النيوليبرالية مصطلح مثير جدًا للجدل. ومن المثير للاهتمام، أن معظم ما اتُّفق عليه من خصائص أنها جاءت ممّن يُوصفون بمعارضي أيديولوجية النيوليبرالية. وقد رفض العديد من النيوليبراليين المزعومين، أمثال فريدريك هايك إلى ميلتون فريدمان، هذي التسميةَ، مفضلين في كثير من الأحيان أن يرتبطوا بمزيد من العناوين/ اليافطات التقليدية مثل “الليبرالية”. قد يكون جزء من هذا ناتجًا عن دلالات تحقيرية قوية ثابتة لما يعطيه خصوم الليبرالية لهذا المصطلح. وُصفت النيوليبرالية كفلسفة اقتصادية مميزة صيغت بجهد عصبة دولية من الشخصيات المتخرجة من مدارس الفكر في فيينا وشيكاغو وجنيف. وقد وُصفت بأنها “منطق” للحكم من قبل الماركسيين مثل دافيد هارفي، و”عقلانية سياسية” من قبل الديمقراطيين مثل ويندي براون، وطريقة لإنتاج أنواع معينة من المواضيع من قبل عدد لا يُحصى من الفوكويين [أتباع فوكو]. في السنوات الأخيرة فقط، قبِل مؤيدو مشروع النيوليبرالية هذا المصطلح، مع خروج العديد من السر إلى الاعتراف بالتمسك بالقيم النيوليبرالية. قد يكون جزء من هذا بسبب كلية وجود المصطلح الشائك. مثل ما بعد الحداثة (أو الوجودية قبله)، أصبحت النيوليبرالية مصطلحًا شائعًا في الخطاب السياسي الذي يشعر كثيرون ببساطة بأنه لا مبررَ كافيًا لرفضه.
ولكني أعتقد أن السبب الأعمق، كما ثبت من الدفاع المهووس المتزايد عن الوضع الدولي الراهن من قبل المدافعين عن السوق الحر، هو أن النيوليبرالية تتعرض باطراد للهجوم من جميع أطراف الطيف السياسي. هذه ليست مفاجأة قادمة من اليسار السياسي. لقد كان التقدميون صامدين في هجماتهم الفكرية، ضد جوانب من التفكير والممارسة النيوليبرالية: وأدينَت فلسفة هذا الموضوع على أنها ذريّة واقتصادية، وموقفها من الاقتصاد ساخرٌ كما أنه غير مادي، وتم تجاهل السياسة النيوليبرالية على أنها تشجيع للاستبداد/ السلطوية (أو على الأقل قمع التعبئة الديمقراطية)؛ ووصفت سياساتها بأنها تدمير للثقافات المحلية واستبدالها بمستهلكين فردانيين ذوي بعد واحد. هناك أهمية للكثير من هذه الانتقادات، لكن من الجدير بالملاحظة أن قلة منها كانت قادرة على توليد ما يكفي من التأثير للقيام بأكثر من مجرد إبطاء تقدم الإصلاحات النيوليبرالية، قبل الأزمة المالية عام 2008.
يمكن أن نعزو جزءًا كبيرًا من هذا إلى حقيقة أن النيوليبراليين تمكنوا منذ مدة طويلة من الاعتماد على الدعم، أو على الأقل التسامح، من الليبراليين الوسطيين والمحافظين التقليديين في العديد من الدول الغربية القوية. كان هذا أمرًا حيويًا، حيث بدأت المقترحات النيوليبرالية إحداث تأثير حقيقي وعالمي في أواخر السبعينيات، قبل أن تصبح مهيمنة مع اقتراب القرن من نهايته. كان من الأهمية بمكان بالنسبة إلى الأجندة النيوليبرالية ألا يتم التقليل من الإصلاحات والتحولات الأيديولوجية التي قامت بها تاتشر وريغان ومولروني وانهيار الاتحاد السوفيتي، من خلال الجهود الديمقراطية اللاحقة. إن الوسطيين والمحافظين الجدد ممتنون لحسن الحظ. وكما أشار سلافوي جيجك مرات لا تُحصى، إن تسوية من نموذج الطريق الثالث كانت في الواقع أكثر تأثيرًا في ترسيخ سيطرة النيوليبرالية من جهود مارغريت تاتشر وأمثالها. وأشار إلى أن الإمكانية الأيديولوجية للتغيير تبدو الآن ممنوعة على الدوام. ربما قام الليبراليون الوسطيون، ومنهم توني بلير، وأنجيلا ميركل، وجان كريتيان، وبالطبع بيل كلينتون، بالدفاع عن بعض جوانب الليبرالية الجديدة. ولكن لم يكن هناك اقتطاع كبير من دولة الرفاهية، ولم يكن هناك عودة إلى خطاب جونسون أو ترودو حول “عظمة” أو “عدل” المجتمع. كان المحافظون مثل جورج دبليو بوش، وستيفن هاربر، وديفيد كاميرون، وأتال فاجبايي أكثر رضًى. كانوا يغازلون من حين لآخر اللغة التقليدية، وكانوا بالطبع أكثر صراحة في الدفع من أجل تقدم المشاريع العرقية -الثقافية. ولكن مع استمرار العولمة على نطاق واسع، من دون هوادة، تقدم تحرير الثقافة بسرعة متزايدة، وتراجع الخطاب القومي في الاستمرار إلى جانب موجات الهجرة. لقد قبلَ الوسطيون والمحافظون الجدد كلاهما الحكمَ النيوليبرالي كحقيقة منجزة، حيث إن الدول الغنية لا تستطيع فعل الكثير لتغييره. يبدو أن قول تاتشر أن “لا بديل” أصبح حكمة تقليدية.
