ما هو التراث الماركسي الحقيقي؟

 ما هو التراث الماركسي الحقيقي؟

نتابع نشر الكراس الذي كتبه المفكر الماركسي البريطاني جون مولينو في منتصف الثمانينات

ماهي الماركسية 5/6

3 – من الممارسة إلى النظرية: وحدة الماركسية

ما هو أساس المادية التاريخية؟ يمكن الاقتراب من السؤال تحليلياً (بتناول مفاهيم ومقولات هذه النظرية) أو تاريخياً (بتتبع تكوينها وتطورها في كتابات ماركس). المنهج التحليلي هو الأكثر أهمية حيث أن التكوين التاريخي لنظرية قد يتضمن كل أنواع العوامل والتحولات العرضية.

 

فلنبدأ بمسألة المادية في مقابل المثالية. إن المثالية، وهي الاعتقاد بأولوية العقل (الروح، المثل، الله.. الخ) على المادة، والفهم المثالي للتاريخ (التاريخ باعتباره محددا بتطور الأفكار، والوعي، الخ..) لهما أساس مادي. أنه يكمن في تقسيم العمل الذهني واليدوي، وظهور طبقة حاكمة متحررة من العمل اليدوي – أي أنها تحيى من عمل الآخرين.

 

لا يصبح تقسيم العمل حقيقياً إلا منذ لحظة تقسيم العمل المادي والذهني في نفس الوقت يظهر الشكل الأول من الأيديولوجيين، الكهنة.) ابتداء من هذه اللحظة يستطيع الوعي أن يبالغ في إطراء نفسه بأنه شئ آخر غير الوعي بالممارسة القائمة، وانه يمثل شيئاً حقيقياً دون أم يمثل شيئاً واقعياً، منذ هذا الوقت. يتكون الوعي في الوضع الذي يسمح له بتحرير نفسه من العالم والبدء في تكوين النظرية “النقية” واللاهوت والفلسفة والأخلاق.. الخ.(39)

 

على العكس من ذلك المادية هي النظرية (الطبيعية) لطبقة منتجة تصارع من اجل تحررها.(40) إلا أننا بالطبع لا نستطيع أن نوحد بين المادية التاريخية والمادية – لقد سبقت المادية الماركسية بأكثر من ألفي سنة، وفي القرن الثامن عشر كانت المادية هي وجهة نظر البرجوازية الصاعدة، ما الذي يفرق المادية البرجوازية عن المادية الماركسية؟ هكذا عبر ماركس عن هذا الفارق:

الخطأ الأساسي لكل نزعة مادية في الماضي (بما في ذلك مادية فورباخ) هو أن الواقع والعالم الحسي كان ينظر إليها فقط على شكل موضوع التأمل وليس كنشاط إنساني ملموس في ميدان العمل، ليس ذاتياً”.(41)

 

بتعبير آخر: المادية البرجوازية هي مادية ميكانيكية. إنها تعامل الكائنات البشرية على أنهم سلبيون، كأنهم مجرد نتاج للظروف المادية، كأشياء. هي بقيامها بذلك إنما تعكس الوضع الفعلي للرجال والنساء في المجتمع الرأسمالي – العامل كملحق للآلة والعمل كعنصر للإنتاج معادل للعناصر الأخرى (الأرض والآلات، الخ) العمل الحي بوصفه خاضعاً للعمل الميت وجزاً منه، المادية الميكانيكية مع ذلك غير قادرة على الاتساق الكامل، فهي في شكلها المتسق تكون حتمية وجبرية كاملة، والفعل في العالم مستحيل على هذا الأساس. وبالتالي فهي تحتوي دائماً على فقرة استثناء لنفسها خفية بدرجة أو بأخرى، تعيد المثالية الدخول بواسطتها من خلال الباب الخلفي، باعتبارها معرفة أو علم أو أحياناً “إرادة” النخبة:

 

العقيدة المادية المتعلقة بتغير الظروف والتنشئة، تنسى أن الظروف والتنشئة، تنسى أن الظروف تتغير بواسطة الناس وانه من الضروري تعليم المعلم نفسه لابد لهذه العقيدة إذن أن تقسم المجتمع إلى جزأين أحدهما متفوق على المجتمع.(42)

 

تغلب ماركس على هذا التناقض من خلال مفهوم الممارسة: “إن اتفاق تغيير الظروف مع النشاط الإنساني، أو التغيير الذاتي، لا يمكن إدراكه وفهمه عقلانياً إلا كممارسة ثورية”(43). لقد كان النموذج، بالنسبة لمفهوم الممارسة هذا، هو العمل الإنساني، الوسيلة التي تشكل وتغير بها الإنسانية الطبيعية، وتخلق نفسها. يقول ماركس إن إنجاز هيجل المتميز:

 

هو أولاً أن هيجل يستوعب الخلق الذاتي للإنسان كعملية.. وانه يستوعب طبيعة العمل، ويفهم الإنسان الموضوعي (الإنسان الحقيقي لأنه واقعي) كنتيجة لعمله.(44)

 

ويواصل ماركس قائلاً: “إلا أن العمل كما يفهمه ويعترف به هيجل هو العمل العقلي المجرد”(45). استطاع ماركس أن يتخطي هيجل، وان يوقفه على قدميه ويعترف بالنشاط كنشاط عملي ملموس، باعتباره أساس الإنسان والتاريخ “الحقيقية البسيطة التي أخفيت في الماضي بفعل تضخم الأيديولوجيا”(46) لأنه، وفقط لأنه، رأي في البروليتاريا، أول طبقة منتجين مباشرين، قادرة على أن تحول المجتمع وتصبح سيدته. هذا الفهم لدور العمل والإنتاج يشكل نقطة الانطلاق المنهجية والإمبريقية للنظرية الماركسية في التاريخ. فمنه تم تطوير المفاهيم الماركسية الأساسية “قوى الإنتاج” و “علاقات الإنتاج” و “نمط الإنتاج” التي تبلغ أوجها بدورها في نظرية الثورة الاجتماعية:

 

في الإنتاج الاجتماعي لحياتهم، يدخل الناس في علاقات محددة، تتسم بالضرورة والاستقلالية عن إرادتهم، علاقات إنتاج تقابل مرحلة محددة في تطور قواهم الإنتاجية المادية، يكون المجموع الكلي لعلاقات الإنتاج هذه، الهيكل الاقتصادي للمجتمع الأساس الحقيقي الذي يقوم عليه بناء فوقي قانوني وسياسي، والذي تقابله أشكال محددة من الوعي الاجتماعي في مرحلة معينة من تطورها، تتناقض قوي الإنتاج المادية مع علاقات الإنتاج القائمة – أو – وهذا مجرد تعبير قانوني عن نفس الشئ مع علاقات الملكية التي كانت قوى الإنتاج تعمل في ظلها في السابق، تتحول هذه العلاقات من أشكال لتطور قوى الإنتاج إلي قيود لها.. هكذا يبدأ عهد الثورة الاجتماعية.(47)

 

عند هذه النقطة ينبغي أن نزيل خلطا هاما. لقد تعرضت المادية التاريخية كثيرا لتشويه مادي ميكانيكي تفسر جدلية قوى وعلاقات الإنتاج في إطاره كمجرد تضاد بين وسائل الإنتاج التقنية (القوى) ونظام الملكية (العلاقات)، وهو تضاد يحدث بشكل مستقل عن النشاط الإنساني، وبذلك يتم التوصل إلى نظرة حتمية تكنولوجية. في هذا التفسير يتم اختزال معنى مفهومي ماركس الأساسيين، بالنسبة لماركس قوى الإنتاج تعني ليس فقط الوسائل بمعني الأدوات والآلات، الخ.. وإنما القدرة الإنتاجية الإجمالية للمجتمع، بما في ذلك النشاط الإنتاجي للطبقة العاملة، “من بين كل وسائل الإنتاج، القوى الإنتاجية الأعظم هي الطبقة الثورية نفسها”(48). علاقات الملكية من جهة أخرى، ما هي إلا تعبيرا قانونيا عن علاقات الإنتاج، هكذا فإن التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ليس منفصلا عن الصراع الطبقي وإنما هو الأرضية ذاتها التي ينشأ الأخير على أساسها.

 

هذا البرهان النظري على أن المادية التاريخية هي التاريخ منظور إليه من وجهة نظر البروليتاريا هو أهم، كما أشرنا، من مسألة كيفية تطوير ماركس للنظرية، ولكن في الواقع هناك توازي شبه تام بين تكوينها التاريخي ومنطقها النظري. إن أول عرض شامل للمادية التاريخية كان الأيديولوجية الألمانية في 1845، وقد سبق هذا العمل مباشرة، نصان هامان هما، المخطوطات الاقتصادية والفلسفية 1844 ومقدمة نقد فلسفة الحق لهيجل. تبدأ مخطوطات 1844 ليس بالفلسفة أو الاغتراب وإنما بالصراع الطبقي، تقول جملة الافتتاح “تحدد الأجور بواسطة الصراع المر بين الرأسمالي والعامل”(49) التحليل الاقتصادي الذي يلي ذلك هو بمعايير ماركس اللاحقة، بدائي، ولكن ماركس يطرحه صراحة من وجهة نظر العامل، انه يهدف إلى إظهار أن:

 

العامل ينخفض إلى مستوى السلعة، وهي سلعة شديدة البؤس أيضاً، وان بؤس العامل يزداد مع قوة وحجم إنتاجه، وان النتيجة الضرورية للمنافسة هي تراكم رأس المال في أيدي قليلة، وبالتالي إعادة الاحتكار بشكل شديد الفظاعة، وأخيراً إن التفرقة بين الرأسمالي ومالك الأرض، وبين العامل الزراعي والعامل الصناعي، يجب أن تختفي لكي ينقسم المجتمع كله إلى طبقتين، وهي الملاك والعمال الذي لا يمتلكون شيئاً.(50)

 

في محاولة تفسير هذا الوضع، يحلل ماركس طبيعة عمل العمال. ينتج العمال ثروة الرأسماليين وبؤسهم هم، لأن عملهم مغترب، هكذا يصل ماركس إلى فهم الطابع المزدوج للعمل، العمل باعتباره الوسيلة التي يخلق الناس بها حياتهم وعالمهم، والعمل المغترب باعتباره الوسيلة التي يفسدون بها حياتهم ويخلقون بها عالما يقف فوقهم وضدهم وهو دور مزدوج يحمل ضمنياً إمكانية التحرر الإنساني، مع إلغاء العمل المغترب، وهو بذلك يشير بنقطة انطلاقة وكذلك نتيجة الفهم المادي للتاريخ.

 

ومع ذلك فإذا رجعنا خطوة أخرى إلى الوراء، إلى مقدمة نقد فلسفة الحق لهيجل (أوائل 1844) فإننا نجد بالفعل ما يبدو بعد ذلك كنتيجة تحليل العمل المغترب ونتيجة المادية التاريخية، نعني الدور الثوري للبروليتاريا: “عندما تعلن البروليتاريا القضاء على النظام الاجتماعي القائم، فإنما تعلن فقط عن سر وجودها، إذ أنها في الواقع القضاء على هذا النظام”(51)، وكما رأينا من قبل فان إدراك ماركس لهذا الدور، كان هو نفسه نتاجاً لخبرته مع حلقات العمال الثوريين في باريس. هكذا فمن الناحية النظرية والحياتية، يمكن تعقب فهم ماركس العام لتاريخ المجتمع إلى أساسه المادي – النضال البروليتاري.

  • Social Links:

Leave a Reply