غسان ناصر – مركز حرمون :
يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، في هذه الفسحة الحوارية، الناشط الحقوقي والكاتب الصحافي السوري الكردي إبراهيم حسين، القاضي المنشقّ عن نظام بشار الأسد منذ عام 2013، الذي يتولى اليوم منصب مدير المركز السوري للحريات الصحفية، التابع لرابطة الصحفيين السوريين، ويترأس مجلس إدارة مركز الكواكبي للعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، وهو عضو في مركز العدالة السوري لحقوق الإنسان، وناشط ضمن العديد من المنظمات الحقوقية في الساحة الأوروبية.
يتحدث ضيفنا في هذا الحوار عن التقرير السنوي لعام 2019 الصادر هذا العام، عن المركز السوري للحريات الصحفية، وعن أهم ما جاء فيه من انتهاكات ارتكبها نظام الأسد وحلفاؤه، والقوى المسلّحة (فصائل المعارضة، جبهة النصرة، تنظيم داعش، وقوات سوريا الديمقراطية/ قسد)، مبرزًا أنه خلال العام 2019، قتل 10 إعلاميين، نصفهم على يد قوات نظام الأسد، ليرتفع بذلك عدد الإعلاميين الذين وثق المركز مقتلهم -منذ عام 2011 حتى تاريخ صدور التقرير- إلى 455 إعلاميًا، منهم 314 إعلاميًا قضوا على يد قوات الأسد. ويسلّط الحوار الضوء على الانتهاكات المرتكبة ضد صحفيين وإعلاميين أجانب في سورية، من قِبل الأطراف المتنازعة على الأرض التي مزقتها الحرب المعلنة ضد الشعب السوري، ويتطرّق إلى التحرك القانوني لمراكز ومنظمات حقوقية سورية في الساحة الأوروبية، ضد بشار الأسد وأركان نظامه الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، وسفكوا دماء المدنيين السوريين، وغير ذلك من المواضيع الحساسة. وكان هذا الحوار.
كيف تعرّف نفسك لقراء مركز حرمون للدراسات المعاصرة؟
إبراهيم حسين مواليد عام 1969، من أكراد مدينة عامودا في محافظة الحسكة، خريج كلية الحقوق من جامعة دمشق، عشقت الصحافة ومارستها في سنتي الجامعية الأولى، ضمن جريدة “الاتحاد” التي كان يرأس تحريرها المرحوم عدنان بوظو، وبعد سنوات من بقائي فيها، اختارتني المرحومة مها بدر، لأكون من الطاقم التأسيسي لصحيفة “الرياضية” الخاصة، وبقيت أعمل بالصحافة حتى بعد التحاقي بمهنة المحاماة في مدينة القامشلي. أثار العمل النقابي اهتمامي، فترشحت لعضوية مجلس فرع نقابة المحامين بالحسكة كمستقل، ونجحت لدورتين انتخابيتين (من عام 2001-2009)، ثم مارست القضاء في مدينتي دير الزور والمالكية، حيث بقيت في منصبي رئيسًا لمحكمة البداية المدنية، وقاضيًا للأمور المستعجلة، حتى تاريخ مغادرتي لسورية وإعلان انشقاقي عام 2013 في تركيا. مارست كثيرًا من الأنشطة الحقوقية والصحفية في تركيا، وكانت المحطة الأبرز عملي في المركز السوري للحريات الصحفية التابع لرابطة الصحفيين السوريين، كباحث، ثم كمدير للمركز الذي يعنى برصد وتوثيق الانتهاكات التي تقع بحق الإعلام في سورية، وكذلك بحق الإعلاميين السوريين داخل وخارج سورية. وإلى جانب عملي في المركز، أترأس حاليًا مجلس إدارة مركز الكواكبي للعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، وأنشط ضمن أكثر من منظمة حقوقية أخرى.
أرجو أن تعرّفنا إلى رابطة الصحفيين السوريين، التأسيس والدور والمهام في زمن الثورة، وكذلك المركز السوري للحريات الصحفية؟
في عام 2012، تداعى أكثر من مئة من العاملين في الحقل الإعلامي، لإنشاء رابطة للصحفيين السوريين، لأن واقع المهن الإعلامية وواقع اتحاد الصحفيين، واحتياجات الصحافيين والإعلاميين السوريين، دفع باتجاه ولادة منظمة مهنية ونقابية، تضم العاملين في هذه المهن، وما ميز هذه الولادة أنها جاءت نتيجة تفاعل واضح مع حراك الشعب السوري، وتعبيرًا عن التضامن معه والوقوف في وجه النظام الاستبدادي الأمني، والانحياز إلى خيار المؤسسات المدنية التي قام نظام الاستبداد بتفريغها وتحويلها إلى مؤسسات بيروقراطية تابعة للأجهزة الأمنية. ويمكن تعريف الرابطة على أنها تجمع ديمقراطي مستقل، ملتزم بمفاهيم السوريين حول الحرية والكرامة، ونزوعهم إلى إقامة دولة ديمقراطية تعددية، توفر العدالة والمساواة والحريات وحكم القانون لكل مواطنيها دون تمييز. ونتيجة الجهود المبذولة من قبل الهيئات التي تتابعت على إدارة الرابطة؛ تمكنت في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2017 من انتزاع الاعتراف الدولي بها ككيان، عندما قبلت عضويتها في الفدرالية الدولية للصحفيين، لتكون أول جسم تنظيمي سوري خارج منظومة السلطة يحظى باعتراف دولي. وتسعى الرابطة لأن تكون مظلة جامعة مستقلة للصحفيين السوريين دون تمييز، تمثل أعضاءها، وتدافع عنهم في مختلف المحافل المحلية والدولية. وتهدف الرابطة إلى حماية الصحفيين والإعلاميين والدفاع عن حقوقهم وحرياتهم، ولذلك أسست مركزًا خاصًا أسمته “المركز السوري للحريات الصحفية” عام 2014، ومع أن المركز يتبع للرابطة إداريًا، فإنه يتمتع بالاستقلالية المهنية، ويهدف إلى الدفاع عن الحريات الصحفية في سورية، ويعمل على توثيق الانتهاكات التي تقع ضد الإعلاميين والمراكز الإعلامية فيها وتلك التي تقع بحق إعلاميين سوريين خارج البلاد، ومن ثم يصدر تقارير بها، كما يصدر المركز بيانات صحفية ودراسات وأبحاث تتعلق بالإعلام في مناسبات مختلفة.
الأسد قتل 315 إعلاميًا على مدى سنوات الثورة
صدر هذا العام، عن المركز السوري للحريات الصحفية، التقرير السنوي لعام 2019، بعنوان “سورية البلد الأخطر على الصحفيين”، ما أهمّ ما جاء فيه من انتهاكات ارتكبها نظام الأسد بحق الصحفيين والإعلاميين السوريين؟
في نهاية كلّ عام، اعتاد المركز إصدار تقرير سنوي يضمّن فيه حصيلة الانتهاكات التي وثّقها، وبالنظر لحجم الانتهاكات التي ترتكب في البلاد، كان من الطبيعي أن نقول: “إن سورية هي البلد الأخطر على الصحفيين”، وهو التقييم الذي تشاركنا به كل المنظمات المعنية بالحريات الإعلامية وتوثيق الانتهاكات ضد الصحفيين. ولا شكّ في أن معظم الأطراف التي كان لها دور في الصراع في سورية قد ارتكبت انتهاكات متعدّدة بحق الصحفيين، إلّا أن النظام بقي، بلا منافس، في صدارة الجهات المسؤولة عن الانتهاكات، ولا سيما الجسيمة منها كالقتل والتعذيب، وحتى هذا التاريخ يتضح أن النظام كان مسؤولًا عن أكثر من 600 انتهاك موثق، منها مسؤوليته عن مقتل 315 إعلاميًا، من أصل 459 وثق المركز مقتلهم، منذ آذار/ مارس 2011 حتى تاريخ صدور التقرير أوائل العام الحالي.
