_كيف تحولت السلطات المحلية العربية إلى “منجم ذهب” لمنظمات الإجرام؟

_كيف تحولت السلطات المحلية العربية إلى “منجم ذهب” لمنظمات الإجرام؟

عرسان ياسين _ عرب ٤٨

أعدَّت هذه السلسلة المخرجة سهى عراف في الأشهر الأخيرة لموقع “سيحا مكوميت” باللغة العبرية، وينشرها موقع “عرب ٤٨” في إطار التعاون بين الموقعين. أعد التقارير للنشر بالعربية سليم سلامة.

 

 

 

“منظمات الإجرام العربية اخترقت عددًا كبيرًا من السلطات المحلية وأمسكت زمام السيطرة عليها. منظمات الإجرام شاركت في قيادة حملات انتخابية لعدد من المرشحين في البلدات العربية، بل وموّلت بعض هذه الحملات. والآن، هي تريد المناقصات. هي لا تلجأ إلى طريق القوة والعنف دائمًا. تبقى سيطرتها خفيّة ومن خلف الكواليس. قد تبني أحيانًا علاقة مع مقاول غارق في الديون، تتولى هي تسديد الديون عنه، تشتري له سيارة فاخرة، ثم يتنافس هو في مناقصة ما ويفوز بها، لكن المناقصة هي لها، لمنظمة الإجرام. هذا هو بالضبط الانتقال من الجريمة المنظمة إلى الإجرام المنظم”.

 

هذا ما يقوله المحامي رسول سعدة، الذي تولى تركيز مجال مكافحة العنف في المجتمع العربي، في إطار “مبادرات أبراهام”. وفي هذا، سعدة ليس وحيدًا. كثيرون يعتقدون بالرأي نفسه. السلطات المحلية، يقول هؤلاء، أصبحت أشبه بـ “منجم ذهب” للمنظمات الإجرام العربية، مصدرًا لمداخيل هائلة، وقانونية بالأساس. كل من يعرف طرق عمل منظمات المافيا في إيطاليا اليوم، يعرف أن الاستيلاء على مناقصات “شرعية” قد أصبح منذ زمن بعيد أحد مصادر الدخل الأساسية لديها. الأمر ذاته، كما يُستدل من الحقائق الميدانية، يحصل في جزء من السلطات المحلية العربية في إسرائيل، أيضًا.

 

 

 

 

رسول سعدة

“ظاهرة تسلل الإجرام إلى السلطات المحلية كانت قائمة كل الوقت ومنذ زمن بعيد”، كما يقول المدير المشارك في “مبادرات أبراهام”، د. ثابت أبو راس، “لكنها اتسعت وتعمقت خلال السنوات الأربع الأخيرة، لأن الأموال التي أصبحت بحوزة السلطات المحلية أكثر بكثير. ثمة ميزانيات إضافية تحصل عليها السلطات المحلية في أعقاب القرار رقم 922 (قرار الحكومة من تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 الذي ينص على تخصيص 15 مليار شيكل للمواطنين العرب خلال خمس سنوات)؛ هذا أولًا. وثانيًا، يمنح القرار السلطة المحلية نفسها مبالغ أكبر من المال، ميزانيات كبيرة للتخطيط والبناء والتطوير في المدارس، لأعمال شق وتعبيد الشوارع وغيرها”.

 

استيلاء منظمات الإجرام وسيطرتها على بعض السلطات المحلية أمر معروف لكثيرين، لكن الحديث لا يجري عنه إلا في الغرف المغلقة. قلائل هم الذين يجرؤون على الحديث عنه بصوت مرتفع أو على تقديم شكوى بشأنه. إلا أن الحقائق تتحدث عن نفسها بنفسها؛ “مجهولون” يطلقون النار على رؤساء سلطات محلية، على نوابهم، على مهندسي السلطات المحلية وحتى على أقارب هؤلاء. ليس من المبالغة القول إن السلطات المحلية العربية تعيش في أجواء من الإرهاب والرعب.

 

“هذه الظاهرة آخذة في الاتساع فقط”، يقول رئيس اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية ورئيس مجلس عرعرة المحلي، مضر يونس. “وقد شهدت هذه الظاهرة تعاظمًا واضحًا خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، فقد أطقوا النار على رؤساء السلطات المحلية في كل من مجد الكروم، سخنين، طمرة، الجش، نحف، رهط، كفر ياسيف، كفر قاسم، جلجولية، المزرعة، جديدة المكر، عيلوط، كوكب أبو الهيجاء والقائمة طويلة”. في نيسان/ أبريل 2011، قُتل مدير عام بلدية قلنسوة، وئام زميرو، جراء إطلاق النار عليه. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2019، حاول مجهولون اغتيال مهندس بلدية رهط، إبراهيم أبو صهيبان، فأصيب بجراح. وبعد ذلك بشهر واحد، قُتل شقيقه ومهندس البلدية، عزمي أبو صهيبان. وحسبما أفادت تقارير صحافية، فإن خلفية إطلاق النار هي قرار مهندس البلدية البناء على قطعة أرض هي موضع خلاف بين عائلتين من المدينة.

 

وإذا ما أخذنا في الحسبان حقيقة أن هنالك، في المجموع، 11 مدينة عربية و60 سلطة محلية، فمعنى هذا أننا نتحدث عن عدد كبير جدًا. “كلنا نسمع أن الأمر مرتبط بمنظمات الإجرام”، يضيف مضر، “لكن لا أحد من رؤساء السلطات المحلية قال هذا بصراحة ووضوح”. ويقدّر سعدة أن حوادث إطلاق النار على رؤساء ومسؤولي السلطات المحلية كانت ذات علاقة بمنظمات الإجرام، في نصف الحالات على الأقل. وهذا هو تقدير ثابت أبو راس أيضًا، استنادًا إلى أحاديث أجراها مع كثيرين من رؤساء وأعضاء السلطات المحلية العربية.

 

رئيس المجلس المحلي في جلجولية، درويش رابي، كان ضحية للعنف والتهديدات مرتين خلال الفترة الأخيرة. في الوقت الذي كان فيه رابي متواجدًا في خيمة الاحتجاج التي أقامتها لجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية في إسرائيل، في مدينة القدس في بداية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، احتجاجًا على تفشي العنف في المجتمع العربي، “اتصل بعض الفاعلين في منظمات الإجرام إلى المجلس المحلي وأبلغوا السكرتارية بأنهم سيحضرون في اليوم التالي لمقابلتي بشأن المناقصات”، يقول رابي ويضيف: “حضر هؤلاء إلى المجلس المحلي وكانت الشرطة في انتظارهم، في كمين قد نصبته لهم مسبقًا. تم إلقاء القبض عليهم، جرى التحقيق معهم ثم تم إطلاق سراحهم. لكنهم اعترفوا، خلال التحقيق، بأنهم قد جاءوا إليّ بشأن المناقصات”.

 

قبل ذلك بشهرين، كانوا قد أطلقوا النار على سيارته. “تبين لاحقًا أن الذي أطلق النار هو رجل أراد أن أوظف شقيقة له في المدرسة الثانوية”، يقول. “تقدمت بشكوى إلى الشرطة، التي ألقت القبض عليه، وضعته رهن الاعتقال لبضعة أيام ثم أطلقت سراحه”. وبمعزل عن التهديدات ضده، يضيف رابي، أن الإجرام في جلجولية “يسرح ويمرح”. في هذه السنة فقط (2019) قُتل ثلاثة شبان، حتى الآن. السوق السوداء والقروض سيطرت على المجتمع” يقول رابي، “غالبية حالات إطلاق النار تجري على هذه الخلفية. منظمات الإجرام تريد استعادة أموالها والفوائد المتراكمة عليها، لكن المدينين عاجزون عن تسديدها”.

 

 

 

سهيل ملحم

في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أطلقت النار على منزل رئيس مجل كفر ياسيف المحلي، المحامي شادي شويري. “كنت متواجدًا في حفل زفاف لدى أحد الأصدقاء حين أبلغوني بأن النار قد أطلقت على منزلي. لا أعرف سبب ذلك. ربما بسبب المناقصات، لكني لا أعرف. أصدرنا مؤخرًا مناقصات لبناء مدرسة ثانوية، لتركيب إنارة في الشوارع. أصدرنا مناقصات بقيمة إجمالية تبلغ نحو خمسة ملايين شيكل”. ويقول شويري إنه رأى في شريط كاميرات التصوير المثبتة في منزله شابين يضع كل منهما خوذة على رأسه يستقلان دراجة نارية صغيرة، قام أحدهما بإطلاق النار على منزله. “لم تلق الشرطة القبض عليهما”، يؤكد شويري.

 

لا يتورع أعضاء منظمات الإجرام ولا يرتدعون عن الاعتداء على رؤساء السلطات المحلية، حتى عندما يكون هؤلاء الأخيرون تحت حماية الشرطة. في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أطلق “مجهولون” صلية من عشر رصاصات على منزل رئيس مجلس جديدة المكر المحلي، سهيل ملحم. وبعد إطلاق النار، يقول ملحم، وضعته الشرطة في مرتبة الخطر الأعلى، الدرجة 6، فنُصبت حول منزله كاميرات تصوير وأُفرِدت له حراسة شخصية خاصة. لكن هذا كله لم يمنع مطلقي النار ولم يردعهم. ففي يوم 11 كانون الأول/ ديسمبر، يضيف ملحم، كان شخصان يتجولان حول منزله، “بدا أنهما مثيران للشبهات، فحاول الحارس التحدث معهم ويبدو أن جدالًا قد نشب بينهم” وبعد وقت قصير، حضرت سيارة أطلق منها عيارات نارية على الحارس فأصيب بجراح متوسطة. لكن ملحم، مثل كثيرين من رؤساء السلطات المحلية الذين وقعوا ضحية لأعمال عنف وتحدثنا إليهم، يدّعي بأنه لا يعرف هوية من يقف وراء عملية إطلاق النار هذه. “لم يتوجه إليّ أحد بطلب مناقصات أو بشكوى على تعيينات”، يقول.

 

 

غير أنّ مقاولًا فلسطينيًا يدير أعمالًا تجارية متشعبة في منطقة الشمال، كان مستعدًا للحديث وتوصيف الطريقة التي يجري العمل بها في هذا المجال. فقد تقدم هو، على سبيل المثال، إلى مناقصة في إحدى البلدات العربية في منطقة الشمال، لكنه قرر التراجع والانسحاب إثر تلقيه تهديدات صريحة. “بعد الانتخابات الأخيرة للسلطات المحلية، تعاظم الإجرام وتفشى أكثر”، يقول في حديثه معنا.

 

خلال العقد الأخير، يروي المقاول الذي فضّل عدم الكشف عن هويته لأسباب معروفة، بدأ يعاني من ظاهرة سرقة معدات وآليات العمل التابعة له، ويؤكد أن ليس ثمة مقاول واحد في الشمال لا يعرف هذه الظاهرة. ويعزو المقاول ظاهرة سرقة المعدات هذه إلى منظمات الإجرام. “هذه سرقة غريبة من نوعها”، يقول، “إذ يتركون لك رقم هاتف. تتصل أنت بالرقم فيقولون لك: سنعيد لك المعدات المسروقة شرط أن نحميك مقابل مبلغ من المال”.

ماذا فعلت؟

“توجهت إلى الشرطة، لكن الشرطة لم تفعل أي شيء. (يأتي رجال الشرطة)، يشربون القهوة عندك ثم يذهبون. حتى أنهم لم يراجعوني ولم يعودوا إليّ. فهمت الوضع ورضيت به. يسرقون لي فأشتري معدات أخرى بدل تلك التي سُرقت. مقاولون آخرون دفعوا مبالغ من المال لمنظمات الإجرام ودخلوا في رعايتها وتحت حمايتها”.

لكن الضغط الذي تمارسه منظمات الإجرام ينتقل، في الفترة الأخيرة، إلى مجال المناقصات؛ “المقاولون العرب يعملون تحت ضغط هائل”، يقول المقاول. “تطورت الطريقة وأصبحت أكثر إحكامًا. فهم (منظمات الإجرام) يعلمون، مثلًا، أن ثمة مناقصة كبيرة ستُنشر. يعرفون المقاولين الذين ينوون التقدم إليها، يتصلون بالمقاول ويطلبون منه عدم التقدم إلى المناقصة وعدم الاشتراك فيها، لأنها مُعدّة لأحد المقاولين الذين يعملون معهم. هم الذين يقررون مَن يتقدم إلى المناقصة”.

وثمة إمكانية أخرى، كما يضيف المقاول، هي أن تتوجه منظمات الإجرام إلى المقاول الذي رست عليه المناقصة وفاز بها. “إذ ما فاز مقاول بمناقصة ما، يتوجهون إليه ويطلبون منه ‘حصة‘ تتراوح بين 4% و5% من التكلفة الإجمالية للمناقصة مقابل رعايتهم وحمايتهم، أو يقترحون عليه توكيلهم هم بتنفيذ العمل، دون أن يفعل المقاول أي شيء، مقابل حصوله على 10%”، يقول المقاول.

ولكن، كما ذكرنا آنفًا، ثمة لدخول منظمات الإجرام في عالم المناقصات آثارًا وانعكاسات على سير المناقصة نفسها. في الماضي، يقول، كان المقاولون يخفضون الأسعار كي يفوزوا بالمناقصة، “أما اليوم، فمنظمات الإجرام تفوز بالمناقصة بالمبلغ الكامل، لأنها هي التي تحدد من يفوز بالمناقصة”، يدعي المقاول الذي يعرف – كما أشرنا – عالم المناقصات معرفة مباشرة ودقيقة، عن كثب. معنى هذا، أن السلطة المحلية، والدولة في الواقع، تدفع أموالًا أكثر تصل، في نهاية المطاف، إلى منظمات الإجرام.

 

 

د. ثابت أبو راس

“خلال السنوات الأربع الأخيرة هنالك أموال أكثر وتنافس أشدّ على الموارد في السلطات المحلية”، يضيف د. ثابت أبو راس؛ “الجميع يشعر بأن الأمر أكثر منالية وسهولة”. هذا هو السبب، كما يقول، وراء دخول منظمات الإجرام إلى الحملات الانتخابية في السلطات المحلية، أيضًا. “من الذي يمتلك هذه السيولة النقدية بهذه المبالغ الطائلة، سوى منظمات الإجرام؟”، يتساءل باستهجان. كي ينجح في الانتخابات اليوم، يحتاج رئيس البلدية أو المجلس المحلي إلى سيولة نقدية. “ثلاثة ملايين شيكل للحملة الانتخابية الواحدة، بالمتوسط”، كما يقدّر أبو راس، استنادًا إلى معرفته القريبة بالعديد من رؤساء وأعضاء السلطات المحلية. “من أين للمرشح هذا المبلغ، إذن؟ قد يدفع رجال أعمال هذه المبالغ وقد يكون بإمكان رئيس السلطة المحلية الادعاء بأنه قد حصل على دعم من رجال أعمال. ولكن، من هم رجال الأعمال؟ التغطية المالية تأتي من منظمات الإجرام. ذلك أن رؤساء منظمات الإجرام اليوم هم، أيضًا، رجال أعمال بارعون. اذهبي واثبتي أنهم مجرمون”.

 

كذلك، فقد تغيرت أنماط مساومات الأخذ والعطاء بين المرشح والعائلات الكبيرة في البلدة. “لم تعد العائلة تطلب من رئيس السلطة المحلية اليوم تعيين ابنتها معلّمة في مدرسة”، يوضح أبو راس، “بل هي تقول له: أريد مناقصة تعبيد الشارع، مثلًا، أو أي شيء آخر”. المشكلة، كما يراها أبو راس، هي أن لرئيس السلطة المحلية صلاحية تعفيه من واجب إصدار مناقصة لأعمال (مشاريع و/ أو مشتريات) لا تزيد تكلفتها عن 50 ألف شيكل. فماذا يحدث؟ يأخذون مشروعًا تبلغ تكلفته 100 ألف شيكل، مثلًا، ويقسمونه إلى مشروعين اثنين، يُعهَد بهما إلى شخص ما بدون مناقصة رسمية. مال سهل جدًا. من السهل الوصول إليه، إذا ما كنت من جماعة الرئيس أو المقربين إليه”.

 

تنعكس الأهمية التي توليها العناصر الإجرامية للفوز برئاسة السلطة المحلية في ما حدث خلال الانتخابات الأخيرة في قلنسوة، مدينة د. أبو راس. فقد كان، هو شخصيًا، مؤيدًا للمرشح معروف زميرو. “في اللحظة التي لاحظ المجرمون أن احتمال فوزه بالرئاسة كبير، عمدوا إلى تهديده ومطالبته بالانسحاب من المنافسة”، كما يقول أبو راس. في البداية، أطلقوا النيران على منزله، ثم على سيارة زوجته، ثم أرسلوا إلى المرشح شريطًا مصورًا عن ابنه، كتبوا له أنهم يراقبونه ويتعقبونه وهددوه بأن “يعيدوه إليه في تابوت”.

 

 

 

مركز شرطة الناصرة

وحين لم يجد هذا كله نفعًا، يضيف أبو راس، نشروا صورة ابنته تضاجع شابًا. كانت تلك صورة توليفية بتقنية “الفوتو مونتاج” بالطبع، لكنها سببت انكسار زميرو وانسحابه من المنافسة، قبل ثلاثة أيام فقط من يوم الانتخابات. وقد أرسل أبو راس رسالة إلى وزارة الداخلية طالبها فيها بتأجيل الانتخابات، بسبب انسحاب زميرو تحت التهديد والابتزاز. “إنه مس خطير بإجراء مدني ديمقراطي وحرف صريح لنتائج الانتخابات بواسطة استخدام القوة”، كتب أبو راس في الرسالة التي وجهها إلى الوزير أرييه درعي. لكن الانتخابات لم تؤجَّل. وقد فضّل زميرو عدم التعقيب على ما ورد هنا.

 

رئيس بلدية قلنسوة، عبد الباسط سلامة، يقول إن الإجرام في مدينته “تجاوز كل الحدود وخرجت الأوضاع عن السيطرة”. وحول قرار زميرو الانسحاب وسحب ترشيحه، يقول سلامة إن “من قرر أن يكون مرشحًا، يتعين عليه عدم الخشية والخوف، إطلاقًا. إذا كان يؤمن بطريقه فممنوع أن يسحب ترشيحه. أما تأجيل الانتخابات فلم يكن فيه ما يضمن حل مشكلة الإجرام”.

 

مثال عن الضغوط التي تمارَس على المقاولين، هو ما حصل مؤخرًا في إحدى البلدات العربية. فقد تقدم لمناقصة بقيمة ملايين الشواقل عدد من المقاولين، عاد بعضهم وانسحب من المناقصة، أحدهم انسحب حتى بعد أن فاز بها. في نهاية المطاف، رست المناقصة على المقاول الوحيد الذي بقي. “تقدم عدد من المرشحين، انسحب جميعهم ما عدا واحد فقط بادعاء أنهم لا يستطيعون الالتزام بالجدول الزمني المحدد لإنجاز العمل”، يصف عضو المجلس المحلي في البلدة ما حدث. “نحن نعلم أنهم هددوا المقاولين، لكنهم لم يقولوا حقيقة ما حدث بالفعل. فمن الناحية القانونية، ليس في وسعنا عمل أي شيء حين ينسحبون هم. كل شيء كان قانونيًا. في نهاية الأمر فاز مقاول واحد بالمناقصة وهو الذي ينفذ العمل”. رئيس المجلس المحلي أكد أن أحد المقاولين انسحب بعد أن فاز بالمناقصة، دون أن يوضح أسباب انسحابه. “إذا كانت هنالك تهديدات، فأنا لم أعلم بها وهذه ليست وظيفة رئيس المجلس”.

 

“هم لا يريدون المدارس، لأن ليس ثمة مال وفير هناك”، يقول المحامي سعدة. “هم يريدون مناقصات جمع القمامة وتعبيد الشوارع، لأنهم يستطيعون في هذه المناقصات التلاعب بالكميات كما يشاؤون”. ويوضح سعدة لماذا أصبحت مناقصات القمامة، مثلًا، المجال الذي يريده الجميع ويتشجرون عليه. “لنقل أنني فزت بمناقصة لجمع القمامة بتكلفة ثلاثة ملايين شيكل، مثلًا”، يقول، “فمن الذي سيعرف بالضبط كم شاحنة خرجت في الليلة ـ عشر شاحنات، أربعون، مئة؟ ليس هنالك من يعدّ ويحصي. أنا أسجّل أنني أخرجتُ مائة شاحنة. هذه هي الطريقة السهلة لتبييض الأموال. يبيضون ملايين الشواقل بهذه الطريقة”.

 

يؤكد سعدة ما قاله المقاول أعلاه. “طريقة العمل لدى منظمات الإجرام سهلة جدًا”، يقول. “في السلطة المحلية، يسلّمون منظمات الإجرام قائمة بأسماء المقاولين الذين تقدموا إلى المناقصة. يتصل المجرمون بالمقاولين هاتفيًا ويهددونهم بألا يتقدموا إلى المناقصة، فيتنازل هؤلاء وينسحبون، فيما يبقى المجرمون وحيدين في الملعب ويستولون على جميع المناقصات. هذه حالة من السيطرة، أيضًا. بهذا، هم يقولون عمليًا إن المدينة أو القرية المحددة هي لهم، تحت سيطرتهم”. ويدعي سعدة بأن لمنظمات الإجرام سيطرة جدية وعميقة في ثلاث سلطات محلية عربية كبيرة، إحداها في شفاعمرو، بينما السلطات المحلية الأخرى على الطريق.

 

 

منظر عام لمدينة شفاعمرو

يشرح عضو المجلس البلدي في شفاعمرو، زهير كركبي، كيف يبدو الأمر من زاوية أعضاء البلدية. “قبل سنتين، كانت لدينا مناقصة لتشغيل مدرسة. حضر مقاول كبير جدًا من خارج شفاعمرو. أثار الرجل شكوكًا لدينا. لكنه فاز بالمناقصة التي كانت بمبلغ 10 ملايين شيكل، بينما جنى هو مبالغ إضافية أخرى كبيرة، لأنه كان يؤجر المنشآت في ساعات بعد الظهر والليل”.

 

ثارت ثائرة عدد من أعضاء البلدية ضد هذه المناقصة بادعاء أنها أجريت بصورة غير سليمة. وعلى هذه المعارضة، كما يقول كركبي، كاد أحد أعضاء البلدية، زياد الحاج، يدفع حياته ثمنًا. “وضعوا له عبوة ناسفة في سيارته”، يضيف كركبي، “ومن حسن الحظ أنه نجا. أنا نفسي كنت عرضة للتهديدات، حتى خصصت لي الشرطة مرافَقة دائمة لفترة طويلة”. في هذه الحالة بالذات، كانت النهاية جيدة. فقد توجه أعضاء البلدية إلى المحكمة التي قررت إلغاء المناقصة وطرح مناقصة جديدة، بدلًا منها.

 

“كانت تلك مدرسة خاصة لأطفال ذوي مشاكل، ولذا فقد كانت ميزانيتها أكبر بضعفين ونصف الضعف من ميزانيات المدارس الأخرى. وهذا منجم ذهب، في الواقع”، كما يوضح المحامي سري خورية، الذي كان يمثل كركبي في الإجراء القضائي. “إضافة إلى ذلك، فقد استغل المقاول المنشأة وجعلها مدرسة ليلية أقام فيها نشاطات ودورات لتعليم السياقة ودورات خصوصية”.

 

 

زهير كركبي

ويقول خورية إنه “لا يعرف” الجهة التي كانت تهدد كركبي ومن الذي وضع العبوة الناسفة في سيارة الحاج. “زهير وزياد هما ضحيتان”، يقول، “الشرطة لم تلق القبض على أي مشتبه به وتم إغلاق الملف، على غرار ما يحدث في الغالبية الساحقة من الحالات في المجتمع العربي. لمنظمات الإجرام علاقات وثيقة مع الشرطة. الشرطة لا تقترب منها وإليها، شريطة ألا تقترب هذه المنظمات إلى القضايا الأمنية”. رئيس بلدية شفاعمرو، عرسان ياسين، يقول إن نقل المدرسة إلى إدارة ذلك المقاول الخارجي، وهو ما تم خلال فترة الرئيس الذي سبقه، كان “أمرًا غير حسن”. “على كل عضو في المجلس البلدي أن يعبر عن رأيه، دون أي إزعاج”، يقول تعقيبًا على التهديدات التي تعرض لها أعضاء البلدية.

 

تغلغل الأسلوب العنيف إلى داخل مكاتب البلدية نفسها، أيضًا. فبعد هدم ثلاثة بيوت في شفاعمرو، في أيلول/ سبتمبر 2019، اقتحم مواطنون غاضبون مكتب رئيس البلدية، عرسان ياسين، واتهموه بالتعاون مع السلطات التي قررت تنفيذ الهدم. في اليوم التالي، أجرت إذاعة “مكان” باللغة العربية مقابلة مع ياسين، عضو الليكود والصديق الشخصي لأفيغدور ليبرمان، فأطلق خلال المقابلة تهديدات صريحة بحق المتظاهرين. “لديّ مجموعة يمكنها ألاّ تبقي أحدًا منهم على قيد الحياة”، قال عرسان ياسين خلال المقابلة. وحتى حين طلب منه المذيع التراجع عن هذا الكلام، لأنه ينطوي على تهديد بالقتل، رفض عرسان.

وفي مقابلة مع مراسل الشؤون العربية في هيئة البث الإسرائيلي، عيران زينغر، أوضح عرسان أنه بكلمتيّ “لديّ مجموعة” كان يقصد “أشخاصًا من جماعتي يريدون أن أكون راضيًا وأن أعمل بهدوء”.

في المقابلة مع “مكان”، قال عرسان ياسين إنه يفضل حل مشاكل الإجرام من خلال عقد الصلح، بدلًا من التوجه إلى الشرطة. “اليوم، أصبحت المرأة التي تتشاجر مع زوجها تتوجه مباشرة إلى الشرطة”، أوضح عرسان. “كيف تريدين العيش مع زوجك وأنت تزجّين به في السجن؟ أتدخل أنا، إذن، وأعقد الصلح فتراها تعبر عن الندم وتقول إنها أخطأت”. هذا يوصله إلى الاستنتاج بأن الشرطة يجب أن تعمل مع لجان الصلح، ما عدا في الحالات التي “يُقتل فيها إنسان. هنا يجب أن يُطبَّق القانون”.

في حديثه معنا، هنا، اعترف عرسان ياسين بأن الإجرام قد دخل إلى شفاعمرو خلال الفترة الأخيرة. “ربما”، يجيب على سؤال عما إذا كانت منظمات الإجرام قد “حطّت عينها” على شفاعمرو في الفترة الأخيرة، كما ادعى سعدة مثلًا. “هنالك أمور غريبة. في هذه السنة، توفي خمسة أشخاص في شفاعمرو من عالم الإجرام. هذا أمر غريب. لم يحدث في حياة شفاعمرو من قبل مثل هذا الأمر. أنا أعتبر هذا أمرًا خطيرًا جدًا”.

وهل أنت قلق من دخول منظمات الإجرام إلى شفاعمرو؟

“جدًا، جدًا. هذا أمر غير حسن. الشرطة تعرف عائلات الإجرام وينبغي عليها معالجة الأمر”.

وهل هي لا تعالج؟

“ليس كما يجب، برأيي. عائلات الإجرام معروفة للشرطة. هي تعرف هؤلاء الأشخاص، بالضبط”.

ليست شفاعمرو وحدها. في شريط تم تصويره في مجلس بلدية قلنسوة، يظهر رجل يقتحم جلسة المجلس، يهدد أعضاء البلدية ورئيسها. “أنا موجود هنا وسأبقى هنا”، يقول في الشريط، “طالما بقيت البلدية موجودة، فأنا موجود. إما أن أموت أنا وإما أن تموت البلدية… أو نعمل معًا… أتمنى أن تكون رسالتي قد وصلت”. وسواء كانت ثمة علاقة لهذا أو لا، يقول أبو راس إن ذلك الشخص نفسه افتتح له مكتبًا في بناية البلدية، يُصدر رسائل باسم البلدية ويشارك في اللقاءات والاجتماعات والمداولات التي تجريها البلدية.

رئيس بلدية قلنسوة يؤكد أن هذا الشخص نفسه، الذي اقتحم جلسة المجلس البلدي، قد حصل لاحقًا على مكتب في بناية البلدية. “كان مرشحًا ولم ينجح في الانتخابات”، يقول سلامة، “عندئذ، توجه إليّ وقال: ‘أريد أن أقدم لمدينتي تطوعًا وأن يكون لي مكتب في البلدية. طالما أن الأمر يجري تطوعًا وفي خدمة المجتمع، فليكن. لكن الأمور تحولت إلى شيء آخر. منذ ستة أشهر، توقف عن الحضور إلى البلدية، بتاتًا‘.

هل أنت الذي منعته من الحضور أم هو الذي توقف من تلقاء ذاته؟

“لا أريد الخوض في التفاصيل. هو غير موجود في البلدية منذ نصف سنة. نقطة”.

ويرى رئيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في البلاد، محمد بركة، الأمور بمنظور تاريخي. “ليست ثمة صناعة في المجتمع العربي، ولذا فإن السلطات المحلية هي صاحبة رأس المال الأكبر في المدن والقرى والناس يعتبرونها مصدر دخل”، يوضح بركة ويضيف: “ثمة من يحارب كي يكون رئيس سلطة محلية ويقطع وعودًا للمقربين منه، وثمة مرشحون آخرون لا يملكون الإمكانيات الاقتصادية فيستعينون بعناصر خارجية، هي منظمات الإجرام في الغالب”.

منظمات الإجرام، يقول بركة، اخترقت السلطات المحلية قبل 20 سنة في الانتخابات المحلية التي جرت في العام 1998. “هناك كانت البداية”، يقول. “تعززت قوة هذه المنظمات بالدعم الذي تحصل عليه من الدولة. محاولات منظمات الإجرام لابتزاز رؤساء سلطات محلية وللسيطرة هي جريمة كبرى، لكن الدولة لا تدافع عن القانون في القرى والمدن العربية، مما جعل عناصر الإجرام تدرك أن بمقدورها كسب أرباح هائلة عن طريق المناقصات، بصورة غير قانونية أحيانًا وبواسطة التهديد والابتزاز في أحيان أخرى. وهي تحظى برعاية الدولة والشرطة وحمايتهما”.

ويشدد المختص في علم الإجرام في كلية الجليل الغربي والمفتش القطري في سلطة مكافحة المخدرات والكحول سابقًا، د. وليد حداد، على أقوال بركة. “السلطات المحلية هي مصالح تجارية”، يقول، “إذا طلبت أنت، كرئيس للسلطة المحلية، معروفًا واحدًا من أي من هؤلاء، فعليك أن تعرف أن منظمات الإجرام لا تساعد هباءً ولوجه الله. لا شيء يُعطى مجانًا. مساعدتهم ستُتَرجَم إلى طلب. هنالك رؤساء سلطات محلية، وهم الأقلية، يفعلون ذلك بطيبة قلب ونية حسنة. هم (منظمات الإجرام) سيطلبون المقابل، وإن رفضتَ فستصبح هدفًا بالنسبة لهم. هنالك رؤساء سلطات محلية يعرفون، مسبقًا، أنهم يتعاملون مه منظمات إجرام ويطلبون منها مساعدته ليصبح رئيس بلدية أو رئيس مجلس محلي”.

د. وليد حداد

يقول حداد إن اللجان المعينة التي عينتها الحكومة (لإدارة شؤون بعض القرى والمدن العربية) ساهمت، هي أيضًا، في إضعاف السلطات المحلية العربية. ابتداء من العام 2000 فصاعدًا، ينوه حداد، كان نحو رُبع السلطات المحلية العربية تدار بواسطة لجان معينة. وهو يقدم مدينة الطيبة مثلًا، حيث تولت ثلاث لجان معينة إدارة شؤونها طوال سبع سنوات. “هذه اللجان فصلت العاملين الاجتماعيين الذين كانوا يعملون مع مدمني المخدرات، فصلت عاملًا اجتماعيًا كان يعمل في مجال تأهيل السجناء، ألغت برنامجًا لمحاربة المخدرات والكحول، قلصت وظيفة ‘ضابط الدوام المنتظم‘، كما يقول حداد. مثل هذه الأمور حصل في سلطات محلية عربية أخرى، أيضًا. “بعد فترة وجيزة فقط، بدأنا نرى ونشعر آثار هذه التقليصات وانعكاساتها، بتفشي الإجرام”.

لا يملك المواطنون العرب فرصة التأثير على الكنيست، ولذا فهم يتطلعون إلى السلطات المحلية ويطمحون إلى الوصول إليها، يقول حداد مؤكدًا على أقوال بركة. ويضيف أن ثمة مرشحين للرئاسة في سلطات محلية عربية “يدفعون لمنظمات الإجرام مبالغ باهظة للصرف على الحملات الانتخابية ولرشي أشخاص كي يصوتوا لصالحهم. وهذه أيضًا إحدى الطرق التي تستخدمها منظمات الإجرام لتبييض الأموال. إنهم يوظفون حتى مليون شيكل في الحملة الانتخابية، وبعد الانتخابات يأتون بقائمة مطالب، يستولون على المناقصات التي تُستَخدم كطريقة أخرى لتبييض ملايين الشواقل في السنة. والدولة تعرف كل شيء”.

وجهنا إلى شرطة إسرائيل أسئلة عمومية حول استيلاء منظمات الإجرام على سلطات محلية عربية وحول التهديدات بحق رؤساء سلطات محلية وحول الحادثتين في شفاعمرو وقلنسوة. في ردها، لم تجب الشرطة على هذه النقاط، وإنما اكتفت بالقول إن “شرطة إسرائيل تشن حربًا لا هوادة فيها ضد الإجرام الخطير والمنظم في إسرائيل بشكل عام وفي الوسط العربي بشكل خاص ويحتل هذا الموضوع مركز اهتمام الشرطة. وتضع الشرطة لها هدفًا تعزيز الشعور بالأمن الشخصي في المجتمع العربي في إسرائيل، من خلال استخدام أفضل الوسائل، الوحدات والقوى البشرية من أجل معالجة الجريمة بكل أنواعها وأشكالها، ابتداء من الجنوح، العنف، انتهاك القانون وانتهاء بمحاربة عصابات العنف ومنظمات الإجرام، باستمرار ودون هوادة. وفي إطار خطتها، نظمت الشرطة عددًا من المؤتمرات المهنية الهامة في موضوع تحديات المنع وفرض القانون في المجتمع العربي، بغية الدفع نحو بلورة استراتيجية وسياسة معالجة الموضوع، بمشاركة جميع الأطراف ذات العلاقة”.

  • Social Links:

Leave a Reply