أنا اسمي نفسي «مشروعاً ديمقراطياً»، ولست ديمقراطياً! ــ حوار مع جورج طرابيشي

أنا اسمي نفسي «مشروعاً ديمقراطياً»، ولست ديمقراطياً! ــ حوار مع جورج طرابيشي

نحو أحياء الذكرى السادسة للثورة السورية

نحو أحياء الذكرى السادسة للثورة السورية

حاوره : ابراهيم حاج عبدي

حين ذهبت إلى لقاء المفكر والناقد والمترجم السوري جورج طرابيشي، بقصد إجراء هذا الحوار شعرت بالحيرة، وتساءلت: «من أين أبدأ مع جورج طرابيشي المتعدد الاهتمام؟ وكيف لي أن اختزل تجربة فكرية ونقدية واسعة وعميقة في حوار صحفي؟»، ولم تشفع لي دماثة الرجل وتهذيبه عندما نقلت إليه رغبة الزملاء في القسم الثقافي في صحيفة الرياض إجراء حوار معه، فقد وافق على الفور مرحبا، لكن الرهبة من محاورة قامة فكرية سامقة لم تتبدد.

ولئن عرف طرابيشي في الوسط الفكري العربي بوصفه أحد الذين تصدوا لمشروع محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي»، وأمضى أكثر من خمسة عشر عاما يهدم ويفكك ويبني من جديد، إذ أصدر أربعة أجزاء، إلى الآن، في إطار (نقد «نقد العقل العربي») وهي: «نظرية العقل العربي»، و«إشكاليات العقل العربي»، و«وحدة العقل العربي»، و«العقل المستقيل في الإسلام»، وهو بصدد إنجاز الجزء الخامس والأخير، لكن مشروعه الفكري والثقافي الذي انطلق مطلع الستينيات أوسع من أن نحصره في الرد على الجابري، فهو بدأ بالنقد الأدبي واصدر دراسات مهمة في هذا المجال مثل «عقدة أوديب في الرواية العربية»، «رمزية المرأة في الرواية العربية»، «أنثى ضد الأنوثة: دراسة في أدب نوال السعداوي على ضوء التحليل النفسي»، لعبة الحلم والواقع في أدب توفيق الحكيم «..وسواها، واصدر طرابيشي كذلك دراسات حول القومية والماركسية في مرحلة المد الماركسي، وبعد ذلك انتقل إلى حيز النقد الفكري إذ وضع مشروع الجابري تحت مجهر النقد، واللافت أن طرابيشي، وخلال انشغاله بالنقد، أغنى المكتبة العربية بترجمات هامة لهيغل، وسيجموند فرويد، وجان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، وروجيه غارودي…وغيرهم، وهو يعتبر نفسه، الآن، بعد هذه التجربة الطويلة «داعية تجديد للنهضة»، مطالبا بضرورة قراءة التراث العربي الإسلامي برؤية جديدة، مبتكرة كي يكون هذا التراث حافزا يدفعنا إلى الإمام، لا كابحا يشدنا للخلف.

جاء طرابيشي، الذي يقيم في باريس منذ أكثر من عقدين، في الموعد المحدد، برفقة زوجته القاصة والروائية هنرييت عبودي، لم أرَ في ملامح وجهه تلك الصرامة والجدية التي لنقده، إذ أشاع للوهلة الأولى جوا من الود والألفة، ونبهني، مشكورا، إلى أن أتأكد من أن آلة التسجيل تعمل، ففعلت، ورحت أصوغ أسئلتي بوجل، لكن سرعان ما اختفى هذا الوجل ليحل محله الارتياح الذي يمنحه طرابيشي، بتواضعه وسعة صدره، لمحاوره. هنا نص الحوار:

س1 ) بعد رحلة طويلة في ميدان النقد الأدبي أولا، ثم النقد الفكري، وبعد محطات انتقلت خلالها من القومية إلى الماركسية فالوجودية وصولا إلى الليبرالية. كيف تنظر الآن إلى هذه التجربة والى أين وصلت على صعيد القناعات الأيديولوجية؟

