رواد العوام في “البث التجريبي لجهنم” يروي مأساة الشعب السوري

رواد العوام في “البث التجريبي لجهنم” يروي مأساة الشعب السوري

الرواية لم تجب عن سؤال مركزي لا تكتمل الصورة دون الإجابة عنه: لماذا ثار السوريون؟ إن عدم الإجابة بدقة عن مظلومية مجتمعية دامت لعقود، وولادة طبقة اجتماعية عسكرية أمنية تعتاش على ظلم وقهر الشعب وسرقة خيرات البلد.

 

قراءة: أحمد العربي – الأيام السورية:  

رواد العوام روائي سوري من جيل الشباب، هذه الرواية الثانية التي نقرأها له، بعد غريق جنة الإغريق. وهي زمنيا تسبق تلك الرواية، يعني هي باكورة أعماله الروائية. والروايتين تتابعان منعكسات الربيع السوري على كل المستويات.

 

البث التجريبي لجهنم، رواية كتبت بلسان الراوي الذي هو أيضا الشخصية الأهم في الرواية، لنقل إن الرواية تتابع بطلها في كل حيثيات حياته. كما أن للرواية فصول ومقاطع، ليست مرتبة لا زمانيا ولا مكانيا، يعني تتحدث عن الماضي أو تقفز إلى المستقبل، تتناول القبل أو البعد، فقط حسب ما يراه الراوي، كما أنها لا تقف عند موضوع معين، بل تتابع ما يدونه الراوي البطل.

السرد يحكمه المخطط الذهني للراوي، وتكتمل صورة الرواية عند اكتمال الاطلاع عليها، أغلب الرواية متابعة الحوار الذاتي داخل عقل ونفس بطل الرواية، كما أن في الرواية بعض المقاطع التي تبدو لأول وهلة مبهمة، أو خارج السياق، لكن بعد اكتمال الصورة، ومتابعة قراءة الرواية، ستتضح الحالة ويزول الإبهام ويبرر استعمال هذه الصيغة الضبابية.

سواء حين التكلم عن رئيس البلاد الذي يعبد ذاته، ويُدعم من كل العالم، ويدمر البلاد، ويقتل ويشرد العباد، وهو راض عن نفسه ودوره، هو مجرد أداة. كذلك أولئك الثمانية المتماثلين في كل شيء الذين تحط الطائرة بهم يعقدون اجتماعا، يبرمون اتفاقا، يوقعون أوراقا، ويعودون من حيث أتوا، إنهم القوى العظمى التي سلمت البلد للنظام لحرقها وتدميرها وقتل شعبها وتهجيرهم. عقدوا الاتفاقات ودعموه ومنعوا سقوطه… إلخ.

تبدأ الرواية من مشاهد مدينة مدمرة يعيث بها الخراب، والقطط والكلاب، والقناص سيد المكان لا يترك بقعة آمنة، حوّل المدينة لمدينة رعب، أي متحرك في محيطها مهدد بالقنص والموت.

صاحبنا الراوي يعيش معاناة شاب لم يمت للآن -ـ صدفة ـ مما حصل في سورية، يتصرف الراوي وكأن من البداهة معرفة أن شعب سورية ثار على النظام المستبد، وأن النظام لم يقبل أن يتنازل للشعب، وأنه واجه الناس بالقتل والحديد والنار وتدمير المدن وتهجير أهلها، وأن هذا الرد من النظام استدعى ردا من الشعب، وتشكلت المجموعات المسلحة لمواجهة النظام، والتي أدت لصراع جعل بعض البلاد تحت سيطرة هذه المجموعات، والبعض الآخر ما زال تحت سيطرة النظام، وأصبحت سورية بعد ذلك مسرحا لصراعات إقليمية ودولية، تحصل على أرضها وبدماء شعبها.

كل السوريين خاسرين كما يقول الراوي، سورية التي تركت للموت العلني العام، لا غالب ولا مغلوب، تأبيد النظام المستبد القاتل، وتخليق جماعات مسلحة، دخلت عالما جديدا عليها، أعطت للنظام مبررا أن يدمر البلد ويقتل الشعب تحت دعوى أنه يحارب الإرهاب، كما أن الجماعات المسلحة كانت عشوائية، قادتها من قاع المجتمع، بعضهم من أصحاب الجنايات والجنح السابقة.

وبعد فترة يكتشف الناس أنهم خرجوا من جحيم النظام إلى جحيم الجماعات المسلحة. في هذا الجو قرر صاحبنا أن يغادر سورية إلى المنافي، استقل سيارة أجرة بصحبة رجل وامرأة وابنته إضافة إلى السائق، خمسة أشخاص يتحركون داخل البلاد متوجهين إلى الحدود للانتقال إلى دولة مجاورة، حيث قرر صاحبنا أن يهاجر فارا بنفسه.

أغلب الحدث الروائي في السيارة وما يحصل معها ومع ركابها. السائق من طائفة النظام ويدافع عنه والرجل من الذين كانوا ضحية النظام، هناك حوار طرشان بين السائق والرجل، كل يدافع عن طرف.

أطروحة السائق، تتركز على قدسية الوطن والنظام والجيش، وأن البلد مستهدف وأن الأعداء يريدون تدمير سورية وإسقاط النظام المقاوم للأعداء، وأن الذين يحاربون النظام هم إرهابيون من صناعة أعداء النظام والشعب.

 

أما الرجل فيكون رده، أن النظام قد أجرم واستغل وظلم الشعب على مدى عقود، وأن الثورة عليه هي الحل الأمثل، وأن كل الأخطاء من الثوار، هي تبعات حتمية الحرب التي أرادها النظام واستفاد من تبعياتها، وهكذا استمر الحوار والصراخ لكن دون نتيجة، كل يتمترس عند رأيه.

الرجل كان من المجموعات المسلحة، وكان مساعدا لقائد ميداني، يعترف بالأخطاء ويعتبرها طبيعية، الصراع بين القادة الميدانيين، بعد أن حرروا المدن والبلدات من النظام كان بحجم سوء صراعهم مع النظام، القتل والحيلة والتعذيب والتنكيل، الرجل هارب بعائلته من قائد ميداني كانوا يريدون تصفيته لصالح آخر، لكنه سبقهم صفى البعض وهرب البعض ومنهم هذا الرجل وعائلته.

أما ابنته التي تبادلت النظرات مع الراوي صاحبنا عبر مرآة السيارة، كانت تخبره أشياء وأشياء، تذكره بحبيبته هناك في سورية، حبيبته التي وقعت ضحية قصف على مقصف احدى الجامعات و قيل إن الجماعات المسلحة من قامت به، أصابتها القذيفة وحولتها إلى أشلاء، الحبيبة التي ماتت جعلت صاحبنا يزداد يأسا ويدرك أن ما كان يربطه بالبلد قد مات، وسارع بالمغادرة.

الفتاة تشبه حبيبته، كانت من بلدة استطاع الثوار أن يحرروها من النظام، وقعت ضحية خلاف والدها مع بعض القادة الميدانيين، وتآمره على البعض مع البعض، حيث انتقموا منه، بأن هاجموا بيته و اغتصبوا ابنته تحت عين وحضور أمها، وتُركت لتخبر والدها نتيجة خيانته، هرب الأب و الأم والفتاة إلى الخارج خوفا من الأسوأ، كان والدها قد وعد أحد القادة بأن يزوجها له، الفتاة تعيش أحاسيس الإنسانة المغتصبة الهاربة من الجحيم إلى الجحيم، والدتها الضعيفة، ووالدها التاجر الذي يبيع كل شيء حتى عرضه.

صاحبنا تبادل مع الفتاة النظرات، قارنها مع حبيبته المقتولة، استعاد بعضا من الأمل، أعطته الدنيا بارقة نور جديدة لروحه، لعله يحبها ولعلها تحبه، كان يفكر هكذا.

كان الطريق طويلا مليئا بالحواجز، حواجز النظام التي يتناوب عليها عساكر يريدون الانتقام من الهاربين لأن لهم أهل وأصدقاء قتلوا على يد الثوار، أو أنهم يعتبرون الحواجز مركز جباية وسطو غير مباشر على أموال العابرين كي يعبروا.

كان لبعض المناطق على الطريق صعوبات أخرى، فبعض أجزاء الطريق يحكمه الثوار، والبعض عصابات إجرام وسرقة، توالدت على هامش الحرب السورية، كان لبطء الحركة وتوقفها أحيانا، واللجوء لأحد الفنادق على الطريق، فرصة للتعارف بين صاحبنا والفتاة التي اسمها شمس، تعارف ولقاء وحب ومعرفة كل منهم لحكاية الآخر، أصبح بينهما حب ووصال جسدي، وتواعدا على الزواج، وأن يساعدها على الهرب من أهلها عندما يصلا إلى البلد المجاور ويتزوجا ويذهبا معا في رحلة الغربة.

وصلت السيارة بعد طول سفر وخوف وتوقيف حواجز إلى الحدود. حيث يتم اعتقال الوالد لمعرفتهم كونه من الجماعات المسلحة، واستمرت الرحلة بصحبة السائق وشمس وأمها، أصبح صاحبنا شبه مسؤول عنهما.

وعند عبور الحدود وفي المنطقة الفاصلة بين حدود الدولتين، وقعت السيارة تحت وابل إطلاق نار بين أطراف متصارعة، أدت لمقتل الأم والسائق، وتم إنقاذ صاحبنا وحبيبته شمس من قبل عائلة على الحدود، يتعرفوا عليهما كزوجين، يساعدهم رب الأسرة وعائلته.

في تلك الأثناء يقرر صاحبنا أن يعود إلى بلدته المدمرة لعله يعيد بناء حياته. لم يستطع تحمل فكرة الهجرة والاقتلاع، خاصة أن رئيس البلاد المحمي من كل العالم طالب الناس بالعودة ليعيدوا إعمار البلاد التي كان قد دمرها.

كما أن هناك في بلده ما زال صديق عمره الطبيب الذي نذر عمره لمساعدة المصابين من الطرفين وإسعافهم، اعتقد أنه سيجده هناك ويساعده بإعادة تأسيس حياة جديدة مع زوجته شمس.

قرر صاحبنا أن يعود إلى بلدته المدمرة والتي لم يبق من معالمها إلا الخراب وصراع الكلاب والقطط على بقايا جثث الناس المقتولين، وقناص متربص بكل ما يتحرك.

وصل وزوجته إلى مكان قريب من مسكنه المهدم ولا يوجد فيه إلا القليل من الناس، استقبله جاره القديم ببعض أرغفة الخبز، طلب من زوجته شمس أن تنتظره ليبحث عن صديقه الدكتور، غادر متحاشياً أن يكون ضحية القنص، وجاءت الطائرات المحملة بالبراميل المتفجرة، وضربت قرب مكان زوجته، عاد إلى هناك وجن جنونه، اكتشف أنه فقد حبه مرتين، وندم على عودته. يحضر صديقه الطبيب ويبحث عن زوجته ويجدها حية، وينقذها من تحت الأنقاض.

هنا تنتهي الرواية، في الرواية أيضا محطات بمثابة حواشي توضح الصورة ليكتمل العمل الروائي ما بين العام والخاص.

في الرواية إشارة إلى أن واقع سيطرة النظام وتدمير سورية وقتل وتشريد الشعب، حصل بناء على توافق دولي وصراع فرعي إقليمي خدم هذا الصراع للوصول إلى ما وصل إليه، بحيث أصبح السوريين مجرد أدوات في لعبة الكبار.

كما أن الرواية تومئ إلى توافق دولي إقليمي على استمرار النظام رغم كل شيء، فلا حساب على ما فعل، ولا محاسبة على استعمال الكيماوي، ودائما يتفق الكبار ويكون السوريون الضحية تحت الطلب.

لا يغير من ذلك الإيحاء بجنون العظمة لرأس النظام ولا انفصاله عن الواقع، ولا تراكم إجرامه ليصل إلى ذروة لم تحصل مع رئيس دولة بحق شعبه من ظلم وقتل وتدمير وتشريد عبر التاريخ.

في تحليل الرواية نقول:

نحن أمام رواية محبوكة بشكل متكامل توصل رسالتها الخاصة والعامة بكل وضوح، لكن الرواية لم تجب عن سؤال مركزي لا تكتمل الصورة دون الإجابة عنه: لماذا ثار السوريون؟ إن عدم الإجابة بدقة عن مظلومية مجتمعية دامت لعقود، وولادة طبقة اجتماعية عسكرية أمنية تعتاش على ظلم وقهر الشعب وسرقة خيرات البلد، وامتلاء السجون ومحاسبة أي معارض، جعل الشعب قطيعا في مزرعة النظام، عبيدا حقيقيين، في حضرة حكام آلهة…الخ.

عدم وضوح هذه المبررات للثورة، جعل الكاتب ينتقل إلى النتائج من أن عنف النظام أدى لعنف الثوار ومن ثم تساويهم في الظلم والأخطاء في الواقع العياني، نعم هذا صحيح بالمباشر، لكن في البحث عن السبب الحقيقي سيكون النظام خلف ظواهر السرقة والرشاوي والعصابات، أبو الوليد حارق الحمير وأبو هديل سارق النحاس، هم أبناء النظام وصناعته، ولو انتهوا قادة لفصائل مسلحة تدعي أنها مع الثورة.

كما أن معتقلي الإسلاميين الذين تأثروا وأصبحوا جذريين وسلفيين ومعقدين وحاقدين بسبب الاعتقال والظلم في السجون، لذلك عندما أطلق سراحهم، كوّنوا المجموعات المسلحة السلفية وكان أخطرها داعش والنصرة، كل ذلك من فعل النظام. الذي منع أي مناخ إنساني لنشأة طبقة فكرية سياسية متنورة تنير الدرب أمام الناس للحياة الأفضل.

وكان الغائب الآخر في الرواية هو الحديث عن النظام نفسه، الذي ثار الناس عليه. نظام ولد الشباب الذين ثاروا وعاشوا كل عمرهم تحت نير قهره وظلمه. نظام استحوذ على البلاد عبر عقود انقلابات عسكرية أبّدت الأسد الأب منذ ١٩٧٠ حاكما مطلقا للبلد، هيمن عليها عبر الجيش والأمن وحزب البعث الذي حوله لأداة لخدمته، جذب إليه أغلب أبناء طائفته على أنه سيجعلها سيدة للسوريين، جعل أبنائهم عسكرا ضباطا وجنود ومرتزقة، وجعلهم مخابرات تقض مضجع الناس.

وعندما حاول الناس مواجهة ظلم الأسد الأب أباد جزء من الدولة قتلا وتدميرا في حماة وحلب وجسر الشغور في ثمانينات القرن الماضي، وأودع أغلب المعارضين الديمقراطيين السجون، كما أن الأسد الابن حاول أن يعدل صورة الأب في أول حكمه الذي جاء إليه بشكل وراثي عام ٢٠٠٠، واندفع الناس إلى حراك تم قمعه مجددا، بعد أمل بمناخ ديمقراطي.

وكان تتويج قمع النظام للشعب السوري، في زمن الرواية، أكثر من مليون قتيل ومثلهم مصاب ومعاق، أكثر من نصف الشعب السوري لاجئ، اثنا عشر مليون لاجئ داخل سورية وخارجها.

نصف سورية مدمر، سورية مقسمة ومحتلة من روسيا وأمريكا وإيران وحزب الله وميليشيات طائفية ومناطق نفوذ لل ب ي د وال ب ك ك، وتركيا وبعض الدول الأوروبية….الخ.

في هذا المناخ والواقع يحق للكاتب التحدث عن الثوار والمعارضة والمجموعات المسلحة، وحتى السياسيين الذين يدعون تمثيل الثوار والشعب السوري، وأخطائهم بالقياس مع أخطاء النظام عدو الشعب الأول والأكبر. لا نبرر الخطأ ولكن نحيل حجمها لواقعها الحقيقي.

كما أن الرواية توضح جزئيا كيف سمح الغرب والقوى المتحكمة دوليا بالوصول إلى ما وصلت إليه الحالة في سورية ودول الربيع العربي. إسقاط نموذج الربيع العربي المطالب بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، واستمرار مصالح العدو الصهيوني واستمرار دول الاستبداد والقمع، واستمرار نهب خيرات العرب من نفط وغيره. واستمرارنا عبيدا في بلادنا إلى أمد بعيد.

أما عن الأمل في ختام الرواية عند العثور على شمس… فلا أرى له أثر في مسار الحكاية السورية. حيث سيأخذنا المسار السياسي الآن إلى إعادة تأبيد النظام بكل إجرامه على رقابنا إلى مدى غير منظور. للأسف.

كل ذلك يمثل المناخ العام للرواية التي اعترف بأنها أنارت جانبا مهما من حكاية الثورة السورية.

  • Social Links:

Leave a Reply