حكاية رجل سلموني في المهجر سَلميّة.. بطاقة تعريف لابن عاق

حكاية رجل سلموني في المهجر سَلميّة.. بطاقة تعريف لابن عاق

 

احمد الكردي

أنا منها تلك المدينة التي تَعقدُ فيها كأس من العرق البلدي المصالحةَ بين فيروز وصادق حديد. تلك المدينة التي تصحو في بيروت، وتنام على ضفاف دجلة.

وربما لأنّي منها.. يعوي ألفُ ذئب تحت جلدي، بينما أشعر بالحرج من فراشة دخلت صدفةً إلى غرفتي.

وربما لأنّي منها.. أبكي أمام كل مئذنة حجرية، وأتثاءب أمام الموناليزا.

أنا منها تلك المدينة التي حزنت لموت بريجينيف أكتر من موسكو نفسها، ويستعرض شبابها كل أيديولوجيات الأرض خلال نقاشهم، بينما تدور بينهم لعبة (طرنيب).

وربما لأنّي منها… كان جدّي الذي يحتفظ بصور جمال عبد الناصر، يُجري عملياته الحسابية على هوامش صفحات جريدة شيوعية.
ولأنّي منها، كان يسألني أن أجلب له (نهج البلاغة)، الذي سأجده كما يقول بجانب كتاب أحمر (رأس المال) في زاوية المكتبة.
جدّي الذي يغصّ بيته بعشرات الوسائد والأغطية اليدوية الصنع، والتي لم ولن يستخدمها أحد، بينما أجهدُ للعثور على وسادة مناسبة بعد سنوات من الغربة.

أنا منها تلك المدينة، ربيبة الغبار والعطش. حيث السماء أميّة، لا تجيد الرعد والمطر، وتترك على أرضها كل سنة ربيعاً غير مفهوم… مبعثراً هنا وهناك، فيجهدُ أبناؤها للحاق به.

وربما لأنّي منها.. أغلق النافذة في بيت جدي بالحي الشرقي المفتوح على البادية، كما أغلقها أيضاً في بيتي الذي يقع مباشرةً على نهر السين.
أتمدّد فوق سريري، وفيما تغرق الغرفة بصوت إيديت بياف، تتكوّر أصابعي حول مقبض الخنجر الذي تركهُ أجدادي لي تحت الوسادة.

تلك المدينة التي تقدم أبناءها قرابيناً للملح، فيعلّم الأب ابنه كيف يبكي في السر، وتعلّم الأم ابنتها كيف تبتسم في العلن.

ولأنّي منها.. أُذُني التي تتلقى (البونجور) من جارتي الفرنسية، ما زالت تتأهب لزعيق أحدهم في الصباح البارد (استاااعد.. استااارح).

ويدي التي أمدّها لأشارك صديقتي الإنكليزية بسكويت (روماري)، أمدّها أيضاً لأتقاسمَ رغيف الخبز مع صديقي عند الإفطار في سوق شعبي. أبتسمُ لصديقتي إليزابيث وهي تخبرني بأنهم يصنعون هذا البسكويت في مقاطعة ويلز، وأرسم نفس الابتسامة بدون زيادة أو نقصان لصديقي رامي وهو يقول (ما بتعرف تاكل)، بينما يهشّم بيده (فحل البصل) على طاولة معدنية صدئة.

أحمل كأسي الممتلئ بنبيذ شاتيون، كما كنت أحمل كأس (الزوفا) مُكرهاً عند الزكام.

أنا منها.. وتسرعُ الموظفة في متجر ماريونو الفرنسي لتدعوني مع صديقتي للتعرف على الإصدار الجديد من عطور ديور، بينما أنفي يلاحق رائحة الكعك في حارات سَلميّة عشيّة العيد. ولهذا ربما أجيب عند سؤالي كل مرة عن رأيي في عطر نسائي ما بأنه: لذيذ.

أنا منها… وأودُّ في كل مرة تستعرض فيها صاحبة (الباتيسري) في حي مونتمارت ما جاد به المخبز الفرنسي، أن أهمس في أذنها (عندك كماج؟).
وما بين صوتها: (بونجور مسيو)، وصوت عمّتي (مانك جوعان؟)، أنسى لفافة التبغ بيدي بينما أدخل متجرها، فتنبّهني لذلك.

ولأنّي كذلك.. أُخفي القطعة التي آخذها من طبق عينات التذوّق المجانية في معرض للشوكولا، كما كنت أُخفي قطع التين المجفّف التي أسرقها من خزائن جدّتي.

وكما ترتجف يدي، وأنا أحاول النقر على مفاتيح البيانو الضخم الخاص بعائلة صديقتي، كانت ترتجف وهي تلتصق بالتراب، وتشدّ على إحدى (الدّحل) في الحارات الترابية للحي الشرقي من سَلميّة.

أنا من تلك المدينة التي كل ما فيها على أهبة الرحيل، وتحفظُ الأمهات فيها عن ظهر قلب أسماء كل سائقي الباصات وأرقام هواتفهم. بينما يحاول الآباء مغافلة القدر، فيتخمون سطوح بيوتهم بالأعمدة الإسمنتية، ويقفون فيما بينها علّها تشاركهم انتظار باقي الأبناء كي يكبروا.

ولأني منها.. سمعت بأسماء الدول العربية لأول مرة من أمهات من تغرّبوا من أبنائها.

تلك المدينة التي لا تكترث فيها أقلام الرصاص بالتسلسل الأبجدي في دليل الهاتف،

وها أنا الآن، كلما تذكرت ذلك الطعم المعدني اللاذع لشريط الهاتف، أهرب لأراقب عن بعد فرساً تعاندُ صاحبها، وهي تقاوم محاولاته لوضع اللجام.

تقول صديقتي بأنّي: بدوي سينييه… طالما أنصتُ لصوت الأورغن في كاتدرائية نوتردام، كما أنصتُ للأجراس المعلقة إلى خراف تعبر شارعاً ضيقاً في سَلميّة.
بدوي سينييه.. طالما أُسرعُ للحاق بالمترو، كما كنت أركض في بيت جدي للإمساك بإحدى الدجاجات التي أفلتت من خُمّها.
وربما لأنّي منها.. ما زلت أحياناً أخبّئ علبة السجائر في جواربي، وأنا على مقاعد الدراسة في السوربون.

ولأنّي حُكماً منها.. أنزع ربطة العنق كما أنزع ضماداً بللهُ الماء من على جرح.

تلك المدينة التي كان الحب والزفاف فيها إلى فترة قريبة محكوماً بـ (الموسم)، وما زال الكثير من بيوتها يفيض بالمؤن عقب الحصاد.

وربما لأني منها.. أتجاهلُ متململاً دعوات الروج على شفتيّ إحداهن، بينما أتعرّق لمجرد إلقاء التحية على أخرى.
وأُحصي القُبل كما أُحصي القطع النقدية في راحة يدي، وأنا أنطلق لشراء السكاكر منتهية الصلاحية من بقّال حارتنا العجوز.

تلك المدينة التي يعرف أبناؤها أن كل ورقة رسمية حكومية يتلقونها تنبئ بمصيبة، فيتعوّذون من كل ساعي بريد يطل عليهم من بداية الشارع.

ولذلك أنظر إلى إنذار (إيقاف عدّاد المياه) المُلصَق على باب بيت جدّي، تماماً كما أنظر لدعوة إلى أوبرا (كارمن) أجدها في صندوق البريد خاصتي.

وأدخل إلى دار أوبرا الباستيل خائفاً، كما أدخل إلى شعبة التجنيد.
وكما أتابع مبهوراً خطوات (سارة باراس) من على المقاعد الأولى لعرض فلامينكو، ألاحق متعجّباً خطوات من يترأس حلقة الدبكة في عرس شعبيّ.

أنا كلّ ما سبق… ولأن الحنين بالنسبة لي عطبٌ مؤقت، أقعي خلف نافذتي وأنظر إلى باريس، بينما ألوك ذلك الحنين، كما كان ذلك الماعز في بيت جدي يحرك فكّيه بلا انقطاع، وهو يلوك ما قدمتُهُ له من عشب، بينما يحدّق كلّ منّا في الآخر بكامل العبثية لمدة ساعة من الزمن، قبل أن تناديني عمّتي إلى الطعام بدوري.

وتسألني إحداهن: أنتَ من السّلميّة؟…. وأقول: سَلميّة فقط، وبدون الألف واللام. تلك المدينة لا تُعَرَّف

  • Social Links:

Leave a Reply