ماذا عن الانتهاكات المرتكبة ضد صحفيين وإعلاميين أجانب في سورية من قِبل الأطراف المتنازعة على الأرض التي مزقتها الحرب المعلنة ضد الشعب السوري؟
لعب الإعلاميون غير السوريين الذين دخلوا إلى سورية دورًا مشهودًا في إيصال الواقع السوري الذي كان حافلًا بالأحداث، إلى الرأي العام العالمي، وأسهموا في كشف كثير من الجرائم التي ارتكبها النظام والأطراف المسلّحة الأخرى. وقد عانى الصحفيون الأجانب في سورية ما عاناه نظراؤهم السوريون، فقد كانت المخاطر تحيط بالصحفيين من كل الاتّجاهات، بدءًا من القتل والإصابة أثناء تغطية الأحداث في مختلف المناطق، ومرورًا بالاعتقال والخطف والمنع من العمل الصحفي، وهي انتهاكات تعمّدت مختلف الأطراف ارتكابها بحقهم، بخاصة النظام السوري. وقد وثقنا في المركز السوري للحريات الصحفية، منذ منتصف آذار/ مارس 2011 حتى تاريخه، وقوع أكثر من 70 انتهاكًا ضد الصحفيين الأجانب في سورية. ونستذكر هنا أرواح حوالي 20 منهم قضوا في سبيل أداء واجبهم المهني، وصنعوا لأنفسهم في وجدان الشعب السوري مكانة لن تنسى.
ماذا تقول عن المشهد الصحفي والإعلامي في بلدك، سواء في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات النظام أو الخاضعة لقوات المعارضة أو تلك الخاضعة لقوات سوريا الديمقراطية/ قسد؟
بمرارة شديدة أقول: إن سورية صنفت على أنها “المكان الأخطر على الصحفيين في العالم”، وكان هذا التصنيف نتاج ما وثقناه على مدى سنوات الثورة. وكان أيضًا نتيجةً لما مارسته كل الأطراف من انتهاكات وتضييق شديد بحق الإعلاميين، وصحيح أن النظام السوري وروسيا وتنظيم (داعش) قد ارتكبوا أشدّ الانتهاكات جسامة، إلّا أن هذا لن ينسينا أن المشهد الإعلامي في كل المناطق كان قاتمًا، وكان مستوى الحريات الإعلامية في حدها الأدنى. النظام لم يفاجئنا بسلوكه؛ إذ إنه كان يتعامل -حتى قبل الثورة- باستبداد مع الصحافة، ومنع الصحفيين من تجاوز الخطوط الحمراء التي كرّسها عبر قوانين وتعليمات مفروضة، أدّت إلى أن يكون الإعلام إحدى أدواته لتكريس استبداده، ومع انطلاق الثورة، أظهر قبضة حديدية، لأنه أراد كتم الحقيقة ومنع وصول الخبر الصحيح إلى الرأي العام، وإدخال الرعب إلى قلوب الصحفيين، وخاصة المقيمين في مناطق سيطرته، ودفعهم إلى الالتزام بسرديته الخبيثة التي هدفت إلى تصوير الصراع في سورية على أنه “حرب ضد الإرهاب والتنظيمات المتطرفة”. في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كان التضييق على الإعلاميين السمةَ العامة التي طبعت المشهد الإعلامي، وبالرغم من اختلاف الفصائل والقوى العسكرية التي تقاسمت السيطرة عليها، فقد اتفقت على التصرفمع الإعلام بكثير من العداء، وازداد التضييق على الصحفيين والناشطين مع انخفاض حدة العمليات العسكرية.
يؤسفني القول إن الجهات التي ادّعت أنها تقف مع حرية الشعب السوري، وصنفت نفسها على أنها قوى ثورية معادية لنهج النظام، قد تجاوزت النظام من حيث عدد الانتهاكات التي وثقناها في آخر عامين، مع الإشارة طبعًا إلى أن نوعية الانتهاكات المسجلة تبقى أخفّ جسامة، من تلك التي دأب النظام على ارتكابها، وتوجد سمة مهمة لا بدّ من الإشارة إليها، وهي أن عدد النساء العاملات في الإعلام قد انخفض انخفاضًا واضحًا في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
في مناطق قوات سوريا الديمقراطية/ قسد، سعت القوة المسيطرة إلى تعليب الإعلام وقولبته بما يتوافق مع رؤيتها وسياساتها، وأصدرت كثيرًا من القرارات التنظيمية التي هدفت -من حيث الشكل- إلى تنظيم العمل الإعلامي، لكنها في النهاية كانت تشكّل تضييقًا على الحريات الإعلامية وتلوينه بلون واحد، لكن هذا لا يمنعنا من القول إن عدد الانتهاكات في هذه المناطق انخفض انخفاضًا ملموسًا في السنوات الأخيرة، وتمكنت العديد من المؤسسات الإعلامية من العمل ضمن هامش أوسع من الحرية النسبية مقارنة بسواها من المناطق.
ما هي الرسالة أو الرسائل التي تريد إيصالها، من خلال هذا الحوار، إلى الصحفيين والإعلاميين في الداخل السوري؟
في الواقع الذي عاشته وتعيشه سورية، يمكن القول إن الصحفيين والناشطين الإعلاميين لعبوا دورًا جبارًا، وقدّموا الكثير، واستحقوا عن جدارة لقب “حرّاس الحقيقة”، وعلى الرغم من كل الصعوبات والمخاطر الأمنية التي كابدوها، فقد استطاعوا أن يلعبوا دورًا متميزًا في تسليط الضوء على ما عانته البلاد من ويلات ونكبات، ونستطيع بفخر أن نشير إلى عشرات بل مئات الأسماء التي استطاعت أن تحافظ على مصداقيتها، والتزمت بالمعايير المهنية للإعلام، بالرغم من أن المتمسك بالمهنية في هذه الأوضاع كالقابض على جمرة من نار، ولهذا أود القول، لكلّ الإعلاميين في سورية الذين بقوا في الداخل ينحتون في الصخر ويواجهون كل الصعاب والضغوط: إن نضالهم سيثمر بلا شك، وإن التاريخ سيسجل أن أساسات حرية الصحافة في سورية المستقبل وُضعت على يد فرسان نبلاء، وأن حرية التعبير ومجمل الحريات العامة التي نأمل أن يتمتع بها السوريون إنما حصلوا عليها، لأن نساءً ورجالًا ضحوا بالكثير وبقوا محافظين على مهنيتهم ولعبوا دورهم ببسالة، وأقول لهم إن من المهم جدًا المحافظة على أنفسهم، لأنهم عيوننا على بلادنا التي اضطّرّرنا إلى مغادرتها.
خرق حصانة أركان النظام الأسدي
بصفتك رئيس مجلس إدارة مركز الكواكبي للعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، وعضوًا في منظمات حقوقية أخرى. نسألك: ما المطلوب من السوريين المقيمين في أوروبا، ممن تعرضوا للتعذيب في سجون النظام السوري في سنوات الثورة، من أجل إسناد ملاحقة كل من تلطخت أيديهم بدماء الناشطين في سجون الأسد؟
الإفلات من العقاب كارثة على قيم العدالة، ويشكّل خطرًا داهمًا على مستقبل البشرية ككل. ومن واجب المنظمات الحقوقية أن تناضل كي تكرّس مبدأ عدم الإفلات من العقاب وتسعى بقوة لينال كلّ المجرمين جزاءهم، وفي بلدٍ مثل سورية شهد الويلات وارتكب نظامها جرائم فظيعة، لا بدّ من القيام بجهد جبّار كي تتم محاسبة أركان هذا النظام على ما فعلوه، ويمكن الاستفادة من الاختصاص الشامل الذي تأخذ به بعض الدول الأوروبية لإقامة دعاوى لملاحقة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية (كالتعذيب) التي وقعت في سورية. ولهذا لجأت بعض المنظمات الحقوقية السورية للعمل على ذلك، وأقيمت العديد من الدعاوى التي نأمل أن تشكّل خرقًا للحصانة التي يجد أركان النظام أنفسهم مشمولين بها، لأن هناك عقبات كثيرة تحول دون الانتصاف للضحايا ومحاسبة أولئك المجرمين في محاكم البلاد أو أمام محكمة الجنايات الدولية. وآمل من كل من تعرض للتعذيب في سجون ومعتقلات النظام، وتمكن بعدها من الوصول إلى دول الاتحاد الأوروبي أن يُسهموا في إنجاح مسعى معاقبة المجرمين، وأن يسارعوا لتقديم دعاوى بحقهم سواء بشكل شخصي أو عبر التواصل مع المنظمات السورية الحقوقية المشهود لها بالكفاءة والنزاهة، لبناء دعاوى مؤسسة بشكل قانوني سليم. تعاون من تعرّض للتعذيب هو انتصاف لأنفسهم، ويُسهم في استعادة ثقة البشر بمنظومة العدالة الدولية، وقد يمنع لاحقًا وقوع جرائم تعذيب كثيرة، سيرتكبها المجرمون إن وجدوا أنفسهم بمنأى عن العقاب.
هناك نحو 65 دعوى جرائم ضد الإنسانية بحق مسؤولين في النظام السوري مقدّمة أمام المحاكم الأوروبية، وفي مقدمتهم بشار الأسد، وكما علمنا صدرت مذكرات توقيف بحقه إلى جانب عدد مهمّ من أركان نظامه. سؤال: إلى أيّ مدى يمكن أن تقوّض هذه المذكرات بشكل عملي وملموس على أرض الواقع نظام الأسد وتفقده شرعيته في المحافل الدولية؟ وهل سيكون من غير الممكن مستقبلًا على قادة الدول العربية والأوروبية تبييض صفحة نظام الأسد؟
لنقُل أولًا إن منظومة العدالة الأممية تحتاج إلى إعادة النظر، فهي -مع الأسف- غير قادرة على الانتصاف للضحايا، وعاجزة عن ردع المجرمين، والتاريخ الحديث حافلٌ بأمثلةٍ عن مجرمين كبار أفلتوا من العقاب بسبب السياسة وبسبب تحكم مجموعة صغيرة من الدول في القرار العالمي، عبر امتلاكهم حق النقض (الفيتو)، ومن الواضح أن كثيرًا من الدول القوية تدّعـي بأنها مع حقوق الإنسان وتحمي قيم الديمقراطية، لكن هذا الادعاء لا يصمد أمام ما نشهده من سياسات تصبّ في النهاية لصالح الحكومات الدكتاتورية، بل يمكن القول إن كثيرًا من الطغاة يكوون شعوبهم بالظلم، بدعم ومساندة من الدول القوية.السوريون فقدوا ثقتهم بالمجتمع الدولي وبالعدالة البشرية، لأنهم كانوا يتوقعون أن يهبّ العالم كله للدفاع عنهم بمواجهة نظام مستبد، لم يترك طريقة من الطرق إلّا استخدمها ليرتكب من خلالها مجازر بحق شعبه، في تحدٍّ سافر لكل المنظومة القانونية الدولية وشرعة حقوق الإنسان، ولذلك فإننا لا زلنا نحاول ونسعى للتمسك بأهداب القيم الحقوقية ومبادئ العدالة، عسى ولعل أن يأتي اليوم الذي ينال فيه المجرمون جزاءهم.
وبالعودة لسؤالك، آملُ حقًا أن تكون الدعاوى التي تقام ضد أركان النظام مانعًا يحول دون تجرؤ بعض الدول للتسويق مجددًا لبشار الأسد، لكنني في داخلي قلقٌ جدًا من أن تنجح بعض الدول المتحالفة مع هذا النظام في إعادة تأهيله، عربيًا ودوليًا، لأن التاريخ القريب -كما أسلفت- يحفل بأمثلة كثيرة عن إغماض العين عن جرائم المستبدين، لأسباب سياسية، ولعلّ أقرب مثال هو جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي كشر فيها العالم عن أنيابه، وهدد بمحاسبة نظام الأسد، لأن الجميع كان يدرك حينها بأنه يقف وراءها، ثم تم تمييع القضية، وكأن شيئًا لم يكن.
في التحرّك القانوني لمراكز ومنظمات حقوقية سورية في الساحة الأوروبية، يُربط بين عودة السوريين إلى سورية ووجوب محاكمة المسؤولين السوريين الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وسفكوا دماء المدنيين السوريين، باعتبار أن “سورية بلد غير آمن”. هل أنت متفائل بتحقيق نتائج ملموسة بمحاسبة وملاحقة المجرمين من مسؤولي النظام بألمانيا والسويد وغيرهما من الدول الأوروبية والإسكندنافية، خاصة بعد إصدار مذكرات توقيف بحق مسؤولين وضباط سوريين وهم على رأس عملهم في الدولة الأسدية؟
يفترض أن العودة الآمنة للاجئين تستدعي خلق بيئة خالية من الخوف، وهذا لن يتحقق إلّا بحزمة من الإجراءات، لعلّ من أهمّها تغيير هيكلية أجهزة الاستخبارات والجيش السوري نفسه، وإعادة بنائهما على أسس وطنية تضمن أن يمارس الجيش والأجهزة الأمنية الدور الذي يفترض بهما القيام به، وهو حماية الشعب والدولة، وليس الفتك بالشعب وحماية النظام المتسلّط. بالتأكيد إن محاسبة كبار المجرمين في الأجهزة الأمنية وفرق الجيش التي ارتكبت المجازر والعديد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية سيخلق ارتياحًا في نفوس الضحايا، وسيردع في الوقت نفسه كثيرًا من الضباط والعناصر عن الاستمرار في جرائمهم، خشية تعرضهم للملاحقة الدولية، لكن هذا ليس كافيًا لدفع اللاجئين للعودة إلى سورية. أرى أن الدول التي تضيق ذرعًا باللاجئين السوريين، وتبحث عن وسائل لتسهيل عودتهم إلى بلادهم، عليها أن تخطو خطوات أكبر لتضمن تطبيق القرار 2254 بأسرع وقت ممكن، وعليها أيضًا أن تدفع باتّجاه إجراء محاكمات دولية لكبار مجرمي الحرب في سورية، سواء المنتمين للنظام أو المنتمين لباقي الأطراف العسكرية على مدى السنوات السابقة، لأنني مؤمن حقًا بأن لا سلامَ بلا عدالة، ولا يمكن تحقيق الاستقرار الحقيقي في سورية، إذا تمّ إغفال ملفّ المحاسبة.
الالتفاف على “قانون قيصر” مرهون بسياسات أميركا
في خطوةٍ غير مسبوقة، تقدّم في حزيران/ يونيو الماضي أهالي المعتقلين والمختفين قسريًّا اللبنانيين بملف ادّعاء أمام مدّعي عام التمييز في بيروت، ضد بشار الأسد وأركان نظامه وكلّ من يُظهر التحقيقُ أنه شارك في جريمة اختطاف مدنيين لبنانيين من الأراضي اللبنانية وإخفائهم قسريًّا في سورية، وعددهم 622 لبنانيًا ما زالوا مغيبين منذ عقود في السجون السورية. برأيكم، هل يمكن صدور أحكام ضد الأسد وضباطه، في بلدٍ تسيطر فيه ميليشيا (حزب الله) الإرهابية على كل مفاصل الدولة تقريبًا؟
ما من شكّ أن تضافر جهود ذوي الضحايا (وهم بالمناسبة ضحايا أيضًا، لأن ذوي المفقودين والمختفين قسريًّا يعانون بدورهم بشدّة) وسعيهم لمحاسبة النظام خطوةٌ في المسار الصحيح، ودليل على عدم فقدانهم الأمل في تحقيق العدل والكشف عن مصير كل من غيبه الاستبداد في سورية، قد لا تكون الظروف الآن مهيأة في لبنان الذي بات أسيرًا منذ سنوات لقوى ظلامية تكتم أنفاس اللبنانيين، لكن تثبيت مثل هذه الدعاوى في سجلات المحاكم سيمنع ضياع الحقوق، وعسى أن يأتي اليوم الذي تشرق فيه شمس الحرية على سورية ولبنان، ونفرح جميعًا برؤية المفقودين بين أهاليهم.
تعمل المراكز والمنظمات والهيئات والمؤسسات الحقوقية السورية، بالتعاون مع نظرائها الدولية، على الكشف عن مصير عشرات الآلاف من المعتقلين والمختفين قسريًّا في سورية، والعمل على إطلاق سراحهم، خاصة بعد أنباء مؤكدة عن تفشي وباء كورونا المستجد (كوفيد – 19) في سورية بشكل لم يعد من الممكن السيطرة عليه، وباتت كل سجون النظام ومعتقلاته المعروفة والسرية تشكّل خطرًا كبيرًا على حياة المعتقلين والسجناء. ما هو الجديد في هذا الملف الشائك؟
المنظمات الحقوقية السورية مشكورة دأبت منذ سنوات على الدفاع عن قضية المعتقلين، وطالبت بعدم إهمال هذا الملف، وهي كانت تخشى وتحذر من أن يكون الاهتمام بالحل السياسي على حساب ملف العدالة وملفّ المعتقلين، ولذلك طرقت كل الأبواب، وناصرت قضايا المعتقلين والمفقودين والمختفين قسريًّا، وكان من الطبيعي، في ظل انتشار وباء كورونا، أن تكون هذه المنظمات أول من يستشعر الخطر، فتحركت لتطالب المجتمع الدولي بفعل أي شيء في سياق الضغط على النظام لإطلاق سراحهم، لكن النظام -كعادته- يتعنت ويراوغ ويرفض الاستجابة، وأرى أنه لا يستطيع في المدى المنظور الإسهام في إيجاد حل لهذا الملف، لأن الغوص في الحقائق والأرقام سيكشف عن وقائع مهولة، شهدتها السجون والمعتقلات وراح ضحيتها آلاف المعتقلين من جراء التعذيب، وجراء الظروف غير الإنسانية التي مر بها الضحايا. المجتمع الدولي اليوم مطالب أكثر من أي يوم مضى بإصدار قرار ملزم يفرض على النظام السماح لبعثات تقصي حقائق، بأن تزور وتكشف عن المعتقلات العلنية والسرية التي يُخفي فيها النظام الأسدي آلاف السوريين وغير السوريين، وهذا القرار -مع الأسف- لا يزال بعيد المنال، لكن اليأس لن يتسلل للمنظمات الحقوقية، وستبقى تعدّ ملف المعتقلين ملفًا له الأولوية القصوى.
بعد دخول “قانون قيصر” حيّز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو الماضي، سال حبرٌ كثير عن تداعيات هذا القانون وتأثيراته على المدنيين في الداخل السوري، الذين يعانون أصلًا من حرب النظام وعسفه، بتقديرك، هل سيكون هذا القانون في جانب المواطن في المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد، أم أنه سيشكّل عبئًا جديًّا عليه؟ وهل تمكّن نظام الأسد من تجاوز تأثيرات القانون السلبية عليه والالتفاف عليها؟ وإلى أي حد تُسهم روسيا وإيران في ذلك؟
روّج النظام وداعموه أن “قانون قيصر” سيؤثر على الشعب، وستكون له تداعيات خطيرة على مستوى الخدمات الأساسية، ولكن كل عاقل يعرف أن هذا الكلام غير صحيح؛ فالقانون يستثني الخدمات الإنسانية، وهو يهدف إلى معاقبة أركان النظام وكل من يدعمه. ونعرف جميعًا أن سورية -حتى ما قبل الثورة- كانت مختطفة من النظام، وكانت عائدات كل المقدرات والثروات تذهب للطبقة الحاكمة ومن يدور في فلكها، وكان الفساد مستشريًا، والمواطن السوري على الدوام كان يلهث فقط ليؤمن الحد الأدنى من مقدرات العيش، في أثناء الثورة، نتيجة اعتماد النظام على الحلول الأمنية، كُرّست كل الموارد المالية والمساعدات التي تلقاها النظام للحفاظ على آلة القتل والتدمير وللتشبث بالكرسي، أما المواطن العادي فخسر كل شيء، ولم يعد قادرًا على تأمين أبسط الحاجيات. وبالنسبة لـ “قانون قيصر” برأيي، لا يزال الوقت مبكرًا للحديث عن آثاره ونتائجه، وسيبقى موضوع الالتفاف عليه رهنًا بالسياسات التي ستتبعها الإدارة الأميركية.
برأيك، أما زال بإمكان السوريين العودة إلى ذواتهم، واستعادة روح الثورة والمبادئ التي كانت تمثّلها، في الحرية والكرامة وحق الشعب في تقرير مصيره، ورفض المساومة على القضية التي ضحّى من أجلها ملايين السوريين، بعضهم بأرواحه وبعضهم بمستقبله وكل ما يملك؟
لو أننا فقدنا الأمل، لكان الموت أولى من البقاء على قيد الحياة. بدأت ثورة السوريين نقية، ثمّ تناهبتها المصالح وسعت كثير من الأطراف والدول لسرقتها والالتفاف على مطالبها المشروعة، وتمكّن النظام من تحويلها إلى صراع مسلح، ومن الترويج لحربه على أنها “حرب ضد الإرهاب”، وإلباس الحراك لباسًا طائفيًا، ومع الأسف، أسهم ضعف المعارضة السورية وتشرذمها وانشغالها بالقشور والمكتسبات الآنية الوضيعة في فقدان الثورة لزخمها الشعبي، بيد أن كل هذا لن يغير من حقيقة أن النظام مستبد، وأن الثورة ضده ثورة حق، ولا بدّ أن تستمر حتى تنجح في تحقيق أهدافها التي تتلخص بنيل السوريين حرياتهم وحقوقهم في العيش الكريم واستعادة بلدهم. أعلم أن ذلك صعب جدًا، لكن ما دام بين السوريين مَن يقدّر حجم التضحيات التي بذلها ملايين الضحايا، من شهداء ومعتقلين ومصابين، فإن الأمل سيبقى موجودًا.
أخيرًا، ما شكل الدولة الذي تراه مناسبًا وصالحًا لسورية المستقبل، بعد عقودٍ من الاستئثار والتهميش تسبّبت في تغييب الهوية الوطنية السورية؟
لا شكّ في أن مشكلة سورية لم تكن يومًا في الشكل الذي كانت عليه الدولة، لأن الاستبداد -وهو السبب الأهم في وصول سورية إلى ما وصلت إليه- يمكن أن يفتك بأي دولة مهما كان شكلها. مع ذلك فإن تفعيل اللامركزية في البلاد سيكون أنفع للبلاد مستقبلًا؛ فهناك كثير من النماذج الناجحة لدول اعتمدت على الفدرالية أو اللامركزية الموسعة. ولكوني أحد أبناء المنطقة الشرقية في سورية، أقول إن مناطقنا بقيت -مع الأسف- من أكثر المناطق تهميشًا في البلاد، على الرغم من غناها بالثروات، ومن حقّنا أن نطالب دائمًا بالإنصاف، وأن نتمكن من إدارة مناطقنا عبر مجالس منتخبة بشكل حقيقي، وأن نستفيد من مواردنا على نحو عادل، وأن يكون وصولنا إلى الخدمات العامة ميسرًا، إضافة إلى أن اللامركزية ستتيح لكل المكوّنات ممارسة خصوصياتها، وستشكّل حاملًا إيجابيًا للاستفادة من التنوّع البشري في المجتمع السوري.
هذا للمستقبل، أما في الفترة التي تلي إيجاد حلّ يُخرج سورية من حالة الاستعصاء الذي تعيشه حاليًا، فأنا مع الرأي الذي يقول بأن الدول التي تخرج من الحرب تحتاج في البدايات إلى نظام مركزي قوي، يستطيع لملمة الجروح، ويعيد الثقة بالدولة، ويبني من جديد هوية وطنية للشعب ككل، مع وجود ضمانات دستورية تمنع عودة الاستبداد.
Social Links: