هيفاء الحاج حسين

.
قبل عقود، كنتَ حين تدخل منزلاً قبيل الظّهيرة سيّدته متفرّغةً له, تواجهك عند العتبة رائحة النّظافة تنبعث من عطور المنظّفات تزهو بها الثياب المعلّقة على حبل الغسيل، ومن أرضيّة فسحة الدّار الحجريّة أو الإسمنتيّة تزفر الرّاحة بعد اغتسالها اليوميّ، و من ضوع النباتات المسقيّة في الأحواض والأصص تتأوّه جميعاً لكأنّها تتبادل حنيناً إلى وقتٍ سلف, تُنازعها فجأة رائحة القهوة المطحونة للتوّ توقظ حواسّك بسحرها المستطير وتهيب بك أن تتهيّأ لتقبّل ضيافتها بكلّ امتنان، تجلس على الأريكة فتحتضنك وسادةٌ من الصّوف المنجّد حديثاً بغطائها المطرّز ببراعةٍ حاكته يدان من إرثٍ نسويٍّ عريق، فتمتلئ بالجمال و تشعر بالخدر، ولو مكثت ساعة أو ربّما أكثر قليلاً لتصيّدتك رائحة البصل يقلى مع الّلحم مثلاً في أولى تحضيرات وجبة الغداء وأسكرتك كمن يقع في شرك الحبّ، تأسرك رغبةٌ لا تقاوم في البقاء و استنزاف الكثير من هذا الدّفء، التهامه كلّه حتّى التّخمة ومن ثمّ السّقوط مغشيّاً عليك تحت تلك الدّالية فوق البساط القماشيّ البسيط لو كان الوقت صيفاً، أو عند أقدام المدفأة بكلّ الخشوع والاستسلام الممكن لو كان الوقت شتاءً.
من منّا لم تخاطُ مِزق روحه بهذه المنمنمات المشعّة؟
هل فكّر أحدنا بعِظم وكثرة المهامّ التي كانت الأمّهات ينجزنها في سويعات النّهار والّتي كانت مصدراً لراحتنا وسعادتنا ونجاحاتنا ايضاً؟
رغم أنني كأنثى يناسبني جداً أن أدرس وأعمل وأحقق طموحاتي لأنّ هذا يليق بإنسانيّتي ويعظّم دورها في الحياة إلّا أنّني أفتقد ميزات الأمومة التي عرفتها من خلال أمي والكثيرات من أمّهات الجيل الأقدم، حيث أنّ الأثر الجماليّ المشبع بالغبطة بسببهنّ ما يزال حيّاً في نفسي ولن يمّحى، أستعيده كلّما وقعت في القنوط والتّعب فيسري الدّفء في أوصالي ويغمر الفرح قلبي وأشعر بالأسف لأنّني ما استطعت ترك مثيله لدى ولديّ!
الدّفء، هذا الإحساس الرخيُّ العزيزُ ممتلئُ الرّفاه كان يميّز البيوت في ما مضى، حين كانت الأمومة مصدره، تثيره من خلال أعمالها المنزليّة و رعايتها لكلّ متطلّبات أفراد الأسرة.
.
و المفارقة المؤسفة أنّ كلّ هذا الجمال كان يقع في منظور البداهة، حتى أنّنا لم نكن جميعنا نقدّره ونمتنّ له أو حتّى نشعر بوجوده، و الكثير من الأمّهات كنّ مسحوقاتٍ ومهمّشات. فقد جبلت طبيعة الإنسان على التقليل من أهميّة المتاح دوماً و ربّما احتقاره ، والتّعظيم من أهمّيّة العزيز عن متناولنا والبعيد المنال مهما يكن مخادعاً كالعالم خارج أسوار الأمومة الحريريّة.
وترانا و نحن نعبر في هذا العصر الجليديّ الحديث يصحو فينا الابن اليتيم الّذي اشتاق أمّه بعد أن مزّق البرد أفئدتنا، لم تعد النساء قادراتٍ على تمثل هذا الدور كاملاً بسبب العمل ولم يعد الرّجال قادرين على النّهوض بأعباء الأبوّة كاملةً بسبب الضّغوط أيضاً
ويحضر السؤال بقوّة:
أين تكمن العلّة في عمل المرأة خارج البيت؟ أم هو ثمن التطوّر؟
في شرقنا التعْس خسرنا الدّفء وبالمقابل لم نربح التطوّر بل على العكس نحن نعود القهقرى خلفاً
أخشى أنّ حتميّة مصير العصر الجليديّ هي الفناء
إلّا لو نفخنا في نار الحبّ الذاوية وأحييناها
فهل بقي في الرّئات بعضٌ من رمق؟
Social Links: