شكلان من النزعة لقومية (المغرب والمشرق)

شكلان من النزعة لقومية (المغرب والمشرق)

 يمكن تقسيم دراسة العلاقة بين الدين والقومية، إلى ثلاثة أطوار: قبل كولونيالي، خلال الفترة الكولونياليه، بعد الاستقلال. وبالوسع القول إن هذا التقسيم الزمني لن يكتمل بدون تقسيم�مكاني: المغرب والمشرق.
ففي أواخر القرن التاسع عشر وخلال النصف الأول من القرن العشرين، تميزت الأفكار والتصورات والمفاهيم (والمذاهب) القومية في المشرق العربي بطابعها الاثني اي بناء مفهوم القومية على اساس الانتماء الى اللغة والثقافة والتاريخ (العروبة)، دون ان يعني ذلك عدم وجود مفاهيم إسلامية (الخلافة مثلا) تحتل مكانة ثانوية.
اما التصورات القومية في المغرب العربي فقد كانت إسلامية الطابع، وفي مصر، الواقعة في نقطة تلاقي الاثنين، فقد ظهر هذان الشكلان كلاهما متعايشين ومتجاورين. ولعل عوامل ذلك ان المشاعر والتصورات القومية في المشرق العربي نمت وتطورت في تعارض مع العثمانيين، خالقة بذلك الحاجة إلى تحدي التماثل الديني مع الأتراك بتغاير اثني، من هنا التوكيد على الفوارق الإثنية بين العرب والترك. ولا ريب في ان وجود قطاعات من المسيحيين العرب عززت الحاجة إلى تجاوز الانقسامات الدينية بين الناطقين بالعربية بوحدة اعلى ? وحدة قومية).
في المغرب العربي، لم يكن ثمة تماثل ديني او اثني بين المستعمرين الفرنسيين والمستعَمْرين. وكانت الفوارق الأثنية تتجلى مباشرة في الثقافة المحلية، وكان الإطار الثقافي الجاهز لذلك هو الإسلام عينه.
إن الثنائية الثقافية في المغرب كانت اشد وأعتى وأقسى مما كانت عليه في المشرق، إن لم يكن لشيء فعلى الأقل بسبب الطابع المميز للكولونياليه الفرنسية: الاستيطان (في حالة الجزائر). وعليه تطورت النزعة القومية ضد العثمانيين وضد خطر اوروبي محتمل، في المشرق، اواخر القرن التاسع عشر، في حين
تطورت هذه النزعة ضد خطر اوروبي قائم في المغرب.
ولنلاحظ أيضا ان دول المغرب العربي كانت تمثل وحدات سياسية مميزة بوضوح، فلها سلالتها الحاكمة، وجيشها المستقل، سواء بوجود او غياب ولاء برّاني للعثمانيين خلال الفترة ما قبل الكولونياليه.
ولقد حاربت هذه البلدان الغزاة بقيادة شيوخ القبائل والطرق الصوفية (القادرية في الجزائر، السنوسية في ليبيا، الأسرة الحاكمة في المغرب). رغم أنها كانت تعيش في عالم ما قبل قومي، مطورة بذلك وعيها الذاتي الاثني بأشكال صوفية تقليدية. ان المنظرين القوميين يطلقون (من باب الاستعلاء) اسم “الحركات الاستقلالية” على هذه الحركات، أي كونها “غير” قومية. الواقع انها تشكل النماذج الأولى للنزعة القومية الدفاعية التي تتجلى عند أي شعب بمواجهة التوسع الأوروبي في ذلك القرن. وكان هذا النزوع القومي، الدفاعي، الأولي، البسيط، البعيد عن اية “نظرية”. إلخ. يجد التعبير عنه في مفاهيم وعلامات ورموز�الثقافة الإسلامية. وببساطة هي حرب جهاد ضد الغازي الكافر.�وبهذا المعنى فإن النطف الأولى للمشاعر القومية في المغرب برزت في شكل ومحتوى إسلامي من الوجهة الثقافية. ولم يكن ثمة اثر للعروبة.
لقد نما النزوع القومي، في هذه الفترة، في المغرب، في حدود الفهم التقليدي للإسلام (النزعات الصوفية)، وانتقل بعد ذك مع بروز المصلحين، للتطور في نطاق الإصلاح الإسلامي، كما أنه نما في نطاق الرقعة السياسية لوحدات مميزة (تونس، الجزائر، المغرب، إلخ) مما افسح المجال لبروز النزعة القومية ليس فقط في رداء إسلامي ثقافيا، بل في رداء محلي اثنيا: نزعة تونسية، نزعة جزائرية، نزعة مغربية، الخ.
ولما شهد المغرب العربي بروز النزعة القومية العربية لم يكن يسع هذا النزوع إلا أن يكون مندمجا اندماجا مكينا بالإسلام. وكما هو معروف (لربما إلى حد الابتذال) ان رجل الشارع في المغرب لا يميز بين العربي والمسلم، فكل عربي مسلم وكل مسلم عربي بالتعريف!
قلنا إن النزعة القومية الابتدائية في المغرب العربي اتسمت بطابع دفاعي، ونمت ثقافيا في إطار الإسلام الصوفي التقليدي.
أما خلال الطور الثاني من نمو النزعة القومية وبالذات خلال النصف الأول من القرن العشرين، فقد اتصف هذا النزوع بالطابع الدفاعي والثقافي، وبارتكازه إلى الإصلاح الديني المناهض للصوفية (ابن باديس 1900 – 1940 في الجزائر، الثعالبي مؤسس الحزب الدستوري في تونس، ت 1944).
إن النموذج المصري أكثر غنى وتعقيدا. لقد تبلورت المشاعر والأفكار القومية، كما قيل آنفا، في تعارض مع العثمانيين والغرب المتغلغل، وفي ظل الإصلاح الاسلامي التنويري (الأفغاني، عبده) مقرونا بمؤثرات فكرية غربية، علمانية الطابع.
إن التضاد المصري – العثماني ينعكس في اعمال محمد عبده بوضوح، فقد اعتبر عبده السلطان عبد الحميد الثاني أكبر سفاح ومستبد في ذلك العهد، كما ان “مجد العرب” وحقهم في إنشاء دولة تليدة خاصة بهم امر مشروع في نظر عبده، لولا ان التقاتل التركي – العربي يمنع ذلك ويقود إلى سقوط الاثنين فريسة سهلة للقوى الغربية.
لقد كان محمد عبده ابا النزعة القومية المصرية، الليبرالية، العقلانية، وان قراءة بسيطة لبرنامج الحزب الوطني الذي صاغه بنفسه تعكس هذا بجلاء ساطع، مثلما تعكسه نشاطات عبده العملية في ميدان الفكر والسياسة.
فالحزب الوطني، بحسب تعريفه، ليس حزبا دينيا، بل إطار يجمع كل من يكدح على ارض مصر ويتحدث لغتها بصرف النظر عن الدين.
لقد كان محمد عبده، شان استاذه الأفغاني، يرى في الإسلام وفي الدين عموما، القوة المحركة للحضارة، ولكن بالطبع الدين المصفى من شوائب الجبرية، والمصفى من الطرق الصوفية، أي إسلام السلف الصالح، إسلام التوحيد والعلم والعمل، إلخ.
الواقع ان تراث عبده، في جانبه الأول، وجد استمراره، في سعد زغلول، وحزب الوفد عموما، وفي جانبه الثاني، في رشيد رضا وحسن البنا.
وإذا كان رشيد رضا يشكل استمرارا فكريا للتنوير الإسلامي عند عبده، في جانب، فإنه يشكل انقطاعا عنه في جاب آخر. لقد قلب رشيد رضا عقبيه على الحداثة والعقلانية وحشر نفسه في “خصوصية إسلامية” ضيقة، نجدها واضحة في دعوته إلى “الدولة الاسلامية” التي تقوم على فكرة الخلافة، وعلى نبذ فكرة سيادة
الشعب ورفض إمكان صوغ قوانين وضعية. اي ان رشيد رضا يشكل في ميدان الفكر السياسي نكوصا عن أستاذه عبده الذي حصر الحكم في إطار دنيوي، واعتبر الحاكم وأمور تعيينه وخلعه شأنا دنيويا لا قداسة فيه.
إن دعوة رشبد رضا تشكل انعطافا نحو النزعة الاسلامية المعاصرة (الأصولية بحسب التسميات الأخرى) التي ابتدأت في مصر على يد حسن البنا عام 1928.
إن هذا التيار السياسي – الاجتماعي هو الذي سيصوغ المفاهيم الفكرية للشكل الإسلامي للنزعة القومية كما نعرفه اليوم. ان نقطة انطلاق هذا التيار، في هذا الميدان، هو حفظ الطابع الإسلامي للمجتمع والدولة، الذي يشكل جوهر هويتهما المميز.�لقد جادل أحد أيديولوجي الخصوصية القومية الإسلامية، ونعني به شكيب ارسلان، مدافعا عن إرساء النزعة القومية على أساس ديني لا اثني (لغوي أو عرقي) في ثلاثيات القرن الماضي معتمدا على مثال اليابان، وإنكلترا، وأوروبا عموما التي تقدمت بحسب رأيه دون أن تتخلى عن تقاليدها ومعتقداتها (اليابان) أو كنيستها (إنكلترا) ويخلص ارسلان إلى ان الدين هو مكون الهوية القومية.
إن نشأة هذا التيار جاءت على خلفية معقدة: سقوط العثمانيين، إلغاء الخلافة (1924)، وقوع المنطقة العربية تحت السيطرة الغربية الفعلية، فشل التيار القومي الليبرالي في انتزاع الاستقلال الكامل، تصاعد خطر الحركة الصهيونية ونجاحها في فلسطين.
من هنا انقلاب هذا الاتجاه على الجيل الأول من ممثلي الإصلاح الإسلامي، ونعني بذلك الأفغاني – عبده.
ومن المفيد التذكير بان ممثلي هذا التيار الإسلامي (رشيد رضا، ارسلان، البنا) نشطوا في إطار دول – قومية أولا، وفى طار صراعات حاده بينها لوراثة الخلافة الملغاة ثانيا.
(حاولت مصر تنظيم مؤتمر فعّال حول الخلافة، اما الشريف حسين فقد أعلن نفسه ملكا على العرب قبل ان يغادر الحجاز هربا من سيوف نجد، وشكلت الدولة السعودية الحديثة، طرفا في الصراع على الخلافة
الإسلامية).
انا العيش في دولة قومية محددة (مصر، العراق؛ إلخ) يعني فيما يعنيه، ان المشكلات الفعلية للانتماء، واشكال الاتحاد الاجتماعي والتنظيم السياسي القائمة تفرض نفسها على عقول ابناء ذلك الجيل.
ومن المفيد أن نلاحظ ان حسن البنا، مؤسس الأخوان المسلمين لم يستطع قط اغفال المفاهيم التي تعبر عن علاقات الدولة القومية: الوطن، الوطنية، الأمة، القومية، العروبة… إلخ، وقد سعى إلى اعادة اسلمة هذه المفاهيم التي انطوت جميعا على محتوى حديث، إن لم تكن كلها مفاهيم حديثة.
