الماركسية وأزمة اليسار العربي وسبل النهوض   بقلم غازي الصوراني ج 2

الماركسية وأزمة اليسار العربي وسبل النهوض   بقلم غازي الصوراني ج 2

غازي الصوراني – الهدف

نستنتج مما تقدم ، إلى أن ما يوصف بأنه ” أزمة الفكر” لدى أحزاب اليسار العربي هو في الحقيقة أزمة الممارسة بسفحيها: النظري والعملي، فثمة بون شاسع بين الممارسة النظرية، مثلاً، وبين انتقاء وجمع وتوليف مجموعة من الأفكار والمبادئ والتصورات، قُطعت عن منظومتها الفكرية، وانتُزعت من سياقها التاريخي ، عبر مسميات خجولة أزاحت النص الصريح بالالتزام بالماركسية ، لحساب نصوص تلفيقية أو توفيقية أو تحريفية، أو عناوين استرشادية جاءت انسجاماً مع مواقف العديد من الأحزاب الشيوعية التي تخلت عن اسمها أو بعض الفصائل والحركات الأخرى التي اتجهت صوب الخلط الفكري بين الليبرالية والماركسية ، أو حتى شطب الماركسية من أدبياتها، ذلك الخلط أو الشطب، سيعزز تراجعها المتصل، وتهميشها وسيعجل بنهايتها.

على أي حال، إن التخلي عن الماركسية أو الارتداد عنها والتنكر لها ، ليس موقفاً جديداً مرتبطاً بانهيار الاتحاد السوفياتي أو بالواقع العربي المهزوم ، بل هو ظاهرة نشأت منذ نشوء الماركسية، من خلال العناصر والقوى اليمينية التي وجدت في الماركسية خطراً شديداً على مصالحها ووجودها ، لكن ” الماركسية” بمضمونها السياسي والاجتماعي ودلالاتها ومؤشراتها المستقبلية بالنسبة لتحرر وانعتاق العمال والفلاحين وكل الفقراء والكادحين في هذا الكوكب ، خاصة في البلدان المستعمرة والتابعة ، كما هو حال بلداننا العربية، الذين لن يجدوا خلاصهم إلا من خلالها ، لذلك ، فإن البحث في “أزمة الماركسية” –ولا نقول فشلها- هو بحث في الماركسية ذاتها، -كما يقول ” الصديق سلامة كيلة- وإذا كان من حق اي كان، ان يتخلى عن افكار ويعتنق أفكار أخرى نقيضة، فانه ليس من حق احد اصدار حكم بالتجاوز او النفي على تيار فكري من اجل تبرير هذا التخلي، خصوصاً اذا كان الحكم بلا حيثيات سوى البعد الذاتي ومبرراته الانتهازية الأنانية الصريحة.

بالطبع ، إننا ندرك أن هناك أسباباً ذاتية وموضوعية متعددة ومتنوعة المبررات والذرائع بالنسبة لمظاهر التخلي او التراجع عن الماركسية أو البحث عن الصيغ التوفيقية هروباً من الالتزام بجوهرها الثوري ، وهي أسباب  جعلت البعض ممن كانوا في أحزاب وفصائل اليسار أو على هامشها ، يتجهون بوجهات نظر فردية تفتقر للموضوعية وأقرب إلى الانتهازية ، تروج لأفكار الليبرالية الجديدة بدوافع مصلحية كما في الكثير من منظمات NGO’S أو بدوافع سياسية هابطة ومهزومة .

إضافة إلى كل ما تقدم، نستطيع الكشف عن مظهرين آخرين من مظاهر أزمة الماركسية في البلدان العربية ، أولهما: عدم استخدامها كفلسفة نقدية في تشخيص ودراسة خصوصية التطور الاجتماعي الاقتصادي العربي، وانماطه وثقافته المختلفة كلياً عن الانماط التي سادت في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، والثاني: عدم تمحورها على المستقبل، بسبب عدم توجيهها صوب فكرة الثورة الديمقراطية والتقدم بوصفها عملية تَخَطِّ وتجاوز مستمرة، ليس لأنظمة التخلف والمشيخات القبلية الشبه إقطاعية فحسب ، بل أيضاً لما كان يسمى بأنظمة “البرجوازية الوطنية ” .

وهذا يحيلنا إلى الحديث عن أزمة المجتمعات العربية ، التي ينطبق عليها ما كتبه ماركس في مقدمة الطبعة الأولى من “رأس المال”، عام 1867 حيث يقول : “إلى جانب الشرور الحديثة، أو الآلام في العهد الحالي، علينا أن نتحمل سلسلة طويلة من الأمراض الوراثية الناتجة عن بقاء أساليب إنتاج بالية، تخطاها الزمن، مع ما يتبعها من علاقات سياسية واجتماعية أضحت في غير محلها زمنياً، والتي تولدها تلك الأساليب، ففي مثل هذه الأحوال، ليس علينا أن نعاني فقط الآلام بسبب الأحياء، وإنما بسبب الموتى أيضاً: فالميت يكبل الحي”[1]، هذا التحليل الذي قصد به ماركس الدولة الألمانية آنذاك، ينطبق على الوضع الاجتماعي الاقتصادي والسياسي والثقافي  العربي عموماً، وعلى جوهر الأزمة الاجتماعية فيه بشكل خاص، حيث نتفق على أن ذلك الجوهر الكامن في بنية النظام العربي، وهي بنية رأسمالية تابعة ومشوهة ورثة ، كان السبب الرئيسي في انتفاضة الجماهير الشعبية ورفعها لشعارات “اسقاط الرئيس” و “اسقاط النظام” من أجل حريتها وانعتاقها ، ومن أجل إزالة كل أسباب ومظاهر معاناتها السياسية والاجتماعية .

لذلك من المهم تشخيص وتحليل الأوضاع  والمتغيرات الاجتماعية / الطبقية في المجتمعات العربية ، طوال مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية عموماً ، ومرحلة ما بعد هزيمة حزيران وغياب عبد الناصر، وصولاً إلى الانفتاح الساداتي ، وكامب ديفيد وصولاً إلى أوسلو ووادي عربة  ،  وبداية التفكك وانهيار ما كان يسمى بالنظم التقدمية والحركات الوطنية خصوصاً ، بما يمكننا من ادراك جوهر الطابع الموضوعي لأزمة الماركسية من خلال ادراكنا للمسار التطوري لأزمة المجتمعات العربية ، وهي أزمة تاريخية عميقة تعود في جوهرها إلى أن البلدان العربية عموماً لا تعيش –حتى لحظة الانتفاضات الثورية الراهنة- زمناً حداثياً أو حضارياً، ولا تنتسب له جوهرياً، وذلك بسبب فقدانها، بحكم تبعيتها البنيوية، للبوصلة من جهة، وللأدوات الحداثية، الطبقية و الحضارية والمعرفية الداخلية التي يمكن أن تحدد طبيعة التطور المجتمعي العربي ومساره وعلاقته الجدلية بالحداثة والحضارة العالمية أو الإنسانية.

فعلى الرغم من دخولنا القرن الحادي والعشرين،إلا أننا –في البلدان العربية- ما زلنا في زمان القرن الخامس عشر قبل عصر النهضة، أو في زمان “ما قبل الرأسمالية”،  وبالتالي ما قبل المجتمع المدني، على الرغم من تغلغل العلاقات الرأسمالية في بلادنا، والشواهد على ذلك كثيرة، فالمجتمع العربي لم يستوعب السمات الأساسية للثقافة العقلانية أو ثقافة التنوير، بمنطلقاتها العلمية وروحها النقدية التغييرية، وإبداعها واستكشافها المتواصل في مناخ من الحرية والديمقراطية كما يقول الصديق هشام غصيب، ففي غياب هذه السمات يصبح من الصعوبة بمكان على الجماهير الشعبية المضطهدة ، إدراك الوجود المادي والوجود الاجتماعي والدور التاريخي الموضوعي للأفكار التوحيدية الكبرى، النضال الطبقي، متوازياً مع النضال التحرري ضد ممارسات  التحالف الامبريالي الصهيوني  واستغلاله البشع لثروات شعوبنا ، كما يصعب عليها أيضاً ادراك اهمية  النضال بالمعنى الاجتماعي المطلبي والسياسي الديمقراطي ، والتطور التنموي المستقل ، والاشتراكية ، والوحدة العربية، ادراكاً ذاتياً بحكم عفويتها ، وهنا تتجلى الأهمية التاريخية والعاجلة ، لدور القوى الثورية ، الماركسية تحديداً ، في الاندماج العضوي، سياسياً وفكرياً واجتماعياً ، داخل فسيفساء الشرائح الاجتماعية الفقيرة المضطهدة، بهدف توعيتها ، ورفع سوية تفكيرها العفوي إلى درجات الوعي الطليعي، بالمعنى النسبي، من خلال تنظيمها، والتوسع في صفوفها وتأطيرها ليس في إطار الحزب فحسب ، بل أيضاً  ، في مختلف المنظمات الجماهيرية ، النقابية والأهلية والنوادي والمدارس والجامعات … إلخ ، لكن ممارسات احزاب وفصائل قوى اليسار العربي ، لم تكن – على الرغم من كل تضحياتها ونضالاتها – في مستوى تحقيق  هذا الهدف ، ما يعني بوضوح أن هذه القوى ، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، عاشت حالة قريبة من التفكك والتراجع ليس على المستوى التنظيمي والشعبي ، بل أيضاً على المستوى الفكري أو الأيديولوجي ، بحيث بات معظم هذه القوى أقرب إلى هذا النظام العربي أو ذاك بذريعة التحالفات في إطار ما يسمى بـ”جبهات تقدمية” لا وجود لها على الأرض أو بين الناس ، ما يؤكد على الطابع الانتهازي لهذه التحالفات أو أي صيغة أخرى مشابهة  كما هو الحال في إطار سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود و قيادة م.ت.ف .

بالطبع إن تخلف المجتمع وتخلف علاقات الانتاج والعلاقات الاجتماعية السائدة فيه، بسبب استمرار وجود وتأثير الانماط الاجتماعية القديمة، العبودية في بعض البلدان ( اليمن والخليج والسعودية) والعشائرية أو القبائلية وبقايا الاقطاع، جنباً إلى جنب مع العلاقات الرأسمالية التابعة وبعض مظاهر الحداثة الشكلية الاستهلاكية المترفة والباذخة المرتبطة بها ، بحيث يمكن القول أن مجتمعاتنا العربية مازالت تعيش نوعاً من اختلاط الانماط الاقتصادية والاجتماعية ذات السمات الشرقية ، إلى جانب تراكم وتجذر عوامل التبعية للاستعمار ثم النظام الامبريالي، التي لعبت الدور الرئيسي في تكريس ذلك التخلف وإعادة تجديده .

إلا أن كل هذه السمات أو الأوضاع التي تشكل جوهر البنية المتخلفة للمجتمعات العربية – مع تفاوتات أو فوارق نسبية – لا تلغي مسئولية العامل الذاتي أو الأحزاب الشيوعية وفصائل اليسار في تشخيص وتحليل واستيعاب ووعي مكونات هذا الواقع –السياسية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية- وفق المنهج الماركسي، ومن ثم بلورة الرؤية والبرامج المطلوبة لمراكمة وانضاج عملية التغيير الديمقراطي الثوري لهذه المجتمعات ، لكن جمود هذه القوى عند نصوص “مقدسة” لماركس أو لينين أو نصوص مقدسة في المادية التاريخية –على سبيل المثال- ، خاصة فيما يتعلق بتطور الانماط أو التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية ، التي تحدث عنها ماركس، من المشاعية إلى العبودية ، إلى الاقطاع و الرأسمالية ، بدون اللجوء إلى التحليل التاريخي للسمات الخاصة التي ميزت تطور المجتمعات العربية وفق أنماط انتاجية شرقية إو آسيوية أو خراجية أو غيرها، وهي كلها سمات تختلف عما طرحته المادية التاريخية للمجتمعات الأوروبية.

وفي هذا الجانب أشير إلى أن جمود الأحزاب الشيوعية لم يكن متوقفاً عند النصوص فحسب، بل كان ممتداً ومنتشراً بحيث أصاب روح التغيير الديمقراطي والتحرري الثوري لدى قيادة هذه الأحزاب، ومن ثم كان من الطبيعي أن تتراكم الازمات الداخلية بكل مظاهرها الفكرية والسياسية والتنظيمية دون أي مخرج – بسبب عجز وضحالة وعي معظم القيادات – سوى اللجوء إلى إدارة الأزمة بأزمة أخرى أشد بشاعة، عبر التكتلات والشلل، والمحاسيب ، مما ادى إلى تفاقم الأوضاع المأزومة، التي انتجت بدورها مزيداً من التراجع والعزلة التي تزايدت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتشار حالة من الفوضى الفكرية، ولجوء بعض هذه الأحزاب إلى الأفكار والسياسات الليبرالية لتبرر انتهازيتها وهبوطها السياسي والفكري ورخاوتها التنظيمية ، الأمر الذي ينذر باسدال الستار عليها إذا لم تبدأ عملية مراجعة نقدية لكل ممارساتها صوب النهوض.

صحيح أن الماركسية هي منهج أفكار ماركس , و “مذهبه” ، لكن علينا أن ندرك أن كل من الأفكار، و”المذهب”، محدودان ومحددان بالزمان والمكان، ولذلك فإن أهم مظهر من مظاهر أزمة الماركسية في بلادنا ، هو جمودها على النص القديم او “المذهب”، وافتقارها أو عجزها عن التعامل مع روح المنهج المادي الجدلي وجوهره التاريخي، وبالتالي عجزها عن اكتشاف جدل الواقع العربي ذاته وميول تطوره، إذ لا يمكن موضوعياً الحديث عن المنهج المادي الجدلي بدون الماركسية، وبالتالي فإن الهروب من الماركسية باسم المنهج الجدلي خطوة تؤشر على نزعة انتهازية تسعى إلى الهروب من التراث الماركسي كله ، وهي أيضاً خطوة تؤكد على انتصار التيار الليبرالي الانتهازي الرث داخل هذه الأحزاب من جهة، أو تجسيد لعدم الوعي بأهمية اعتماد الماركسية كشرط للتعاطي مع المنهج المادي الجدلي من جهة ثانية، إذ أن معنى ذلك الشطب للماركسية، ليس استجابة للتيارات الدينية الرجعية وغيرهم من أعداء الماركسية فحسب، بل هي أيضاً إزاحة مفاهيم الصراع الوطني والقومي الكفاحي باسم السلام المزعوم من جهة وإزاحة مفاهيم وآليات الصراع الطبقي وفائض القيمة والتحليل الاقتصادي والطبقي لكل مظاهر الاستغلال من أجل تجاوزها من جهة ثانية .

  • Social Links:

Leave a Reply