ج1 قد لا يكون تعبير الليبرالية دقيقا. لو أردت التعريف بنفسي، الآن، بعد كل مراحل التطور الفكري التي مررت بها، لقلت عن نفسي أنني «داعية تجديد للنهضة»، وبمزيد من التحديد أتمنى أن أُعرَّف بأنني «نهضوي جديد»، لأنني اعتقد أن المشكلة في العالم العربي ليست محصورة بجانب دون آخر. ليست القضية، قضية ديمقراطية فقط، ولا ليبرالية فقط، ولا اشتراكية فقط كما كنا نتوهم في يوم من الأيام، كل هذه الأيديولوجيات، التي اسميها «أيديوجيات خلاصية»، ليست حلا. في الفترة القومية تصورنا أن الوحدة العربية هي طريق الخلاص، وفي الفترة الماركسية تصورنا أن الاشتراكية هي طريق الخلاص، واليوم يتصور كثيرون أن الديمقراطية هي طريق الخلاص، وآخرون اكثر تطرفا يتصورون أن الديمقراطية الليبرالية فقط هي طريق الخلاص، أما أنا فاعتقد أن هذه الأيديولوجيات الخلاصية توحي بأمل كاذب. لماذا أقول أنا نهضوي أو داعية تجديد للنهضة؟ لأنني اعتقد أن كل هذه الاشكالات هي نتيجة وليست هي السبب لتغيير واقع العالم العربي، نحن نحتاج إلى تجديد النهضة لأننا نحتاج إلى أن نزرع البذور من جديد لا أن نقطف الثمار. إذا تصورنا أن الديمقراطية أو الليبرالية هي ثمرة جاهزة للقطف ما علينا إلا نقطفها حتى ننتقل، بمعجزة، نقلة عجائبية من واقع التخلف إلى مثال التقدم فاعتقد أننا سنكون واهمين مع الديمقراطية والليبرالية كما كنا واهمين بالأمس مع الوحدة العربية والاشتراكية.

س2 ) لماذا أخفقت الأيديولوجيات الخلاصية؟ وإذا كانت الديمقراطية ليست حلا، فأين يكمن الحل، إذا، وكيف نفسر هذا الانجذاب النخبوي نحو الديمقراطية في هذه المرحلة؟

ج2 أنا لم أقل ذلك، ولكني سأوضح وأقول: المشكلة لا تكمن فقط في تحويل نظام الدولة، المشكلة تكمن أيضا في تحويل المجتمع نفسه. مشكلتنا في المجتمع وليست فقط في الدولة، ومع الأسف، كل الأيديولوجيات الخلاصية تتصور أنه وبمجرد تغيير السلطة في هذا الاتجاه أو ذاك فقد تغير كل شيء، والإسلاميون أنفسهم يعتقدون بأنهم إذا سيطروا على السلطة فان الحلول ستكون حاسمة. أنا اعتقد أن المشكلة اعمق من ذلك بكثير، وأنها تمس عمق المجتمع. ما لم يحدث تغيير في عمق المجتمع فلن نقطف هذه الثمار المرجوة، سواء سميناها ديمقراطية أو ليبرالية، ولذلك أشير، طالما أن الديمقراطية اليوم هي الشغل الشاغل للناس وطالما يتصورون أنها هي التي ستنقلنا من جحيم التخلف إلى جنة التقدم، أشير إلى إشكاليتين كبيرتين في الديمقراطية، هناك الآلية الديمقراطية، ولا قيام للديمقراطية بدونها، ولكن هناك أيضا ثقافة الديمقراطية. بدون ثقافة الديمقراطية تتحول الآلية الديمقراطية إلى ديكتاتورية عدد. وأعطي مثالا هنا، الشيعي سيصوت للشيعي، والسني سيصوت للسني، والمسيحي للمسيحي، أو الكردي سيصوت للكردي على أساس أثني، فالآلية الديمقراطية إذا كانت مفصولة عن الثقافة الديمقراطية فكأنك تقدم الديمقراطية على كرسي بثلاث قوائم بدلا من أربع قوائم. إذا اتبعنا هذا المنطق فستكون النتيجة ما يحدث الآن في العراق وما قد يحدث في أي بلد عربي. لذلك أميز بين صندوقين – إذا جاز التعبير – صندوق الاقتراع، وهو أساسي، فلا ديمقراطية بدون صندوق اقتراع، ولكن اعتقد أيضا لابد من صندوق جمجمة الرأس. إذا لم يحدث تغيير في جمجمة الرأس فلن يولد إنسان ديمقراطي بل سيولد إنسان شيعي، سني، مسيحي، كردي، بربري، امازيغي…الخ.

الديمقراطية هي قرار فرد مستقل وحر بنفسه وبتفكيره ومستقل عن ركائزه الاجتماعية والاثنية والطائفية..إذا لم يولد هذا الفرد فصندوق الاقتراع سيتحول إلى ديكتاتورية عدد، وأعطيك مثالا: لبنان الذي كان الصراع فيه سنيا مارونيا لأنهما كانا يشكلان الغالبية، وكانت الغالبية للموارنة، مع تطور الزمن والديموغرافيا أصبحت السنة تقارب الموارنة في التعداد، فتحول لبنان الآن ديموغرافيا إلى أغلبية شيعية، لذلك هناك من يطالب بان يكون حاكم لبنان شيعيا. هذه، بالنسبة لي، ليست ديمقراطية هذه آلية ديمقراطية كاذبة لن تولد سوى حكم طوائف واثنيات، وهذه كارثة كبيرة، لذلك أقول إن صندوق جمجمة الرأس هو الأساس دون أن ألغي أهمية صندوق الاقتراع. ما حدث في الجزائر أيضا يستحق التذكير، فعندما حصلت الانتخابات وفاز الإسلاميون اذكر أنني كنت في فرنسا واستمع إلى مقابلة إذاعية أجريت مع علي بلحاج نائب رئيس جبهة الإنقاذ، آنذاك، والذي قال بالحرف الواحد: «هذا يوم عرس الديمقراطية، وهذا يوم مأتمها»، فوجئت وتساءلت: ماذا يقصد؟ وإذا به يوضح: «هذا يوم عرس الديمقراطية لأنه بواسطة الانتخابات (صندوق الاقتراع) وصلنا إلى الحكم، ولكن هذا يوم مأتمها لان الديمقراطية نظام كافر ولا علاقة له بالإسلام وبالتالي يوم سنستلم الحكم سنلغي الديمقراطية ونقيم الحاكمية الإلهية».

وهذا المثال معروف في التاريخ الأوروبي أيضا، واقصد ما حدث في ألمانيا النازية فادولف هتلر جاء إلى الحكم عن طريق الانتخابات، وألغى الانتخابات فيما بعد، وفرض ديكتاتورية من أشنع الديكتاتوريات في التاريخ. لذلك أقول ليس صندوق الاقتراع هو وحده المعيار، والتحول الديمقراطي هو تحول في المجتمع، وإذا لم تتأسس علاقات ديمقراطية داخل الأسرة وفي سلك التعليم والعمل، وفي المؤسسات المختلفة فمن الصعب أن يصوت الفرد بشكل ديمقراطي.

س3 ) أنت تطالب بثقافة ديمقراطية للوصول إلى ديمقراطية حقيقية، ولكن السؤال هو ما السبيل إلى تكريس ثقافة الديمقراطية في مجتمعاتنا المكبلة بألف قيد وقيد؟

ج3 نعم هذه مهمة طويلة وشاقة، ولا نتوقع منها نتائج فورية. أنا أتكلم عن بذرة الديمقراطية لا عن قطف ثمرتها، وهذه عملية طويلة فقد احتاجت أوروبا إلى خمسمئة سنة حتى تطور النظام الديمقراطي لديها. أنا لا أقول نحن نستطيع أن نختصر المسافات الزمنية، ولكن أقول، مع الأخذ بعين الاعتبار التفاوت بين الأقطار العربية، أن العملية طويلة النفس وقد تحتاج إلى عقود أو قرن من الزمن حتى تنضج المنطقة العربية وتكون مهيأة لنظام ديمقراطي ممكن، وما حدث في العراق مثال لافت. أنت دمرت سلطة ديكتاتورية مستبدة مجرمة ولكن هذه السلطة مارست على مدى 35 عاما سياسة الإفراغ السياسي، وبالتالي لم تبق نخب تستطيع أن تقود عملية التحول الديمقراطي، لأنك إذا قضيت على السياسة وأبعدتها من المجال العام (كما فعل الرئيس المخلوع) لا بد من سد الفراغ، وهذا الفراغ لن يمليه سوى رجال الدين، ولا أقول حتى الدين. الديمقراطية هي نبتة تحتاج إلى رعاية كثيرة والى اعتناء وحماية حتى تتطور ذات يوم إلى شجيرة ثم شجرة ثم تثمر، فالوهم الكبير اليوم هو القول بأننا سنعمل انتخابات وانتهت القصة، هذه فكرة مخيبة للآمال كما كانت فكرة الوحدة من قبل أو فكرة الاشتراكية. لا يوجد حل سحري. الحلول يجب أن تكون تاريخية، والتاريخ لا يقفز بل يتقدم ببطء، ثم إذا تراكم التقدم يتحول إلى انقلاب، ولكن ليس بين ليلة وضحاها، لذلك أنا ديمقراطي ولكني مؤجل، أنا اسمي نفسي «مشروعا ديمقراطيا»، ولست ديمقراطيا، لان الديمقراطية ليست ثمرة جاهزة برسم القطف الآن في واقع المجتمعات العربية.

س4 ) هناك سؤال أنت تطرحه في كتاباتك، وأنا سأطرحه الآن عليك، وهو: لماذا تأخر العالم الإسلامي بعد أن كان متقدما، ولماذا تقدم العالم المسيحي بعد أن كان متأخرا؟

ج4 نعم هناك مفارقة كبيرة. ولكن لا بد من التنبيه بان العالم ليس فقط إسلامي ومسيحي. يجب ألا ننسى أن هناك العالم البوذي والعالم الهندوسي وهم في التعداد اكبر من تعداد العالم الإسلامي والمسيحي معا، ولكن إذا حصرنا النقاش نجد أن العالم الإسلامي والعالم المسيحي هما الأقرب جغرافيا، وعلاقتهما متصلة تاريخيا. لا ننسى أن قسطنطينية عاصمة بيزنطة المسيحية صارت عاصمة الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، إذاُ نحن خليط جغرافي وتاريخي من أيام ظهور الرسالة المحمدية، لذلك، دوما، تحدث المقارنة. صدمة عصر النهضة كانت عندما دك نابليون بمدفعيته مصر فاستيقظ الشرق على واقع تخلفه ورأى تأخره في مرآة الغرب المتقدم، وبدأت المقايسة. لم نعد نستطيع أن نسقط الغرب كمرجعية للقياس، وبالتالي هنا خطر لي السؤال: ما الذي حدث في تاريخ المسيحية وما الذي حدث في تاريخ الإسلام؟ المسيحية ولدت في ظل الدولة الرومانية ثم تنصرت الدولة الرومانية وسيطرت المسيحية لمدة حوالي ألف عام على الدولة وأغرقتها في ما نسميه اليوم ب «ظلام القرون الوسطى»، ثم ابتداء من القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي، بدأت أوربا تستيقظ على ما سنسميه ب «النهضة». بذور النهضة بدأت، وإحدى بذور هذه النهضة جاءت من العالم العربي الإسلامي كما نعلم، عن طريق أسبانيا وعن طريق الحروب الصليبية اكتشف الغرب حضارة إلى جانبه، ثم جاءت عملية الترجمة من العربية لكتب الفلسفة التي كانت ترجمت عن اليونانية، وبذلك اكتشف الغرب الواقع الحضاري للمنطقة التي كانت خاضعة للثقافة أو للحضارة العربية الإسلامية.

الإسلام تختلف صورته، فقد انطلق من الجزيرة العربية بعد قرن واحد من الزمن، بعد الفتوحات ودخوله المنطقتين الأساسيتين البيزنطية والفارسية. بنى الإسلام حضارة ابتداء من القرن الأول لم تلبث في القرن الثالث والرابع أن بلغت اوجها وشكلت واحدة من كبرى الحضارات في التاريخ. إذا الإسلام بدأ متقدما، في حين المسيحية بدأت متأخرة. الإسلام عرف نهضة في القرون الأولى من تاريخه، بينما المسيحية كانت ظلامية في القرون الأولى. لذلك كان الهم الذي يشغلني هو: كيف حدث هذا التحول الكبير؟ كيف بدأت الحضارة المسيحية أو المنطقة المسيحية متأخرة ثم تقدمت، ولماذا بدأ الإسلام متقدما ثم تأخر وصولا إلى ما نسميه ب «عصر الانحطاط»؟. هذه الإشكالية وجدتها في الفلسفة، من اجل ذلك سميت كتابي «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام»، وأقول فيه إن السبب الحقيقي لهذا التقدم وهذا التخلف ليس الدين بحد ذاته، إنما تشغيل العقل وإن تحت سلطان الدين. فالدولة الرومانية عندما تنصرت وفرضت دينا جديدا للدولة هو المسيحية، أوقفت اشتغال العقل، واعتبرت النص فقط هو الذي يحكم كل شيء، وليس العقل الذي يحتاجه النص، على الأقل، لتأويله وتجديده باستمرار، فالمسيحية ألغت العقل وألغت الفلسفة لان مجال اشتغال العقل هو الفلسفة التي تعرف ب «اشتغال العقل بالعقل»، فالمسيحية الأولى، مسيحية القرون الوسطى، حاربت الفلسفة، ودمرت الكتب اليونانية، ولم تسمح بترجمتها واضطهدت الفلاسفة وأغلقت مدارس الفلسفة، ونفت الفلاسفة الذين ذهبوا إلى كسرى ثم إلى حران فإلى الإسلام في بغداد.

أما الإسلام فعند ظهوره الأول بدأ يستقبل العقل، وانفتح على الحضارات المجاورة كاليونانية، والسريانية، والفارسية، والهندية، وترجم ثقافتها إلى اللغة العربية بحيث لم يحدث في أي حضارة أخرى قط أن ترجمت الكتب كما ترجمت في ظل الحضارة العربية الإسلامية، إذا فهذا الانفتاح الحضاري، وهذا التشغيل للعقل أدى إلى تقدم العالم الإسلامي، وأريد أن أشير بان الكتب التي ترجمت لم تكن يونانية بل كتبت باليونانية. الفلسفة كانت يونانية ولكن الفلاسفة لم يكونوا يونانيين، كان معظمهم من الحوض الشرقي للمتوسط أي من أصول مشرقية، ونيتشه له مقولة مشهورة تقول «الفلسفة كانت يونانية، والفلاسفة كانوا أغرابا». فالحضارة العربية الإسلامية انفتحت على التراث اليوناني بصفته تراثا مشرقيا، لم تكن العملية فيها قطيعة جغرافية فنفس الفلاسفة الذين كتبوا بالسريانية وباليونانية هم أنفسهم ساهموا فيما بعد في نقل هذه الكتب إلى العربية، وبذلك استطاعت الحضارة العربية بانفتاحها على المنطقة كلها، أن تحتضن كل تراث المنطقة ولم تقطع معه، بعكس ما فعلت المسيحية الأولى إذ نفت كل ماضي الإمبراطورية الرومانية وهو الماضي اليوناني بشكل خاص، وحصل انحطاط كبير في تاريخ الدولة الرومانية ثم البيزنطية، بينما دخل الإسلام المنطقة وانفتح على الثقافات والحضارات باستمرارية وبدون قطيعة وعرفت الحضارة العربية الإسلامية نهضتها الكبرى وصولا إلى القرن الرابع وأوائل القرن الخامس، حين بدأت الآية تنعكس، إذ بدأ الغرب يعاود اكتشاف ماضيه العقلي وينسب نفسه إلى الماضي اليوناني، وهذا الماضي لم يكن ماضيا غربيا كما قلت، في حين أن ظهور التعصب والنزعة الانغلاقية الحضارية التي بدأت تسيطر على المسلمين ابتداء من القرن الخامس الهجري أوصلنا إلى عصر الانحطاط، إذ طردوا الفلسفة وعلم الكلام وحتى المذاهب الفقهية، وقالوا «من تمنطق تزندق»، فمن عملية الانفتاح الكبيرة بدأت عملية انغلاق مذهلة، في الوقت الذي كانت أوروبا تعيد فيه قراءة تاريخها وماضيها وتسير نحو النهضة والحداثة. والسبب الأساسي في ذلك أو الآلية التي حكمت ذلك هي الموقف من العقل سواء تمثل هذا العقل بالفلسفة أو بعلم الكلام أو بالمنطق أو بالعلوم المنقولة أو ما يسميه ابن خلدون ب «العلوم الطارئة على الأمة». لذلك أقول أملنا في تجديد النهضة، في استئناف النهضة هو الاحتكام من جديد إلى العقل وتحكيم العقل حتى في الدين. ولا بد هنا من الإشارة إلى أننا عرفنا بداية عصر النهضة في القرن التاسع عشر فما فوق بعد أن اكتشفنا واقعة التقدم الغربي، وواقعة التأخر الشرقي أو العربي أو الإسلامي، ولكن، مع الأسف، جاءت فترة اسميها فترة الثورة التي تصورت تحت كل الشعارات سواء كانت ناصرية أو بعثية أو قومية أنها تستطيع أن تحرق المراحل وأن تقفز فوق مشروع النهضة فلم تنجح إلا في شيئين أحرقت النهضة، وأحرقت نفسها. نحن الآن في أزمة كبيرة لذلك أقول أن لا مخرج من هذه الأزمة إلا بالعودة إلى منطق النهضة، وعصرها وتجديد النهضة بصيغ وأساليب مختلفة.

س5 ) لكن الصورة الآن مرعبة، فهذه التيارات التكفيرية، وهذه الحركات الأصولية المتزمتة هي أكثر خطورة من أية حركة ظهرت في التاريخ الإسلامي، ولم يسبق للإسلام أن شهد مثل هذه الحركات حتى في اكثر الفترات انغلاقا وتعصبا، كيف تنظر أنت إلى هذا الواقع من موقعك كمفكر؟

ج5 نعم، اتفق معك، بان الصورة مرعبة الآن، وهي أكثر رعبا حتى بالقياس إلى عصر الانحطاط الذي عرفه الإسلام. فالظاهرة الاسلاموية اليوم اشد انغلاقا حتى من هذا العصر لأنها تتوهم بأنها ستدمر كل علاقة مع الحضارات والثقافات الأخرى التي تعتبرها ديار كفر، ليس فقط مع الحضارات التي قد يجوز تسميتها ب «الوثنية»، كالبوذية والهندوسية، وإنما مع الحضارات والديانات التوحيدية أيضا، هذه القطيعة مع الحضارات اخطر بكثير أو اكثر تصلبا وتعصبا من قطيعة عصر الانحطاط الذي حاول تقليص دوائر العلم كالفلسفة، والمنطق، وعلم الكلام، والعلوم المنقولة كالفيزياء، والكيمياء، والطب، والجبر، والهندسة، أما الظاهرة الاسلاموية، اليوم، تريد إغلاق هذه الدوائر بصورة كاملة .

س6 ) فضلا عن الكراهية المفرطة تجاه الآخر؟

ج6 وهذا الآخر ما كان «آخر»، وإلى اليوم لن يكون «آخر»، لأن الغرب نفسه يدين للمسيحية بقسم كبير من حضارته، والمسيحية ديانة شرقية، وهي بالأساس ديانة توحيدية، ومعترف بها في القرآن، الآن لا يستعملون تعبير «الديانات التوحيدية» أو «أهل الذمة»، بل يستعملون تعبير «أهل الكفر»، وهذا مخالف لأبسط ما جاء في القرآن عن اتباع الديانات التوحيدية. لذلك أنا أقول أن الاسلاموية بدعة، والدليل انك لو رجعت إلى تراث الإسلام منذ ظهوره في مكة والمدينة إلى منتصف القرن العشرين لن تجد فيه كلمة «إسلامية»، لم يكن هناك من يسمي نفسه إسلامي أو اسلاموي. لا وجود لكلمة إسلامي في المعجم العربي، هناك المسلم وهناك صفة للفكر إذا كان مسلما، فنقول «الفكر الإسلامي»، ولكن لم يكن هناك أيديولوجيا إسلامية، هناك دين إسلامي.

