منصور أتاسي: القيمة والمكانة المفتقدة
عبدالرحمن مطر
عام مضى، لم يشاركنا فيه منصور أتاسي، مناقشاته العميقة، حول ما يجري بشأن قضية الحرية، والعمل من أجل النهوض ببلدنا، وانتشاله مما آل إليه، والسعي نحو الخلاص، بمساهمة جادة وحقيقية من المثقفين الذين يجب التعويل على دورهم الأساسي، في ظل تراجع قاسٍ ومؤلم لدورهم، سواء بفعل الإقصاء واللتهميش المتعمدين، أو نتيجة لتأثيرات الخيبة التي تنهش كل شئ.
لكنه لم يغب عنا، هو الحاضر فينا إذن، نستدعي حضوره الجليل، أنّا كان اشتغالنا. وعلى الرغم من المسافة الشاسعة في المكان، ومرور السنوات الخمس، على آخر لقاء مع أبي مطيع، ما زلت أتلمس أثراً لا يُمكن محوه مع مرور الزمن، أثراً في الروح يُثري حياتنا، مثل أمل يوّلد بهاء ديمومته، ويفيض بدفق رؤيته الثاقبة، وبصيرته الصائبة. مضى عام، وما زلت أشعر بالعجز عن الكتابة عن منصور اتاسي: أيمكن أن نكتب عن نهر دافق متجدد في لحظة ما ؟
أجدني منحازاً بصورة كلية الى الراحل، المناضل الذي عرفته عن قرب، وتلمستُ أفكاره، ومواقفه. وقبل كل ذلك الإنسان النبيل، والمثقف المحاور، الذي كان يجد وسيلة ملائمة لفتح أبواب الحوار والنقاش في أية قضية تخص السوريين، وفي مقدمها القضايا الملّحة: الأكثر تعقيداً، وراهنية، وتسبب توتراً وتثير عصبيةً ما.
غير أن ذلك، مع منصور اتاسي، كان أمراً مختلفاً. فقد داعية الى الحوار، الى التعاون والتنسيق، والحث في المشتركات بين القوى السياسية، والتيارات الوطنية المختلفة، والعمل على تعزيزها، وإبرازها، بما يمكن من خلق إطار عام إيجابي للتفاهم. هذه المسائل التي مانزال غير قادرين على الوصول إلى لحظتها – في مجتمع الثورة السورية – برغم الوعي التام بها، وبضرورتها، مع انقضاء تسع سنوات من عمر الانتفاضة الشعبية السورية ضد التسلط والاستبداد الأسدي.
بغيابه، انقطعت قناة حوار وتفاعل مهمة. فتح طيقا مهمة وعمل بداب وإخلاص فريدين في وقتنا الراهن، وكان منصور أتاسي يراهن على النجاح بأمل كبير، على الرغم من شواهد الإحباط المريرة. لذلك فإن غيابه يمثل خسارة مؤثرة، أشعر بها بصورة مباشرة، كشخصية وطنية نضالية ومثقف وسياسي سوري بارز.
عرفت منصور أتاسي، مناضلا شيوعياً نقابياً صلباً في حمص، لم تكن بيننا معرفة مباشرة، ولا أذكر أنني التقيته خلال سنوات إقامتي في حمص لأداء الخدمة الوطنية ( 1981- 1985) وكان انشغالي بالجوانب الثقافية والإعلامية، أساسياً، دون الاهتمام بالعمل السياسي. لكنني صافحته للمرة الأولى، وأنا أشعر بالاعتزاز، وهو يجر كرسياً، يقدم لي نفسه، ونحن في صف آخير قصي في قاعة كبرى في اسطنبول، اثناء انعقاء المؤتمر التأسيسي لاتحاد الديمقراطيين السوريين، وكان حديث الوصول من القاهرة، كما أذكر، والى جانبنا الكاتب والصحفي عدنان عبدالرزاق الذي ألتقيه للمرة الأولى أيضاً.
ثقافة رفيعة، وفهم عال للتحولات والتغيرات، وقدرة على استقراء المستقبل. حرص وطني، وتواضع جمّ، هذا هو انطباعي الأساسي عنه، في لقائنا الأول، ثم عرفت فيه خصالاً أخرى: نبله وشهامته وكرمه الأصيل وأخلاقه الرفيعة.
كنتُ قد بدأت تنظيم ندوات باسم مركز الدراسات المتوسطية، في اسطنبول، ثم المنتدى الثقافي السوري المتوسطي، لم يتخلف عن حضورها، وإن حدث فإنه يرسل أحدا ليشاركنا. كما لم يتخلف عن أي نشاط عام لدعم الثورة السورية، سواء أكان حلقة نقاش، أم وقفة احتجاجية، مهما كانت الظروف الصحية أو الطقس. كان منصور أتاسي في المقدمة، على الدوام.
أذكر جيداً، اتصاله المبكر، وهو يدعوني للقاء به، في مقهى قريب من منزله، ليطرح فكرة إقامة لقاء حواري يستضيفه في بيته، لم يتأخر في الدعوة إليه، بصورة دورية، يحضره شخصيات سورية من مختلف التيارات، والقوميات، والأجيال. ويدير حواراً هادئاً يتميز بالموضوعية، ويفسح المجال لتبادل الأفكار والآراء بحرية ومسؤولية. وكان يجتهد في التحضير لذلك بجدية، ويحث الجميع على المشاركة وطرح ورقة عمل لكل جلسة حوار، لا تنهي مع مغادرة الجلسة، لكن أبي مطيع، كان يواصل الحوار فيها ومتابعة الأفكار، ويضع الخلاصات والأفكار، كي تتحق الفائدة المرجوة من اللقاء. وفي بيته، هناك، تعرفت الى عدد من الشخصيات الوطنية السورية، التي تحظى بالتقدير والاحترام.
طوال إقامتي في اسطنبول، كنت التقي منصور أتاسي، استمع إليه، ويستمع بإنصات شديد إلينا ونحن نتحدث، مرتين أحيانا في الأسبوع الواحد. يدعونا الى المقهى، او إلى بيته، أو أننا نلتقى بدعوة من صديقنا المشترك عمار المصارع. وحين غادرت باتجاه نيويورك عابرا الى كندا، شربت فنجان قهوة أخير مع الراحل أبي مطيع، الذي لم يتوقف عن المتابعة والاتصال والمناقشة، وكان يشرفني بإعادة نشر مقالاتي في الرافد، بعد نشرها في صحيفة الرائد التي كان ينشرها الصحافي الصديق عمار المصارع، أو في المواقع والصحف الأخرى: العرب اللندنية، أورينت، أو موقع جيرون.
قبيل اشتداد مرضه ورحيله، بفترة غير طويلة، كان اتصاله الأخير، يحث على المناقشة وأهمية الحوار ونقل التجارب الى أجيال السوريين في مختلف أماكن تواجدهم، عبر العالم.. وكان حديثاً مطوّلاً، يصعبُ عليّ نسيانه، لقيمة منصور أتاسي ومكانته في قلبي، ولطفه ودماثته، وإيمانه المطلق بأهمية الحوار والنقاش في حياة الناس، وفي العمل المشترك من أجل المستقبل، وفي الانفتاح على الجميع، دون استثناء.
لذلك لا يمكن أن يُنسى، ومن النادر أن يتكرر، ونفتقده في ظل الحاجة إليه، وإلى أمثاله كمناضل وطني مبدئي، صلب ومثابر.
Social Links: