الرجل الذي لم يكن يعرف الحياة الخاصّة
وائل السوّاح
تسنّى لي معرفةٌ شخصيةٌ بمعظم القادة السياسيين في المعارضة السورية. وأزعم أنهم جميعا يحملون نوايا حسنة ويسعون إلى تحقيق هدفهم في مستقبل جديد لسوريا جديدة. ولكن قلّة منهم فقط هم الذين كانوا يحملون في صدورهم سوريا همّا وأملا وحلما جميلا، كما كان منصور الأتاسي يفعل.
كانت سوريا بالنسبة لمنصور هاجسا يوميا أو لحظويا. لم تنفكّ عنه ولم ينفكّ عنها. كان يشربها مع قهوة الصباح ومع قدح المساء، ولم يكن في أحاسيسه وأحاديثه وكتاباته أحد أو شيء سواها. وغالبا ما كنت أداعبه فأقول له: “كيف لا تغار أم مطيع من القضية التي تأخذك بعيدا في كلّ لحظة؟”
لم يكن أبو مطيع يعرف ما الحياة الخاصة، فكانت حياته كالقطّاع العام ملكا لجميع السوريين. يمكنك الاتصال به آناء الليل وأطراف النهار إذا ما كانت لديك حاجة، ولم يكن ليصدّك أبدا.
تعرّفت عليه في مراهقتي، إذ كان صديقا لأخي بشار، وكان الاثنان عضوين ناشطين ملتزمين في الحزب الشيوعي السوري، قبل الانقسامات جميعها. وأثناء الانقسام الأول في 1972، بقي أبو مطيع في صفوف الحزب الذي يقوده خالد بكداش، ثم في الانقسام الثاني، خرج في صفوف الحزب الذي قاده يوسف الفيصل، قبل أن يعود ثانية إلى صفوف بكداش، قرفا من امّحاء شخصية الشيوعيين بالنظام، ويخرج ثانية مع قدري جميل، فقط ليكتشف أن الأخير أسوأ من بكداش وفيصل، فخرج ليؤسس تيارا جديدا، يساريا ديمقراطيا، يستقي من الماركسية خير ما فيها ومن الفكر الليبرالي والديمقراطي خير ما فيه، وصولا إلى تأسيس حزب اليسار الديمقراطي، الذي كان نسيج وحده في الحراك السياسي السوري.
وبينما كان الشيوعيون بمعظمهم يتجمعون حول أنفسهم في عصبوية حزبية رخيصة، كان منصور يفتح أبواب بيتِه ومكتبِه وصدرِه للحوار مع كلّ التيارات السياسية في سوريا. حين كنت شابا غرّا ومتحمسا ونشطا في رابطة العمل الشيوعي، كنت آتي من دمشق إلى حمص، فيستقبلني أبو مطيع في بيته أو في مكتبه، باشّا، مرحّبا، ويخوض معي حوارا طويلا هادئا ومعمّقا، حوارَ الندّ للدّ، دون أن يجعلني أشعر بالفرق الثقافي والسياسي بيني وبينه. وكذلك كان يتحاور مع كافة الطيف الشيوعي والمعارض وبعض الموالاة، بنفس الروح والصبر والأناة. وحين خرج رياض الترك من المعتقل في 1998، كان منصور أول من استقله واهتم به، وساعده في تلمّس طريق الحرية، وعرّفه على الخارطة السياسية التي استجدت في غيابه الطويل.
وحين انتخب منصور عضوا في المكتب التنفيذي لمدينة حمص، كان بابه مفتوحا دوما لأي شخص، بينما كانت أبواب معظم الأعضاء الآخرين موصدة في وجه الحماصنة، وخرج منه/ كما دخل، نظيف اليد والقلب واللسان، بينما راكم من كان أقلّ منه منصبا الثروات والعمارات.
ولعلّ منصور أحد الماركسيين الحقيقيين في سوريا، فمعظم الشيوعيين السوريين لم يعرفوا ماركس ليكونوا ماركسيين، واستمدوا ثقافتهم من منشورات دار التقدم والترجمات شديدة الفقر للمترجمين الروس لكتب لينين وستالين. بالمقابل، فهم منصور روح ماركس الحقيقية، وأذكر أنه حين نشرت المخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844 باللغة العربية في عام 1974 (نشرت لأول مرة في 1932 وكان تداولها ممنوعاً بشدة في روسيا الستالينية) تحمّس لها منصور، فيما كانت قيادة الحزب، تنظر بعين الريبة والشك إلى كتابات ماركس المبكّرة.
ورغم أنه كان ماركسيا-لينينيا، إلا أن تفكيره ظلّ حرّا ومستعدّا لقبول الأفكار الأخرى حتى ولو ناقضت النظرية التي يؤمن بها. في عام 1997، كان يهيئ لإصدار عدد خاص من المجلة التي كان يرشف على تحريرها عن الذكرى الستين لثورة أكتوبر، وطلب مني أن أكتب مادة. وأذكر أنني كتبت مادة بعنوان الأخطاء القاتلة الثلاثة للينين، وبينت فيها أن لينين ارتكب – برأيي – ثلاثة أخطاء كبيرة هي التي أدت إلى انحراف الثور الروسية والفكر الشيوعي عموما وهي نظرية الإمبريالية والتحالف مع الفلاحين ودور الحزب الثوري. قرأ منصور المادة، وفكر فيها طويلا، وقال لي إنه يختلف معي كثيرا ويتفق قليلا، ولكنه يحترم موقفي من لينين وثورة أكتوبر والشيوعية ككل.
وحين اندلعت الثورة السورية، كان بين قلة قليلة من قيادات الحركة الشيوعية الذين دعموا الثورة بكلّ طاقتهم. وبينما اصطفّ معظم الشيوعيين مع النظام الفاشي في دمشق، ودافعوا عن الجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبها وما يزال، كان منصور أتاسي قد وجد نفسه، ومن حوله من شباب الحزب الذين كانوا يضعون ثقتهم فيه شخصيا أكثر مما يضعونها في قيادة الحزب، في صفّ الثورة. ومنذ الأيام الأولى لم يتردّد في الانخراط في الثورة ودعمها وفي التغريد وحيدا تقريبا خارج سرب الشيوعيين الذي اصطفوا بشكل مخزٍ مع زمرة القتلة والفاسدين ومنتهكي حقوق الإنسان، بحجة الشعارات الكبيرة الفارغة.
وحين ضاقت به السبل في وطنه، هجر الوطن إلى إستنبول، ولكنه ظلّ يحمله همّا يوميا، كان يسكبه في قلوب الشباب الذين التفوا حوله ثمّة كما التفوا حوله في حمص. وكان منصور يقول: إذا أجبرنا على الاختيار بين النظرية والحياة فسنختار الحياة.
وبقدر ما كان منصور بيّن العريكة في تقبلع للآخر وتفهمه للخلاف، كان عنيدا في مواقفه المبدئية. ويبدو ذلك واضحا في مواقفه من الثورة السورية، فحين كان البعض نوس بين الأفكار والمبادئ والقيم، كان منصور واضحا في رؤيته وضوح السيف. ودعوني أقتبس ما كان هو نفسه يقول في هذا الصدد:
“1. ما يجري حتى الآن في سورية هو ثورة شعب ضد نظام مستبد، وليس حربا أهلية بين طوائف متصارعة، رغم وجود احتقان ناجم عن أمور مختلفة لسنا بصدد تعدادها، ولا يزال جيش النظام هو الذي يقتل الثوار ويهدم المدن.
. والصراع ليس بين الثورة والنظام فقط، بعد أن تدخل قوى دولية لدعم النظام المتهالك والمتهاوي بسبب الصمود الأسطوري لشعبنا الباسل والصامد والمعذب، وكل العبارات التي يطلقها الروس أو الإيرانيون أو غيرهم من أصدقاء النظام هي عبارات تضليلية في ظروف محاربتهم للثورة السورية وقتلهم لشعبنا.
3-. الثورة هي بطبيعتها ديمقراطية ومن يتصدى للحوار من أجل نقل السلطة هي قوى تتبنى الديمقراطية والحل الديمقراطي ومن يواجهها ويرفضها هو النظام المستبد وأصدقاؤه القتلة من جهة. والتيارات المتطرفة التي تتخذ الدين غطاء لتنفيذ أهدافها السياسية مثل داعش والنصرة.
4. تطرف النظام أنتج التطرف المقابل ولن يقتل أو يهزم التطرف المقابل دون رحيل النظام المنتج الرئيسي للتطرف.”
قابلته في إستنبول قبل أسابيع من رحيله، كان مريضا ولكنه أصرّ على دعوتي للغداء برفقة بعض الصدقاء الجميلين، وسيّر كعادته الحوار بذكاء لكي يستخرج من كلّ منا خير ما فيه. كان مرهقا بشكل واضح، وقد أتعبه صعود الدرج، فجلس يلهث حتى ارتاح. وودعته بعد ساعات دون أن أعرف أنها المرة الأخيرة التي ألتقيه فيها. تركته وأنا أتذكر عبارة قالها لي وهو يودعني: “لن نصل غدا ولكننا سنصل!” كان يسحرني بتفاؤله المستمر، وحين كنت أسأله عن سرّ تفاؤله، كان يقول: “هذا الحراك ليس حراكنا أنا وأنت. إنه حراك السوريين كلّهم، ولذلك أنا متفائل.”
Social Links: