الماركسية وأزمة اليسار العربي وسبل النهوض/ ج1

الماركسية وأزمة اليسار العربي وسبل النهوض/ ج1

غازي الصوراني – الهدف

 

تمهيد :

على الرغم من أن الماركسية حققت إنجازات ضخمة في الماضي ، إلا أن تواصل العملية التطورية التجديدية المرتبطة بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعاصرة ، مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لسيرورة الماركسية واستعادة دورها وتأثيرها في المرحلة الراهنة والمستقبل ، خاصة في مشهد الانتفاضة أو الحالة الثورية العربية الراهنة الذي يتوجب أن يكون حافزاً لكل قوى اليسار الماركسي العربي، لتكثيف النضال في آن واحد ، ضد كل من أنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف من جهة وضد التحالف الامبريالي الصهيوني من جهة ثانية، عبر منهجية ورؤية تنبثق من الوعي بكل جوانب المسار التطوري الحديث والمتجدد للماركسية من ناحية ، وتتلاءم تماماً مع مقتضيات ومتطلبات الواقع الاجتماعي العربي المعاش من ناحية ثانية، وهذا يعني أن تنأى بنفسها بعيداً عن كل مظاهر الجمود الفكري أو المذهبي ، إلى جانب تلافي أخطاء وخطايا التجربة الاشتراكية المنهارة ، خاصة مظاهر عبادة الفرد والبيروقراطية المقيتة وانعدام الحوار الديمقراطي الداخلي في أوضاعها الداخلية.

وفي هذا الجانب ، فإننا قد نتفق على أن تبني أحزاب اليسار  للماركسية منهجاً، – خاصة في حقبة الانتفاضات والتحولات السياسية والديمقراطية العربية – يجب أن ينطلق من كونها نظرية علمية،معرفية  ، هي جزء من صيرورة حركة الحياة ومتغيراتها التي لا تعرف الجمود أو التوقف، ما يعني بوضوح شديد رفضنا التعاطي مع الماركسية في إطار منهج أو بنية فكرية مغلقة أو نهائية التكوين والمحتوى، إذ أن الماركسية تكف عن أن تكون نظرية جدلية، إذا ما تم حصرها في إطار منهجي منغلق أو في ظروف تاريخية محددة، لأننا بالمقابل ندرك أن الانغلاق أو الجمود هو نقيض لجدل الماركسية التطوري ، الهادف إلى بلوغ الحرية الحقيقية التي تتجسد في الاشتراكية والتحرر الشامل للإنسان من كل مظاهر القهر والاستغلال والاضطهاد والتبعية.

فبالقدر الذي نؤمن بأن الماركسية إذا ما كفت عن تجديد نفسها إنما تكف عن أن تكون نفسها ، لذلك فإن جميع الماركسيين في كافة الأحزاب والحركات اليسارية على الصعيدين العربي والأممي، مطالبون بدراسة واقع بلدانهم وتطبيق النظرية على هذا الواقع تطبيقـاً خلاقـاً .

إن أهمية هذه الرؤية ، مرتبطة بما يجري من أزمات سياسية واقتصادية عالمية من جهة ، ومزيد من محاولات الاستغلال والسيطرة الامبريالية على مقدرات شعوب البلدان الفقيرة عموماً وبلدان وطننا العربي خصوصاً ،  بما يؤكد على عودة الماركسية المتطورة ، المستفيدة من كل خطايا وأخطاء التجارب السابقة من جديد وعلى الاشتراكية كخيار وحيد للمستقبل.

في إطار هذه الضرورة، ووعينا لها، تتبدى الماركسية كمنهج للتحليل وكنظرية في التغيير الثوري، إلى جانب الاستفادة من المسار التطوري والتجديدي للفكر الماركسي ما بعد لينين إلى يومنا هذا عبر العديد من المفكرين والمثقفين الماركسيين الذين قدموا إضافات نوعية في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، اغنت الماركسية كنظرية في التغيير الثوري وكمنهج للتحليل ، الأمر الذي يضع أحزاب وفصائل اليسار العربي أمام خيارين لا ثالث لهما ، إما استلهام ووعي المسار التطوري المتجدد للماركسية أو دخول هذه الأحزاب مرحلة التفكك والاندثار في انتظار الجديد، الذي سيولد حتماً من بين صفوفها أو من خارجها .

إن قراءتنا لبعض مؤشرات ومكونات المسار التطوري ، تعزز لدينا القناعة الراسخة أن الماركسية لم تندثر، بل من المستحيل تجاوزها ، وبالتالي نقول لكل من يعتبر أن الماركسية قد كفت عن كونها نظرية ثورية، انت مخطئ كل الخطأ، وكذلك الأمر بالنسبة لكل من يحكم على مستقبل الاشتراكية على ضوء حاضرها المأزوم، فلا زالت شعوب ما يسمى بالعالم الثالث تعاني من: السيطرة الامبريالية والتبعية والتخلف، و التفاوت الطبقي, والاستغلال والقهر الطبقي, ولم يحدث في تاريخ البشرية أن بلغ إستغلال فائض القيمة للشعوب الفقيرة والتابعة ، والقهر الاجتماعي والإفقار، المستوى الذي وصل إليه اليوم، إلى جانب كل أشكال العدوان والحروب التي تمارس لحماية مصالح النظام الرأسمالي كما هو الحال في بلادنا. ما يعني أن الاشتراكية اليوم باتت ضرورة حتمية كتتويج للديمقراطية والحداثة وتخليص مجتمعاتنا من كل مظاهر التخلف والتبعية والاستغلال والاستبداد، إذ ليس ثمة خيار آخر –خاصة لبلداننا العربية والعالم الثالث- فإما الاشتراكية أو مزيد من التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد.

