مع أنني لم ألتقيه أبداً، إلا أن صورة في منتهى الإيجابية للدكتور الراحل نايف بلوز ترتسم في ذهني من أحاديث الأقربين والآخرين، وكيف لا، وهو الذي قدم إلى مشتى الحلو الطرطوسية من حي القصاع الدمشقي في أعوام الخمسينيات، وبتكليف حزبي، ليساهم في نشر العلم والفكر التقدمي في الريف الطرطوسي، فكان أن وجد صدر بيت حنا السليمان في انتظار قدومه على أحر من الجمر،
وقد جهزت إحدى غرف لتكون نزلاً له ومقراً لإقامته بعد انتهاء الدراسة والتدريس. في معرض ذكريات دانيال نعمة عن نشاطه السياسي، يرد هذا المقطع: (… وأخذت أدرِّس في المشتى بعد أن افتتحت صفاً كان هو الأساس لإنشاء مدرسة ابن خلدون، التي تعاقب عليها فيما بعد كل من حبيب حسن وأحمد عمران وميشيل العيسى ونايف بلوز، وقد جرى تعطيل هذه المدرسة في عهد الوحدة…). وهكذا،
فقد تدرج نايف في مهنة التدريس بدءاً من ثانوية ابن خلدون في الريف السوري النائي، وصولاً إلى كرسي الأستذة في كلية الفلسفة بجامعة دمشق فيما بعد. وكي لا تغيب ذكرى هذا الإنسان عن بال أجيال جديدة ولدت بعد رحيله، فإنني ومن باب العرفان بجميل الفيلسوف السوري الراحل، أجد من واجبي نشر هذه المادة القيمة، التي سطـَّرها قلم الدكتور جون نسطة بتاريخ الثاني من أيار لعام 2016. نايف بلوز المفكر والفيلسوف والسياسي نايف بلوز، الرجل الذي واظبت على صداقته على مدى خمسة وثلاثين عاماً، وأدمنت معاشرته اللصيقة سنوات طوالاً، ولم يكن هذا عليَّ أمراً سهلاً وحلواً، على حلاوته ومتعته وفائدته، لأن الرجل كان نقاداً لاذعاً، رغم مودته لأصدقائه ومعاشريه، متطلباً ممن حوله قدراً أعلى فأعلى من الثقافة والاطلاع والمعرفة والدراسة والمواظبة على طلب العلم ومعرفة العالم. وهذا السعي نحو الكمال كان يتطلبه من نفسه أيضاً، جالداً ومؤنباً لذاته، ومواظباً نهماً على القراءة والبحث والتنقيب. في مطلع ستينيات القرن الماضي
جاءنا إلى لايبزغ في ألمانيا الديمقراطية شاب في مطلع الثلاثينيات من العمر، فارع القوام، قوي البنية، كبير الرأس، ذو عيون قوقازية حادة وثاقبة النظرات، تغريك بالنظر إليك، وتمنعك من الكذب. شاب حسن الهندام، تشعر حين يتحدث إليك بأن جمجمته تضيق، على كبرها، بدماغ يضج بأفكار جديدة لا تنضب، وبأن لسانه، على طلاقته، عاجز عن مواكبة وتلبية ما يريد أن يقول وبالسرعة المطلوبة. كنا نحن الطلاب الشيوعيين مخدرين، بل سكارى منتشين بعبارة وتقديس الفرد، متمثلاً بخالد بكداش، القائد الذي لا يضاهى، وبانتصارات الاتحاد السوفييتي، قائد الطبقة العاملة على النطاق العالمي، وبإنجازات ألمانيا الديمقراطية، مغلقين العيون، بعيدين عن طرح الأسئلة والشك بأي شيء، منساقين، مؤمنين، سعداء بتملكنا الحقيقة الكاملة. جاء نايف بلوز يحاول قرع جرس اليقظة بيننا، يمزج بين الجد والمزاح، المديح والتهديم والنقد وطرح التساؤلات. في إحدى المرات، وكان في ضيافتي، سألني: يبدو لي أنك فخور بصفة الكرم. فقلتُ: نعم. قال: هل تعلم أن الكرم والاعتزاز به هما من قيم الإقطاعية وأخلاقها، ولا يمتان بأي صلة إلى قيم الطبقة العاملة، التي تدعي أنك من حراسها؟ فالعامل لا يملك فائضاً يتكرَّم به. وكان ذلك كافياً لأعيد النظر بكل المنظومة الأخلاقية، التي تربيت عليها. وفي إحدى المرات، سأله طالب: أنت دارس فلسفة، فما هو موقفك من الإله؟
فسأله نايف: هل تستطيع أن تذكر لي أسماء بعض الآلهة السورية؟
فأجاب الطالب: حدد وعشتار وبعل وبل، على ما أذكر.
فرد نايف: ماذا تستنتج من ذلك؟ فأجاب الطالب: لا أدري.
فاستطرد نايف قائلاً: هذا يعني أن الإنسان يصنع آلهته بنفسه، وأحياناً على صورته ومثاله.
وكي لا أطيل الحديث، فقد كان نايف بلوز من أوائل الشيوعيين السوريين، إن لم يكن أولهم، ممن بدأوا بنقد نهج حزبه وسياسته الداخلية والخارجية، ومواقفه من كارثة فلسطين والناصرية والانفصال، ومن الموقف تجاه الثورة في جنوب اليمن، إلى الالتحاق بالبرجوازية السورية عبر برنامج الحزب السياسي أيام الانفصال. ولعل الأهم من ذلك كله، أنه كان أول من حمل فأس النقد والتهديم لصنمية خالد بكداش، معرياً نواقصه وعيوبه وطريقة قيادته للحزب. كنا في ألمانيا الديمقراطية قلة قليلة ممن سار على هذا النهج، معرضين أنفسنا للوم والعزلة والاضطهاد الحزبي والتهديد بقطع المنح الدراسية، ولم نكن ندري بأن مثل هذه الأفكار قد بدأت تظهر على التوازي في كثير من منظمات الحزب في الداخل والخارج. كان نايف يقول إن قيادة جاهلة بالماركسية لا بد من أن تولـِّد حزباً جاهلاً، وكان يدعو إلى بناء حزب متجدد، وبقي لسنوات عديدة يقدِّم نصائح وأطروحات متعددة للشيوعيين، الذين انفصلوا عن قيادة بكداش وفيصل، مرة بجدوى، ومراراً دون جدوى لسوء الحظ.
عكف نايف سنوات طويلة في برلين على إنجاز أطروحة الدكتوراه في جامعة هومبولدت الشهيرة، وموضوعها: (الإسلام ونشأته وفرقه ومدارسه)، مركزاً على مرحلة الإسلام الأولى في حيويتها، وقبل مرحلة التقديس والانقسامات، مسلطاً ضوء العلم الماركسي وأسلوب التحليل الطبقي على تطوراته التاريخية. وأولى أهمية كبرى لفكر الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، الذي نادى بتحكيم العقل، ومزج الدين مع الفلسفة ومواكبة العصر.
ورأى أن الإسلام شكـَّل نقلة نوعية تقدمية في تاريخ الفكر الديني، ولم يكن يرى أن الإسلام في عصرنا قادر على تقديم أجوبة على التساؤلات، التي يطرحها عصرنا وواقعنا الحالي، ولذلك لا يمكن أن يكون هو الحل لقضايا أمتنا ومشكلات عصرنا.
في مطلع الثمانينيات، وتحديداً عام 1984 على ما أذكر، اتصل مكتب حافظ الأسد بالدكتور نايف، طالباً منه موعداً لمقابلة يرغب الرئيس في إجرائها معه، فذهب نايف إلى القصر، وجلس مع الرئيس مدة أربع ساعات كاملة، تشعـَّب فيها الحديث إلى مواضيع كثيرة، بناء على أسئلة الرئيس المتواصلة، الذي كان يسمع وينصت باهتمام، بينما نايف ينتقد ويقدِّم النصائح والمشورة، إلى أن طرح عليه حافظ الأسد السؤال التالي، كما روى لي نايف: ما رأيك في أن تلتحق بقاطرة المد الديني، أو أن تركب على سفينته الماخرة في معركتنا مع الغرب وإسرائيل؟ كان جواب نايف صاعقاً، إذ قال إن السؤال مغلوط ومقلوب رأساً على عقب، فالسؤال الصحيح برأيه هو: كيف تستطيع حركة التحرر العربية أن تقطر حركة المد الديني، وتقودها، وتوظفها في عملية تحقيق أهدافها في الاستقلال والتقدم والتحرير، مبيناً أن الإسلام السياسي في جوهر حقيقته غير معاد دائماً للإمبريالية والرأسمالية، بل هو قابل في كل وقت، حسب مصالحه، للمساومة معها. وفي نهاية المقابلة طلب حافظ الأسد من الدكتور نايف أن يعد دراسة علمية حول الإسلام، تكون شاملة للماضي والحاضر. عكف نايف شهوراً طويلة على إنجاز الدراسة، لكن الرئيس تجاهل الموضوع، ولم يعد للسؤال عن الدراسة المذكورة، فبقيت في جوارير الدكتور نايف وبعض أصدقائه، وأنا منهم، ولم تنشر قط رغم أهميتها.
كان نايف لوز عاشقاً للحرية إلى أقصى الحدود، وقد رأى أن ماركس في نظريته لم يكن يهدف في النهاية، أي في المجتمع الشيوعي، إلا لتحقيق حرية الانسان وانعتاقه من عبودية العمل، وجعله حقاً من حقوقه، لا فرضاً عليه، وكذلك للخلاص من ماكينة (جهاز) الدولة بوصفها أداة عنف في أيدي الطبقة المسيطرة، والعمل على حلها وتفكيكها (زوال الدولة)، بحيث يدير البشر شؤونهم ويرتبون حياتهم وينظمونها بالإدارة الذاتية وفقاً لقواعد المجتمع المدني وفي ظل مجتمع الكفاية والرفاه، استناداً إلى مبدأ: (من كل حسب طاقته، ولك حسب حاجته). بقي نايف طوال حياته مناهضاً للاستبداد، الذي كان يعدُّه الأصل في نشوء الفساد والتأخر والانهيار، ولم يكن يهاب أحداً في معارضته للنظام السوري بجلية ووضوح، وفي انتقاده الشديد لموقف المثقفين المتزلفين للسلطة، الراكضين وراء المال والجاه المزيـَّف، مما جعله عرضة للمضايقات ولانعزال الزملاء عنه. لا أزال حزيناً على فراقه، متألماً على نهايته الدرامية، إذ خطفته يد المنية أثناء سباحته في البحر الأبيض المتوسط قرب اللاذقية، وكأني به، بطهره وعزة نفسه واستقامته وآثاره الفكرية ووفائه للماركسية، يقول: (إن الأرض لا تسعني).
لمزيد من التعرف على شخص الدكتور الراحل نايف بلوز يمكن العودة إلى المقالة التالية: (د. نايف بلّوز وعقلانية ابن رشد)
بقلم زينب نبوه،
Social Links: