تاريخنا الهمجي.. نحن أبناء الشرق!

تاريخنا الهمجي.. نحن أبناء الشرق!

كان الدافع الرئيسي لغزو الإسكندر المقدوني بلاد الشرق نابعاً من تعاليم أستاذه الفيلسوف “أرسطو”، الذي زرع بداخل تلميذه فكرةً بقيت تلازمه طيلة طفولته وشبابه إلى أن حانت فرصة تطبيقها عقب مقتل والده فيليب الثاني ملك مقدونيا.
وتدور فكرة أرسطو حول إخضاع شعوب وممالك الشرق (البربرية) لسيطرة الغرب اليوناني (المتمدّن)؛ فانطلق التلميذ لتحقيق تعاليم أستاذه سنة 335 ق.م، مخضعاً ممالك الشرق القديم لسيطرته.

منذ تلك العصور حتى اليوم ارتبط مسمى “الشرق” بالشرّ والهمجية، والتصقت بأقوامه ومحاربيه أشدّ ملامح الرعب والوحشية؛ بعكس مفهوم “الغرب”، رغم الحروب والمجازر الدموية التي ارتكبها “الغربيون” على مر التاريخ.
الشرق حدّده اليونانيون قديماً انطلاقاً من موقع “أثينا”، وتبعهم الرومان استناداً لموقع عاصمتهم “روما” حين تم اعتبار المدينتين، خلال مراحل قوتهما، مركزين للعالم القديم آنذاك.

وفي العصر الحديث صار الشرق شرقاً والغرب غرباً نسبةً للإنكليز على اعتبار بريطانيا مركز العالم حين شكلوا يوماً ما إمبراطورية “لا تغيب عنها الشمس”، وصارت ضاحية “غرينتش” اللندنية مركزاً للمكان والزمان.
نُسِب الشرق “المرعب” في ذلك الزمان للشعوب والقبائل التي سكنته، أو التي سيطرت عليه وخصوصاً “الفرس- الإيرانيون”، تلاهم “الهون”، و”الهان”، والعرب، والتتار، والمغول، والترك، وهلم جرّاً.
أما في التاريخ المعاصر فصار الاسم مرتبطاً بالأرض والجغرافيا، وشاءت الظروف أن ترتبط أغلب مشاكل الإنسانية بالشرق، كالشرق الأوسط، وشرق أوروبا، وألمانيا الشرقية، وشرق آسيا (الكوريتين وفيتنام وتيمور الشرقية.. إلخ)، وبيروت الشرقية، وشرق المتوسط وغيرها من المشارق.

ولـ (الشرق) في سوريا خلال الثورة وقعٌ مؤلم ومخيف على السمع والبصر والوعي الذاتي، يجرّ المتلقّي للخراب والحزن والضياع كلما ارتبط بمكانٍ ما فوق الجغرافيا السورية.
وهاكم بعض الأمثلة: أحياء دمشق الشرقية، وغوطتها الشرقية، ثم ريف حمص وحماة الشرقي، فأحياء حلب الشرقية، فريف حلب الشرقي.. ومؤخراً “شرق الفرات” ومصيره المجهول. وكل ما سبق بكفّة ومدن “الشرق” السوري بكفّة أخرى.
بعد إدراكنا لما آلت إليه تلك (المشارق) في سوريا، يبقى أن نسأل أنفسنا عن سرّ تعرّضها لكوارث ونوائب الدهر دون غيرها من الجهات، وعن الذي جعل من الشرق أول المستهدَفين وأكبر الخاسرين.

ولماذا يُنظر إلى أبناء الأحياء الشرقية في كافة المدن، وأبناء المناطق الشرقية السورية عموماً، منذ ما قبل اندلاع الثورة السورية، بدرجة أدنى من أبناء بقية الجهات؟ بل وما سبب اختلاف نظرة أبناء المنطقة الشرقية أنفسهم والتمييز بين أبناء الريف الشرقي والغربي في محافظاتهم، وتمييز أبناء المدينة الواحدة بين سكان الأحياء الشرقية والغربية فيها؟
فجغرافياً، الشرق بالنسبة لابن مدينة الدير على سبيل المثال هو غربٌ بالنسبة لابن البوكمال. وأحياء حمص أو حلب أو دمشق الشرقية هي أقصى الغرب بالنسبة لكامل محافظة دير الزور، وكذلك لأبناء أحياء الدير الغربية التي لم تثر كبقية أحياء المدينة أو كبقية الأحياء الشرقية لتلك المدن الثلاث!

اجتماعياً، غالبية الثائرين من أبناء الأحياء الشرقية للمدن وكذلك الريف الشرقي يتشاركون القرابة والنسب مع أبناء بقية الجهات غير الثائرة، كما وأنهم من الشريحة المثقفة والمتعلمة، واقتصادياً هم من المقتدرين مادياً أيضاً.
وإذا استثنينا مدينة الحسكة عن باقي أجزاء المحافظة التي شاركت غالبيتها بالحراك الثوري في الشرق، نلاحظ أن مدينة الرقة (المشرقية) وذات التركيبة العشائرية والاجتماعية القريبة من جارتها دير الزور، بقيت موالية للنظام وبصورة تجاوزت بقية المدن المركزية كحلب ودمشق، وكان الحراك داخلها محدوداً مقارنة ببقية المدن، ورغم ذلك كانت أول المدن المحررة من هيمنة النظام ثم نالها أكثر ما نال جارتها الدير على يد تنظيم داعش.
سيطرة ذلك التنظيم المتوحش ونجاحه في التوغل داخل بقاع الشرق السوري دون غربه زاد من معاناة أهله وفي تلويث سمعة تكوينهم، على الرغم من غياب صفة التشدد الديني والحسّ العنصري عموماً بين سكان تلك المحافظات؛ وكل مَن عاش فيها مِن أبناء بقية الجهات يدرك جيداً ما نعنيه.

وكمفهوم دلالي لـ”الشرق” ضمن السياقات الثقافية داخل المجتمع؛ ما زلنا نلحظ حضور الكلمة في الحوارات والتصنيفات القِيَميّة وكأنها أضحت معياراً سلبياً لصاحبها. فإذا قلت لأحدهم: “أنت إنسان شرقي” أو “من المنطقة الشرقية” أو تصف أحدهم بأن “عاداته شرقية” فهذا يدل على شتيمة أو احتقار أو دلالة على همجيةٍ وتخلّفٍ ثقافي أو معرفي.

والحال، يبدو أننا كرّسنا مفهوم “الشرق الهمجي” بقصد أو عن جهل، في الوقت الذي تطلق شعوب الغرب مسمى “سحر الشرق” ويهتمون بدراسته والتعمّق في سبر أغواره، وبذات الوقت ينظرون نحونا، كشعوب مشرقية، بإشفاق واضح لعلمهم بما جرّتْ علينا أنظمتنا من قمع وتخلّف، ودفعتنا للاستلاب بالغرب والتغنّي بـ “الهوى الغربي”؛ ثم لنشهد مشارق سوريا اليوم وقد جمعها الموت والدمار والتغيير الطائفي والصراع الديموغرافي، برعاية الغرب أو وسط صَمْته.

الإسكندر المقدوني، وبعد معركة (إيسوس) وقضائه على الملك “داريوس” الفارسي، توغل فرأى بابل وبقية الأراضي المشرقية، واطّلع على نتاجات شعوبها الحضارية والإنسانية التي كانت محتلة من قبل الفرس. وعندها أدرك بأن معلمه (أرسطو) كان يخلط بين همجية الفُرس وحضارة المناطق التي سيطروا عليها وحجبوها عن العالم آنذاك. لكن وبمجرد زوال سيطرتهم عليها اتضحت معالم حضارة الشرق أمام الإسكندر فاحترم عادات شعوبها وثقافاتها وصار هو نفسه يقدّم القرابين لآلهتهم كي يكسب ودّها.

وزاد على ذلك أنه تزوج من نسائهم وأمر قادته بفعل المثل. وفي نهاية المطاف لم يرضَ الإسكندر بالعودة إلى بلده “الغربي ” بل آثر الموت في بابل.. عاصمة الشرق ودرّة الحضارة الإنسانية وقتذاك.

….

  • Social Links:

Leave a Reply