ولكن في فترة ومناخ ما بعد الركود الاقتصادي، بدأ هذا التحالف الانقسام فيما بينه. ولم تأت أكبر الضربات من اليسار السياسي، كما توقع كثيرون. لقد أحرز التقدميون بعض المكاسب في إعادة وضع عدم المساواة على الخريطة السياسية، واكتسبت مختلف حركات احتلوا [هي حركة احتجاجات عالمية، بدأت بحركة (احتلوا وول ستريت) في مدينة نيويورك الأميركية في 17 أيلول/ سبتمبر 2011، ثم توسعت تدريجيًا لتشمل الولايات المتحدة الأميركية كلها، قبل أن تتحوَّل إلى حركة عالمية في 15 تشرين الأول/ أكتوبر] مزيدًا من الجاذبية. لكن اليمين السياسي هو الذي بدأ ينحرف بعيدًا عن النيوليبرالية ونحو أنماط جديدة من القومية وسياسات الهوية وإدانة الأممية والعولمة. قد تكون هذه مشكلة عابرة، لكن قوة هذا الانجراف ظهرت فجأة وبشكل دراماتيكي في عام 2016، عندما انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مذهلة ديفيد كاميرون، رئيس وزرائها النيوليبرالي، ومؤدية إلى الهزة الكاملة لحزبه المحافظ. تبع ذلك صعود محافظي ما بعد الحداثة مثل دونالد ترامب، الذي وعد بتطبيق تدابير حمائية هائلة تقطع أكبر اقتصاد في العالم عن الأسواق العالمية. سيكون هذا بمنزلة تمهيدًا للتخلي عن أو إعادة التفاوض على الاتفاقيات – من نافتا [اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية] إلى غيرها، التي اقتربت من أوامر مقدسة للعديد من النيوليبراليين. كان هذا متسقًا مع جهود محافظي ما بعد الحداثة من اليمين المتطرف الآخرين في جميع أنحاء أوروبا. في حين قدمت شخصيات مثل فيكتور أوربان، من حين لآخر، تدابير محافظة ماليًا تتفق مع الأيديولوجية النيوليبرالية، مثل فرض ضريبة ثابتة، أوضحت سياسات أخرى مثل الانسحاب من النظام المصرفي الأوروبي، اقتراح “ضريبة على الإنترنت”، وقيود الهجرة، وتزايد النزعة الشكية الأوروبية [رفض الأوروبانية، أي يرى أن تشكيل اتحادات سياسية بين الدول الأوروبية مثل الاتحاد الأوروبي هو مشروع فاشل]، أشارت إلى أن الأمور كانت تتحرك في الاتجاه الخاطئ. حتى المؤسسات الدولية التي صُممت لعزل الأسواق النيوليبرالية عن الضغوط السياسية، ومنها منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، بدأت تعديل لهجتها، استجابة للنقد والضغط الشعبيين.
أظن أن هذه التطورات، أكثر من أي شيء آخر، هي التي دفعت أنصار النيوليبرالية إلى تبني هذا المصطلح بصورة متزايدة. كان هدف إنشاء خلفية من المؤسسات والقوانين التي من شأنها أن تتخطى السياسة وعزل النظام الرأسمالي العالمي عن التدخل، وحلم هايك وآخرين، يتداعى على نحو متزايد. كان الطموح دائمًا بحالة تناقض/ مفارقة: فقد كان مشروعًا سياسيًا واعيًا لإبعاد الاقتصاد الرأسمالي من دائرة السياسة. كان العديد من النيوليبراليين يدركون مدى الإشكالية التي يمكن أن تكون، ولذلك سعوا لتطوير مجموعة من المؤسسات العالمية التي من شأنها أن تعزل الأسواق عن التدخل الديمقراطي، بينما تعمل إلى حد كبير خلف الكواليس حتى لا تجتذب الاهتمام المدني. في أعقاب الكوارث، مثل ركود عام 2008 وما أعقبه من عمليات الانسحاب، وفرض التقشف المالي على اليونان في عام 2015، انكشف/ ذاع السر. أصبحت قدرة المؤسسات النيوليبرالية وقوانينها لإفشال إرادة الشعب واضحة تمامًا. ونتيجة لذلك، أصبح الناس يفقدون صبرهم على نحو متزايد تجاه حكوماتهم، التي بدت وكأنها ملتزمة أخلاقيًا تجاه التكنوقراطيين النيوليبراليين والنخب الذين كان لديهم على ما يبدو القدرة على إملاء السياسة على الدول القومية ذات السيادة المزعومة.
دفع هذا التراجع الإجباري النيوليبراليين إلى الكشف عن النيّات ليخوضوا معركة سياسية مع عدد متزايد من المعارضين الأيديولوجيين الذين يتزايد إصرارهم. والأكثر إثارة للقلق هو أن هذا يشمل خصومًا من اليمين السياسي القومي، حتى من أحزاب مثل الجمهوريين الذين كانوا دومًا أشد المدافعين عن النيوليبرالية. ومن المثير للاهتمام أن الحاجة إلى مواجهة صعود النزعة القومية اليمينية أدت إلى بعض الصفقات الفاوستية [نسبة إلى فاوست الذي أبرم اتفاقًا مع الشيطان يحقق له كل أحلامه مقابل روحه] وتغييرًا مع التقدميين الذين كانوا في يوم من الأيام أعداء مستعصين للنظام النيوليبرالي، لكنهم يواجهون الآن شبحًا أكثر إخافة يتمثل بتولي القوميين محافظي ما بعد الحداثة زمام الأمور. وهذا يشمل جيريمي كوربين، الذي ظهر كمؤيد لين للسوق الأوروبية المشتركة، وإيمانويل ماكرون، الذي قادت مغامرته الأوديسية [نسبة إلى الأوديسة، الملحمة الإغريقية المعروفة] السياسية من الحزب الاشتراكي ليصبح مدافعًا قويًا عن المؤسسات والسياسات النيوليبرالية.
لذا يبدو أن الجميع الآن يعترفون بأن النيوليبرالية هي أيديولوجية متميزة، وصولًا إلى النيوليبراليين الذين رفضوا ذات يوم المصطلح رفضًا قاطعًا. يستمر اليساريون في النظر إلى النيوليبرالية بازدراء، على الرغم من أن كثيرين منهم مستعدون جدًا لعقد تسويات مع النيوليبراليين من أجل منع ظهور قوميين محافظين ما بعد الحداثة استراتيجيًا. لقد طور هؤلاء القوميون اليمينيون المتطرفون أنفسهم مصطلحاتهم الخاصة لوصف النيوليبراليين، وكثيرًا ما كانوا يستخدمون خطابًا أكثر قسوة من النقاد اليساريين. إن النيوليبراليين محكومون بأن يكونوا النخبة، وكوسموبوليتانيون من دون جذور، وغدارين/ عاقّين، وعديمي التواصل مع الناس، وما إلى ذلك. ومع الأسف، فإن الكثير من هذا النقد قد أثبت جاذبيته لشرائح كبيرة من السكان الذين يرون أن القومية المحافظة ما بعد الحداثة هي طريقة لمحاربة الخاصية المنطقية غير الديمقراطية والمناهضة للمساواة التي تتميز بها الأيديولوجية النيوليبرالية. وكما لاحظ سلافوج جيجك، علينا أن ندرك أن هذه الرغبات تتمتع بقدر كبير من الشرعية، بينما تدرك في الوقت نفسه أن القومية اليمينية تقدم حلولًا زائفة وسوقية للمشكلات التي تشخصها. إحدى مهام الفكر التقدمي هي تصور حلول أفضل
Social Links: