نجاح تجربة السودان.. تجديد للربيع العربي

نجاح تجربة السودان.. تجديد للربيع العربي

محمود الوهب

كاتب سوري

يبدو أنَّ الحال السودانية ستبقى إلى أمد بعيد مجالاً خصباً للبحث والتمحيص، واستنطاق مفردات أحداثها للبوح بما يمكِّن من القراءة الصحيحة لها والاستفادة من دروسها..! فهذه التجربة مثيرة للنقاش والجدل بما تنطوي عليه من ثراء جم، ومن تعقيدات فرضتها حقبة طويلة تجاوزت نصف قرن تسيَّدَها عسكر عتاة تقهقروا من فشل إلى آخر، فأفقروا شعبهم، وجلبوا له ألوان المعاناة، وأحالوا الوطن السوداني إلى شبه أشلاء وأوصال، ناهيكم بتبديد موارده المتعددة.. ولا يأتي غنى التجربة السودانية من عمق تلك التعقيدات فحسب بل لأنه قد أتى في سياق الربيع العربي وعمق أسبابه وعوامله، وإن تأخر عنه بعض الشيء.. فالربيع العربي، رغم كل ما جرى في مساره من مآس وويلات، لن يمرَّ، في مداه، كسحابة صيف عابرة، كما يعتقد خصومه الداخليون والخارجيون، بل إنه ماض إلى تحقيق غاياته، وفقاً لمنطق الحياة، وإرادة الشعوب في الحرية، والعيش الكريم..!

صحيح أن نتائج الربيع العربي في غير بلد لم تكن لتفتح باب الأمل واسعاً حتى الآن، ففي مصر عاد العسكر على نحو أسوأ وأعتى مما كانوا عليه، وفي سوريا وليبيا واليمن كان الثمن باهظاً جداً، ولايزال يدفع حتى الآن باتجاه سيلان الدم والدمار والتمكين للدخيل! ورغم ذلك، فليس في هذا التردي الذي نراه، على قسوة معاناته، خروج على شكل الانقلابات الاجتماعية التاريخية التي غالباً ما تأتي على هذا النحو المترافق بالمآسي والأحزان، إنه شأن الثورات العميقة المغيرة لوجهة التاريخ ومساره..

وإذا ما أتيح للمتابع أن يجري مقاربة ملموسة لوضع الحال السودانية كلها عبر ميزان السلب والإيجاب، استشرافاً لما يمكن أن تكون عليه الأحوال فإن المدقق في “اتفاق المرحلة الانتقالية” يمكنه أن يقدِّر إذا ما كان سيكتب له النجاح أو الفشل..! وبداية لا بد من تأكيد صعوبة الأحكام المطلقة على مسائل تحكمها شروط موضوعية ترتبط بتقلبات ظروف الحياة وتبدلاتها، فلا جزم بمثل هذه المسائل مطلقاً.. ولعلَّ الاتفاق الذي أتى بعد ثلاثة أشهر من سقوط البشير برهن على أن توازناً مرحلياً ما قد فرض نفسه، على نحو أو آخر، ووفق ظروف متعددة منها ظروف الربيع العربي ذاته الذي ما أتى إلا ليعلن للملأ أن الأنظمة العسكرية التي أتت بُعيد الحرب العالمية الثانية منقلبة على أنظمة شرعية، بعضها ديمقراطي، قد انتهت وآن لها أن ترحل بفشلها الشامل، وقمعها الرهيب..! ولعلَّ انتفاضة الشعب السوداني التي أتت في سياق ذلك المسار أعمق وعياً، وأحسن تنظيماً، وأشمل في مشاركة قواها التي جمعت قطاعات واسعة من الشعب السوداني ممثلة لمعظم شرائحه الاجتماعية، ونخبه السياسية والثقافية، ولعلَّ أكثر ما ميزها أمران الأول:

إصرارها على السلمية، رغم محاولة جرِّها إلى الخطأ واستفزازها بالدم! أما مميزها الثاني فمشاركة المرأة بكثافة وفعالية، ما أعطى انتفاضة الشعب زخماً نوعياً كان له تأثيره في جماعة العسكر أنفسهم سيِّما وأن البشير كان قد أبدى طمعاً أبدياً بالسلطة، فرأوا الالتحاق بانتفاضة الشعب.. وهكذا جاء الانقلاب على البشير، ربما خوفاً من مصير غامض ينتظر طغمة الحكم كلها، أو رغبة باقتناص لحظة فرضت نفسها لم يرد بعضهم تفويتها. (يفسِّر ذلك أن عملية فضِّ الاعتصام جاءت في 3 من حزيران/يونيو 2019 أي بعد أقل من شهرين على سقوط “البشير” في11 من نيسان/أبريل 2019).

لاشك في أن تدخّل بعض الدول الإفريقية المجاورة ومنظماتها المعنية قد لعب دوراً مهماً في إنجاز ذلك الاتفاق وَالحَدِّ من تطاول العسكر إضافة إلى رسائل عديدة من دول أوروبية ومن أمريكا عبَّرت فيها عن حق الشعب السوداني في مساعيه نحو الحرية والديمقراطية.. لكن نضوج الحركات السياسية المنضوية في إطار قوى الحرية والتغيير، إضافة إلى ضغط الأوضاع الاقتصادية والمعيشية كان لهما الدور الأساسي في إنجاز الاتفاق..

إلغاء العقوبات الدولية التي أوقعها نظام البشير بالبلاد، وشطْب اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب سوف يساعدان في تقديم العون الاقتصادي وبالتالي في إنجاح الاتفاق.

إنَّ نظرة سطحية للاتفاق قد تظهر تفوق العسكر وبخاصة تسلّمهم للفترة الأولى التي تميِّزُهم بأسبقيتها، وبزيادتها ثلاثة أشهر عن الثانية، لكنها في وجهها الآخر قد تكون الأصعب، إذ تحيطها حساسية مشوبة بحذر ما.. ومهما يكن فسوف تكون خطوة ممهدة للثانية، إن بخطئها أو بصوابها.. والأمر الآخر المهم أن لمجلس الوزراء المدني صلاحيات تنفيذية كاملة، كما أن رئيسه عبد الله حمدوك الذي وقع عليه الاختيار رجل مشهود له، وصاحب خبرة اقتصادية يحتاجها السودان في هذه المرحلة الاستثنائية، وهذا كله في صالح قوى الحرية والتغيير، وسيساهم في التفاف الشعب حولها بما يمكن أن تقدمه، وإن بالحدود الدنيا مما يحتاجه السودان اليوم، وسيسهل هذا الأمر أيضاً في إيجاد حلول للصراعات التي ما تزال قائمة في دارفور وبعض المناطق الأخرى.. وما يعوّل عليه في نجاح مجلس السيادة والحكومة المرتقبة هو جهودهما أولاً، ودعم الدول التي باركت الاتفاق فالكل يعرف واقع السودان وما يحتاجه من دعم أكدت عليه وثيقة الاتفاق، ولا شك أن إلغاءَ العقوبات الدولية التي أوقعها نظام البشير بالبلاد، وشطْبَ اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب سوف يساعدان في تقديم العون الاقتصادي وبالتالي في إنجاح الاتفاق..

وما هو مهم، كذلك، ويبعث على الأمل أن ثلثي المجلس التشريعي في صالح قوى الحرية والتغيير إذ هي 67%.. ولهذا تأثير شعبي عام، وهو عامل مهم في أن تستبدل بالتشريعات القمعية السابقة أخرى ديمقراطية تستجيب لفضاء الحرية المتطلع إليه، ولعموم متطلبات الدولة المدنية..

مسألة الدم السوداني الذي أهدر بوحشية لدى فضِّ الاعتصام، ووجود المتهم بهدره في المجلس السيادي، يشكل عقبة كبرى أمام قوى الحرية والتغيير التي لن تسمح لنفسها بالمساومة على دم رفاقها

لا شك في أنّ تحديات متعددة ومتنوعة تواجه الاتفاق ولكن أمر التغلب على معظمها قابل لإيجاد حلول لها.. وتبقى مسألة الدم السوداني الذي أهدر بوحشية لدى فضِّ الاعتصام، ووجود المتهم بهدره في المجلس السيادي، يشكل عقبة كبرى أمام قوى الحرية والتغيير التي لن تسمح لنفسها بالمساومة على دم رفاقها، إذ لا حل لقضية هدر الدم إلا بتحميل المسؤولية للفاعل الحقيقي ومحاسبته، وخصوصاً أنَّ القضية كلها تنطوي على شكوك بوجود أصابع خارجية خلفها.. وواضح أن أمر القضية سيترك للقضاء لكنَّ لموازين القوى فعلها، كما أنَّ ثمة دوراً للتناقضات الموجودة بين العسكر أنفسهم، وبينهم وبين قوى الحرية والتغيير ومن خلفها أسر الشهداء والشارع السوداني بأكمله..!

وأخيراً لعلَّ تجربة السودان تشير إلى أن تراكم العسكر وكثافة تسلطه في منطقتنا، خلال أكثر من نصف قرن، لا يمكن الخلاص منه دفعة واحدة.. ويبقى نجاح التجربة السودانية المنتظر إتمامها واستمرارها خطوة مفصلية تمنح الثقة بحقيقة الربيع العربي، وبضروراته الموضوعية، وبقدرته على النهوض والاستمرار، وتجاوز عثراته وعراقيله.. ويأتي نجاح التجربة أيضاً صفعة قاسية لتلك الأنظمة التي رفضت مطالب شعوبها مستعينة بالأجنبي فدمرتها والأوطان، وها هو ذا النظام السوري، يراقب اليوم من استقدمهم، وهم يوزعون البلاد السورية فيما بينهم بعد أن جعلوها أشلاءً وأوصالاً، ويزعم ويزعمون النصر على “الإرهاب” وهم الإرهاب، شركاء وصانعين..!

  • Social Links:

Leave a Reply