محمد عابد الجابري وميثاق الشرف القومي  مصطفى الدروبي

محمد عابد الجابري وميثاق الشرف القومي مصطفى الدروبي

 

مصطفى الدروبي
كاتب صحافي سوري مقيم في فرنسا

منذ ثمانياينات القرن المنصرم انشغل المفكر والفيلسوف المغربي الراحل محمد عابد الجابري (2010- 1935) بمفهوم الكتلة التاريخية استناداً لنفس المفهوم الغرامشوي والذي شخّص من خلاله القائد والمنظر السياسي اليساري الإيطالي أنطونيو غرامشي حال إيطالية في تلك الفترة والتفاوت الكبير بين شمالها وجنوبها حيث شمال يشهد التصنيع والتحديث والنهضة وجنوب يحمل سمات الدول المتخلفة مع سطوة ملحوظة للكنيسة على حياة الجنوبيين وبالتالي لابد وحسب غرامشي من بناء “كتلة تاريخية” من كل الطبقات الاجتماعية للنهوض بإيطالية ككل مع الحفاظ على وحدة الأمة.
يقول الجابري : (اقترحت الفكرة نفسها مع تبيئتها وتكييفها مع الوضع العربي. وهكذا فالكتلة التاريخية كما ناديت وأنادي بها هي: “كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانـيا بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها، إلى درجة كبيرة، التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج. وبما أن مشكلة التنمية مرتبطة في الوطن العربي بقضية الوحدة، فإن هذه الكتلة التاريخية يجب أن تأخذ بعدا قوميا في جميع تنظيراتها وبرامجها ونضالاتها”. (مجلة المستقبل العربي نوفمبر 1982).
وبعد أن استكمل الجابري شرح مفهومه عن الكتلة التاريخية من خلال طرحها كبديل ومخرج للأوضاع العربية المتردية على المستوى القطري ، والقومي وتحديد الفئة أو الفئات المؤهلة للدعوة والعمل على قيام هذه الكتلة وشكل علاقتها بــ ( الثقافي) ، هذا الثقافي الذي يرى فيه الجابري نوع من الإجماع الفكري يلم شمل جميع الاتجاهات و التيارات السياسية والطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة في المجتمع العربي بكتلة واحدة.
وبناء على رؤية الجابري الغرامشوية ،نجد أن هذه الكتلة ضرورة تاريخية ملحة تفرضها راهنية الوضع العربي الذي يتعرض لإعصار تفكيكي دموي لن يبقي ولن يذر إن لم تستنفر طاقات العالم العربي من خلال إخراج شعوبه من حالة التغييب والتهميش التي تعيشها منذ قرون طويلة ،لتستمر مع مجيء الأنظمة القطرية عشية الخروج من الحقبة الاستعمارية الغربية مكرسة في غالبيتها نموذج الاستبداد الشامل بديلا” عن بناء الدولة الوطنية الديمقراطية ، دولة المؤسسات والحريات العامة، التي تفتح الأبواب عريضة أمام الشعوب العربية للمساهمة في بناء النموذج التنموي والحضاري المرتبط بروح العصر ، والقادر على تحصين الأمن القومي من الأطماع الاستعمارية التي نراها اليوم متمثلة بالهجمة الاميركية المحكومة من قبل إدارة ترفع شعار أمريكا اولاً ومصالح إسرائيل فوق كل اعتبار ، هذه الهجمة التي تختلف عن مثيلاتها السابقات اللواتي ارتددن منكسرات إلى المواقع التي انطلقن منها بفعل العمق الحضاري للمنطقة آنذاك وتكافؤ القدرات العسكرية التقليدية، والتفاف شعوبها حول الهدف المركزي أمام بربرية البراني الغازي زمن حملات الفرنجة المتعاقبة ، أما اليوم فنحن أمام غزوة استئصالية اقصائية تفكيكية تعمل على تدمير هوية الأمة والسيطرة على مقدراتها حيث نظام العولمة يسحق الهويات الوطنية والقومية لصالح الهويات الماقبلية على حد تعبير الطيب تيزيني خاصة أن مآلات ثورات الربيع العربي وبفعل خناجر الثورات المضادة تهدد بتذرير الجغرافية العربية ودفع شعوبها نحو صحراء التيه .
من هنا نجد أن مفهوم المفكر الجابري حول الكتلة التاريخية سديمي الرؤية و بدون تخوم واضحة بالشكل الكافي، وذلك عند دمجه للتيارات السياسية والطبقات الاجتماعية بقالب كتلوي واحد على مستوى العالم العربي ( وليته تحدث بداية عن انشاء كتلة تاريخية تتشكل على المستوى القطري أولاً ) حيث، سيلتقي الرأسمالي الوطني بالرأسمالي الريعي الطفيلي الكومبرادوري ( الذي يعمل وبحكم مصالحه كوكيل للرأسمال الغربي من خلال تسويق ما ينتجه هذا البراني العولمي في الأسواق الوطنية إلى جانب أن علاقات الإنتاج الريعية هي الطاغية على اقتصادات الدول العربية وخاصة الخليجية منها)، بطبقة المنتجين الوطنيين بسواعدهم وأدمغتهم وبالحكام على اختلاف اصطفافاتهم ، وارتباطاتهم …!! ، وهنا سنقع في إشكالية المساواة بين هذه الفئات والطبقات الاجتماعية المتناحرة موضوعيا” (على المستوى القطري والقومي)، وخاصة الشرائح الطفيلية ( والتي لم يشر إليها الجابري ) والتي تلعب على الدوام دوراً خيانياً لصالح سيدها البراني والتي يرى الجابري أن تتآخى هكذا بدون ملامح إيديولوجية ..أو على الأقل تأجيل الصراع الإيديولوجي إلى حين حيث يقول : (إن هذا لا يعني أن على جميع المدعوين إلى الانخراط في هذه الكتلة التاريخية أن يتخلوا عن مشاريعهم الإيديولوجية ومدنهم الفاضلة ، كلا. إن المطلوب هو وضع ذلك في موضعه الذي يسمح به الظرف التاريخي…..الذي يفرض “نوعا” من التأجيل…لمدة قد تكون قصيرة أو طويلة…) ،وهنا يطالب الجابري الطبقات والشرائح التي ستتكوّن منها الكتلة التاريخية أن تضع إيديولوجياتها على الرف ( أو بالأحرى عقولها) إلى حين، وكأن الدعوة إلى هذه الكتلة التاريخية نفسها ليست إيديولوجية أو أيديولوجيا الحد الأدنى على الأقل! والتي ستكون القاسم المشترك الذي ستفرضه ضرورات الحفاظ على السيادات الوطنية للدول القطرية من جهة ،وعلى تحصين الأمن القومي للأمة ككل من جهة ثانية.
ومن هنا تظهر ضرورة وضع التخوم بين الفئات التي تطمح إلى إنجاز مشروعها الوطني ومن ثم القومي الديموقراطي الذي سيتأتى من خلال إشاعة الديموقراطية الحقيقية كضرورة لبناء دولة الحداثة الوطنية و القومية، وليست إملاءا” خارجيا” ، وبين الذي تتوافق مصالحه مع المشروع العولمي المتوحش ، ويعمل له مروجاً وداعية مؤكدين أن الحالة الإيطالية التي تحدث عنها غرامشي حينها تختلف نسبياً عن الحالة العربية بسبب سطوة علاقات الانتاج الإنتاجية في الاقتصاد الإيطالي إن جاز القول.
من هنا تأتي ضرورة تشكيل جبهات شعبية واسعة للفئات التي يكون جامعها هو ميثاق شرف قطري وقومي على مستوى الشعوب بعلاقة جدلية تفضي إلى إعادة العافية للعالم العربي والذي يتعرض الآن إلى أقسى هجمة شرسة من خلال هذا المنعطف التاريخي الخطير الذي يمر به ، وذلك عبر إشاعة الديموقراطية في أطر قوى المجتمع المدني وفي الحياة الحزبية الداخلية لاحزاب قوى الثورة والمعارضة وجعلها تقليداً حضارياً ممارساً بروح عصرية يفضي إلى انتزاع شرعنة العمل الحزبي والسماح لكل القوى الحيّة في المجتمع أن تسهم في بناء الكتلة التاريخية المنشودة وذلك من خلال نهوض الأحزاب الوطنية بمهامها لتقوم بتأطير الجماهير ، ورفع سويّة وعيها السياسي و كذلك أيضاً عبر محاربة النزعات القبلية والطائفية والمذهبية والجهوية ولكل مفهومات ما قبل الدولة ، والانحياز لاحترام العقل ، والاعتراف بالآخر وفتح الحوار معه على أرضية البناء لا الهدم والحفاظ على الأصيل من الهوية، والتفاعل مع إنجازات الحضارة الإنسانية بروح منفتحة، والتنسيق مع كل القوى المناهضة للعولمة المتوحشة ، والمناضلة من أجل الحفاظ على الكرامة الإنسانية ، والمؤمنة بحوار الحضارات بين الشعوب وإشاعة الديموقراطية في العلاقات الدولية على أوسع نطاق وإعادة تقييم ثورات الربيع العربي والإفادة من عبرها ودروسها للعودة إلى السوح والميادين من جديد خاصة بعد انكشاف النظام العربي وجلاء وهنه وإفلاسه وعجزه عن حماية الأمن القطري والقومي للعرب وتحوله إلى عبء على مستقبل الأوطان والشعوب.
إن العودة لما طرحه الجابري قبل ثلاثة عقود ونيّف ضرورة ملحة وذلك للإفادة منه وتصويبه في راهننا القاسي وأن الاختلاف في إطار الوحدة (وحدة الهدف الجامع لعناصر الكتلة التاريخية المنشودة) لابد أن يأخذ شكلاً جدلياً وفق العلاقة بين الخاص والعام سعياً لتحقيق التقدم المطرد لكل عنصر من عناصر الكتلة نتيجة للتفاعل الخلّاق فيما بينها على أرضية الحوار الديموقراطي ، والذي سيؤدي في المحصلة إلى الارتقاء المتصاعد بمقدرات الأمة ، وطاقاتها شرط التوافق على أن الحوامل الحقيقية لهذه الكتلة هي الطبقات الوطنية المؤمنة بالعالمية والمتناقضة مع نهج العولمة الإمبريالية الشمولية والتي تمثل تهديداً جديّاً لكل قيم الخير والعدالة والتي أنجزتها العقول الإنسانية النيّرة على مر العصور.

  • Social Links:

Leave a Reply