جرائم الشرف مرة أخرى! – محمد حبش

جرائم الشرف مرة أخرى! – محمد حبش

أقدم المجرم الطليق (بشار بسيسو) على قتل أخته، علنًا أمام الكاميرا، بثلاثة أمشاط من الرصاص، وسط هتاف وتأييد من مجرم آخر، يقوم بتصوير الجريمة ويهتف بوحشية: “اغسل عارك، يا بشار”!

إنها واحدة من جرائم العار التي اعتاد المجتمع العربي أن يتداولها كل عدة أشهر، وهي تتصل فقط بالضحية من النساء، من دون أدنى إشارة إلى الشريك الذكوري، في شبهة الفاحشة التي دفعت الفتاة إلى حتفها.

وفي جدل القانون، هذه الجريمة جريمة كاملة، ولا يستفيد الجاني أبدًا من العذر المُحِلّ ولا العذر المخفف؛ ذلك أن الجريمة وقعت عن سابق قصد وتصميم، وبعيدًا من عنصر “المفاجأة” الذي تشير إليه المادة 192. ولكن لماذا تبقى هذه المادة القانونية متكأً للقاتل، وللمحامي الذي سيتولى الدفاع عنه على أساس إثبات عنصر المفاجأة، لتأمين العذر المحل أو المخفف؟

أما من الناحية الدينية، فقد حسمت الشريعة الأمر تمامًا، إذ جرّمت القتل والقاتل، ولم تُشر -لا من قريب ولا من بعيد- إلى حقّ الزوج في قتل زوجته، أو إعذاره في هذا الإجرام، وبدلًا من ذلك، شرّعت نظام “اللعان” للتفارق بين الزوجين، حين تتراكم الشبه والاتهامات ويتعذر استمرار الحياة. واللعان إجراء سلمي محض، يكون بألفاظ محددة يتبادلها الزوجان المتلاعنان، لإنهاء الحياة الزوجية سلميًا، وحماية المولود القادم بعد اللعان.

ولا يتضمن اللعان، في كل أحكامه، أيَّ حدّ على الإطلاق، لا على الزوج ولا على الزوجة، لا قتلًا ولا صلبًا ولا جلدًا ولا نفيًا من الأرض… وإنما هو قضاء حكمي بتفارق الزوجين فراقًا مؤبدًا، وتحريم كل منهما على الآخر، وهذا الحكم، بالمناسبة، هو الحكم السائد في العالم كله، حين يتبادل الزوجان الاتهام بالخيانة.

حسنًا؛ فمن أين أتى إذن تبرير القتل دفاعًا عن الشرف، ومتى قام الإسلام بالدفاع عن القاتل؟ ومن أين أتى منح العذر المُحِلّ والعذر المخفّف للرجل القاتل، حين يرتكب جريمته بدافع الشرف؟!

إنني أجزم تمامًا أن موقف النبي الكريم كان دومًا على نقيض هذه الأوهام، وقد جاء صارمًا في الدفاع عن المرأة، ولو أنه شهد مصائبنا اليوم؛ لكان يقود صفّ العلمانيين في الدفاع عن المرأة وتجريم القاتل، أيًا كانت دوافعه!!

ولا نحتاج إلى التدليل على ذلك أكثر من جمع الروايات المتواترة للقصة الشهيرة في موقف النبوي من جرائم الشرف، قصة هلال بن أمية، حين قذف امرأته بشريك بن سحماء، وهي قصة متواترة في كتب السنن، وقد رواها البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة وأحمد، فهي إذن قضية رأي عام، ذكرتها كل كتب الرواية تقريبًا.

وتفصيل القصة أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، وصدمته المفاجأة، فجاء إلى الرسول الكريم يصرخ كالمجنون: “لقد رأيت امرأتي مع شريك بن سحماء، والله لقد رأته عيناي ولم يكذب بصري، يا رسول الله”! والمدهش أن هذا الصحابي لم يكن قد ارتكب القتل ولا حتى همّ به، غاية الأمر أنه كان يريد أن يعرف الناس الحقيقة، وأن يعذروه في الطلاق من امرأته العابثة، وأن يتم هذا الطلاق بلا تبعات!!

وكذلك فإن الرسول لم يناقش معه مبدأ القتل والعذر المحل، فلم يكن الرجل قد طلب ذلك أصلًا، ولم يكن يريد قتلها، وإنما كان يريد أن يرفع صوته بالشكوى، من دون أن يعاقب بحد القذف، لأنه يقذف امرأة من دون شهود. ومع ذلك؛ فإن الرسول الكريم لم يمنحه العذر المخفف عن حد القذف، وظل يرى أن حق المرأة في حماية خصوصيتها وشرفها محفوظ ومصان، وأن أي اعتداء على هذا الحق هو جريمة قذف تحلّ عرضه وعقوبته، ولم يجد أي سبب لمنح الزوج أي استثناء في طعنه للمرأة في شرفها، حتى لو كانت زوجته، طالما أنها ارتكبت ما ارتكبته في السرّ، وأنه لم ينجح في تأمين أربعة شهود عدول! وأعلن أنه مستحق للعقاب بحد القذف، وهو ثمانون جلدة وفق هذه العقوبة التي شرعت أصلًا لحماية النساء من عبث الذكور!!

فكيف يشبه هذا الأفق من تعامل النبوة مع المسألة، تأسيسًا على حفظ كرامة المرأة وسمعتها وشرفها، توحش القوانين العربية، ومنح الرجل أو القريب من الذكور حقّ قتل المرأة المشتبه فيها، أو منحه العذر المحل أو المخفف من العقوبة!

وأما ما يستدل به بعض القانونيين في الاستدلال بالرواية المذكورة على منح العذر المحل أو المخفف للقاتل؛ فقد جاء عرضًا في سياق القصة، عبر حوار جانبي لا يتصل بصاحب الشكوى، وهو موقف سعد بن عبادة، وهو صحابي آخر اندفع للتعاطف مع هلال بن أمية، ولكن تجاوز ذلك إلى حقه في قتلها، وهو ما لم يفكر به هلال ولم يطلبه أصلًا، وذلك حين قال سعد للنبي في صرامة: “يا رسول الله.. أحدُنا يجد مع امرأته رجلًا فيذهب يلتمس البينة!! فلا يرجع حتى يكون الرجل قد قضى نهمته ونال حاجته… والله لو قد رأيته؛ لضربته بسيفي هذا”.

وقد انضم عدد من الصحابة، منهم ضمضم بن قتادة وعويمر العجلاني وعاصم بن عدي الأنصاري وآخرون، في تأييدهم لهذا المنطق الانفعالي بقتل المرأة ومنح العذر المخفف للرجل، إذا قتلها دفاعًا عن شرفه! ولكن الرسول الكريم لم يقف صامتًا حيال هذا الاندفاع الهائج، وقال للرجل بثقة: “انظروا إلى صاحبكم إنه لغيور، وإن الله لأغير منه”. ثم التفت إلى هلال يقول له مرة أخرى: البينةُ.. أو حدّ في ظهرك!!

وفي هذا السياق، أورد الرواة أن رسول الله كره المسائل وعابها، وقال للسائلين إنكم لا تأتونني بخير!! ولم يرضَ أن يعطي الرجل أي تخفيف في العقوبة، إذا هو قذف امرأته بكلمة الاتهام. لاحظ أن الجدل هنا فقط حول حقه في قذفها بالكلام وليس بالرصاص!! وظل يدافع عن المرأة ويقول للزوج القاذف… ويلك… البينة أو حد في ظهرك!! وبعد طول جدال بين النبي وأصحابه؛ ظهر فيه إيمان الصحابة بديمقراطية الرسالة وخضوعها لمطلب الجمهور، حيث كان هلال يصرخ: والله إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد.

بالفعل، بعد طول جدال، نزلت الآيات تتضمن العذر المخفف، وأجازت رفع العقوبة عن الزوج تحديدًا، إذا هو اتهم زوجته بالزنا من دون شهود، ومنحته حق التفارق عنها بالأيمان الخمسة المتبادلة بين الزوجين، وفق ما نصت عليها الآية. وهكذا، فإن كل الروايات كانت تتحدث عن مطلب الرجل في عذر يخفف عنه عقوبة القذف، وليس في عذر يمنحه سلطة القتل والتوحش والهمجية التي يمارسها أشرار جاهلون، وينسبونها إلى الإسلام.

وفي حياته الخاصة عليه الصلاة والسلام، عُرضت حادثتان اثنتان فيهما مسألة شرف: الأولى، حين اتُّهمت زوجته عائشة بصفوان بن المعطل، والثانية حين اتُّهمت زوجته مارية القبطية بمابور الخصي، ولكن ليس في كتب السيرة كلها، سواء في تراث السنّة أو الشيعة أو حتى في أعمال المستشرقين، ما يشير، من قريب أو بعيد، إلى أنه همّ أو فكّر أو تمنى ممارسة شيء من هذا التوحش الأسود الذي يسمونه زورًا وبهتانًا “جرائم الشرف”.

وهكذا، فإنني أعيد هنا ما ذكرته في مجلس الشعب السوري، قبل سبع سنوات، حين قمنا بتعديل المادة وتشديد العقوبة: (نحن نعتقد أن هذه المادة مخالفة للشريعة الإسلامية، من ثلاثة أوجه كلها من الكبائر. فهذه المادة تعاقب الزنا بالقتل، والزنا مجرم في الإسلام وعقوبته ليست القتل، كما أن هذه المادة تثبت جرم الزنا من دون بينة، وهو أمرٌ محرم في الإسلام. والوجه الأخير لمخالفة هذه المادة للشريعة الإسلامية هو تولي الأفراد تطبيق الأحكام الشرعية، بدلًا من الدولة).

ولكن من أين جاء الفقهاء المعاصرون بأحكام جرائم الشرف، وتبرير القتل للرجل الهائج، تحت ذريعة حماية الشرف؟! أما القرآن والسنة فهذا ما ورد فيهما، وأما ما اخترعه الفقهاء المعاصرون وأسلافهم، فهو إفراز عصور الانحطاط ، وهو من دون شك أسوأ صور التخلف والهمجية للمجتمعات الجاهلة التي لا يمكن تبرير سلوكها، في فقه ولا دين.

  • Social Links:

Leave a Reply