ولهذا أرى أن من واجب قوى اليسار الماركسي العربي، ان تكون معنية بتحديد الموضوعات الأساسية التي يشكل وعيها، مدخلاً أساسياً لوعي حركة وتناقضات النظام الرأسمالي من جهة، وحركة واقع بلدانها بكل مكوناته وآفاق صيرورته التطورية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة ثانية، انطلاقاً من إدراكها الموضوعي، بان التعاطي مع الماركسية ومنهجها بعيداً عن كل أشكال الجمود وتقديس النصوص ، كفيل بتجاوز أزمتها الراهنة ، إذا ما أدركت بوعي عميق طبيعة ومتطلبات واقع بلدانها بكل جوانبه الاقتصادية والسياسية والمجتمعية.

حول  ” أزمة ” الماركسية الراهنة ومستقبلها في البلاد العربية :

إن جذور أزمة الماركسية في الوطن العربي تكمن في هذا التراجع الفكري أو النظري، إلى جانب حالة الاغتراب عن الواقع، بسبب فشلها في وعي الواقع واستيعاب جوانبه ومكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية…إلخ ، حيث استمرت طوال العقود الماضية في رفع شعارات او مبادئ لا تجسد الواقع أو تعكسه بصورة جدلية وموضوعية صحيحة، ما يعني بوضوح ان الحركات اليسارية لم تدرك أن المبادئ لا تصلح نقطة انطلاق للبحث والتحليل والتنقيب، بل هي نتيجتها الختامية. فالمبادئ لا تطبّق على المجتمع والطبيعة والتاريخ بل تُشْتَقْ منها، فليس على الواقع والتاريخ أن يتطابقا مع أفكارنا, بل على أفكارنا أن تتوافق وتتطابق مع قوانين حركة الواقع ومنطق التاريخ، هذا هو الدرس الرئيسي الذي يتوجب على قوى اليسار العربي أن تستوعبه في وعيها وممارستها، دون أن يعني ذلك تجاوزاً للتطور الاجتماعي والطبقي المشوه ، لمجتمعاتنا العربية ، طوال التاريخ الحديث والمعاصر ، وبالتالي فإنني أرى أنه ليس من المغالاة في شيء، إذا قلنا بأن ما يسمى بأزمة الماركسية في بلادنا ، هي انعكاس –بهذا القدر أو ذاك- لأزمة وتخلف المجتمع والفكر السياسي العربي ارتباطاً بالمسار التطوري التاريخي المشوه .

وفي هذا السياق ، أؤكد على أن أزمة الماركسية عندنا، تتجلى في كونها تعيش حالة قطيعة أو إرباك مع تراثها، ارتباطاً بالأزمة الفكرية لدى أحزاب اليسار العربي، وهذه الأزمة أسهمت في ضياع بوصلة تلك الأحزاب، الفكرية والسياسية، ليس بسبب التبعية الميكانيكية تاريخياً للمركز في موسكو، أو بسبب الوعي المسطح أو البسيط على مستوى الاعضاء فحسب، بل أيضاً بسبب هشاشة وضعف الوعي في معظم الهيئات القيادية ، التي عاشت نوعاً من غياب الوعي الماركسي أو اللامبالاه – والرفض العلني أو المبطن- للفكر الماركسي، إلى جانب الاغتراب أو العزلة عن قواعدها التنظيمية وجماهيرها، فضلاً عن حالة الجمود الفكري والتنظيمي البيروقراطي و تراكم المصالح الطبقية الانتهازية بتأثير العلاقة مع هذه السلطة أو هذا النظام أو ذاك.

كما تجلت الأزمة أيضاً ، في المنتسبين إلى هذه الأحزاب وهيئاتها القيادية، لا سيما ضعف وعيهم للدور الذي على الماركسية أن تقوم به في مجتمع متأخر تابع ومستباح، وبالتالي الضعف الشديد لتأثيرهم أو غيابه في أوساط الجماهير ، بدليل اشتعال الانتفاضات العربية دونما أي دور ملموس لأحزاب وقوى اليسار فيها ، التي غيبت نفسها بسبب تفاقم أزماتها ، وعجزها وقصورها الذاتي على الرغم من نضج الظروف الموضوعية المتمثلة في الاستلاب الوطني الناجم عن وجود القواعد العسكرية والاحتلال الصهيوني من جهة وفي الاستلاب والاستبداد الطبقي الناجم عن شدة بشاعة استغلال الطبقة الحاكمة وحلفائها لجماهير الفقراء اللذين خرجوا بالملايين مشاركين في الانتفاضة بصورة عفوية ، سرعان ما احتضنتها قوى الإسلام السياسي والقوى الليبرالية ، إلى جانب قوى الثورة المضادة ، في ظل غياب محزن للطليعة اليسارية المدافعة عن أماني وأهداف الجماهير .

  • Social Links:

Leave a Reply