وبالطبع لا تعنينا هذه “الأسلمة” بمدى ارتكازها على العلم، بل تعنينا من ناحية كونها عملية سوسيولوجية: شرعنه الحاضر باسم الماضي، تكييف الراهن عبر الموروث، وفى عملية تكيّف وتكييف حضارية، بصرف النظر عن تقديرنا للتيار الذي تمثله، من الوجهة السياسية او الاجتماعية او الايديولوجية. فالقضية هنا هي� قضية التقابل الثنائي بين التقليد والحداثة، بين الموروث والجديد، واسلوب التفاعل بينهما، بحيث لا يغدو القديم قديما، ولا الجديد جديدا. ونحن نتناول هذه المسألة بوصفها ابستمولوجيا ثنائية (التقليد والحداثة). ذلك ان المعرفة البشرية، وان كانت شاملة، وان كان العقل البشري واحدا، فان نظم المعرفة جزء من الثقافة (Culture) المحلية، بالمعنى السوسيولوجي للكلمة، ولا تنفصل نظم المعرفة عن النظم الثقافية لتكتسب أعلى وجود مستقل ممكن لها إلا في إطار نظام متشعب وبالغ التطور، ومديد، وراسخ، لتقسيم العمل الاجتماعي، وتقسيم العمل الفكري بالتبعية، وإلا في إطار تلاقح وإنتاج المعرفة عالميا، وبصورة مستقلة. ومثل هذه الشروط لم تتحقق إلا جزئيا.
لنعد إلى اسلمة حسن البنا للمفاهيم المذكورة. وبودي الاستشهاد مطولا بالكاتب المصري إبراهيم غانم الذي اشار إلى ثنائية نظرة البنا للمفاهيم المذكورة: الوطنية، القومية، إلخ. فهو يرى فيها عناصر ايجابية، ومقبولة، اي حب المرء لوطنه، فيما يرى فيها عناصر سلبية، منبوذة، وهي تحديدا العلمانية التي تربط ولاء المرء برقعة دولة، لا بالإسلام، فالإسلام بحسب رأي البنا، هنا، هو الذي يعين حدود الوطن، لا الوطنية.
إن مفهوم الوطن هنا يقوم على الانتماء الروحي، لا على الوعاء المادي لكل تفاعل روحي، اي رقعة الأرض، او الإقليم (Territory) بحسب قول اقطاب الفقه الدولي.
والفصل بين الاثنين، إذا أردنا التوغل في الأمر، يعود إلى عاملين: العامل الأول هو غياب هكذا مفهوم في العصور ما قبل الحديثة. ففي الفقه الكلاسيكي ثمة دار الإسلام ? دار السلام) ودار الحرب، والحدود الفاصلة بينهما متحركة، قابلة للتمدد في الاتجاهين.
العامل الثاني، إن النقلة من الامبراطوريات إلى عالم الدولة القومية كان متعرجا، وكيفيا في مناطق واسعة من العالم، حصل فيها فعلا انفصال أو قل لا تطابق بين الجماعة المعنية واطارها الجغرافي.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك ميزة عامة وهي أن كل عيش مشترك، إذ يخلق ثقافة مشركة، يسمح بعيش
واستمرار هذه الثقافة المشتركة، حتى بعد حصول تباعد مكاني بين الكتل البشرية المكونة لهذه الثقافة (بسبب الهجرة مثلا، أو إقامة حدود سياسية فاصلة، إلخ).
إن الالتباسات الناجمة عن فكر التيار الاسلامي هي التباسات الاستمرار/ الانقطاع في نظم المعرفة، وهي أيضا التباسات التطور الموضوعي للدولة القومية في منطقتنا.
وإني لأجد رأي حسن البنا في القومية مثلا شديد الواقعية. فهو يقبل بالمفهوم في جانب كحافز للمجد والجد والعمل، ويرفضه، في جانب آخر، كنوع من جاهلية تمجد العرق وتدعو للعدوان والتوسع (النموذج الألماني والايطالي) وتنبذ الدين بل تلغي حتى الكتابة بالحروف العربية (تجربة أتاتورك).
لقد عبّر البنا، كما يؤكد إبراهيم غانم، عن تمسكه بثلاث دوائر انتماء : المصرية، العربية، الإسلامية.
وكذا الحال، كما أظن، عند عبد الحميد بن باديس، المفكر والمصلح الإسلامي الكبير في الجزائر. فدوائر الانتماء لديه هي: جزائرية، عربية، إسلامية.

  • Social Links:

Leave a Reply