social Links:

Leave a Reply