س7 ) مشكلة هذه المفاهيم والتعابير الخاطئة هي أنها تنتج العنف والتطرف الأعمى، فكيف يمكن تصحيح هذه الاجتهادات الخاطئة البعيدة عن روح الإسلام؟

ج7 اعتقد أن إعادة تشغيل العقل حتى في النص الأول المركزي ضرورية جدا لأنني لا أتصور نهضة حقيقية بدون حركة إصلاح دينية. في أوروبا نفسها لم تبدأ النهضة إلا مع حركة الإصلاح الديني، لكن لدينا، ومع الأسف، أحبطت جميع مشاريع الإصلاح الديني، وهي لم تحبط فقط بل هناك ردة هائلة إلى الوراء تزعم أننا متقدمون والآخر متخلف. نحن عشنا كل تراث عصر النهضة ومن بعده تراث الثورة – إذا جاز هذا التعبير – ونحن نتساءل: كيف نتقدم؟ كان هذا هو السؤال المركزي في عصر النهضة. كان هناك تسليم بأننا تخلفنا لان نابليون غزا مصر وسورية بألف جندي، ويقال بان الهند بطولها وعرضها غزاها خمسة آلاف جندي بريطاني فقط. كنا على يقين راسخ بأننا تخلفنا، وتساءلنا لماذا؟؟ اليوم، وهنا الطامة الكبرى، تُنكر واقعة التخلف، ويقال: نحن المتقدمون وهم المتخلفون، وبالتالي تسقط أي آلية أو ضرورة للنهضة وفق هذه الرؤية. وأصحاب هذه التيارات المتطرفة يزيدون بأنه يجب أن نطهر أنفسنا من الآخر حتى نتقدم اكثر، فبدلا من الانفتاح على الآخر، والذي كان (أي الانفتاح) إحدى الآليات الأساسية للحضارة العربية الإسلامية لكي تتقدم وتؤسس نفسها في حضارة عالمية كبرى، اليوم نرى العكس، فان الانغلاق الحضاري، والعداء للآخر وكراهيته هي التي يراد لها أن تؤسس للواقع العربي والإسلامي، لذلك أقول نحن الآن في هذه المرحلة نواجه حتى اصعب مما واجهه عصر الانحطاط، لان عصر الانحطاط كان غير واع بانحطاطه أما اليوم فهناك من يبارك الانحطاط ويعتبره تقدما.

س8 ) مشروعك الموسوعي في الرد على محمد عابد الجابري يحتوي على قراءة عميقة للتراث اليوناني، وللتراث الأوروبي الفلسفي، وللتراث العربي الإسلامي ليس الفلسفي فحسب، بل والكلامي والفقهي واللغوي والبياني. فهل كان الجابري ذريعة للخوض في هذا التراث، وهل تشعر بامتنان له، هو الذي حرضك على تدوين هذا السفر الواسع، وحفزك – كما تقول – على ضرورة ممارسة النقد الفكري؟

ج8 في اكثر من مرة عبرت عن امتناني للجابري، ولكن في اكثر من مرة أيضا عبرت عن خيبة أملي. امتناني له لأنه أجبرني على هذا الاقتحام الواسع، ولكن كلما تعمقت رحلتي معه كلما ازدادت خيبة أملي. كنت أتصوره، من قبل، قمة من القمم، وكان كل أملي أن لا تحجب هذه القمة عنا، قمما أخرى ممكنة، لأنك عندما تصعد سلاسل الجبال تطالعك أول قمة، فيجب ألا تحجب هذه القمة، قمما أخرى بعدها. كنت احلم أن من هذه القمة التي أوصلنا إليها الجابري أن نصعد إلى قمة أعلى، ولكن مع الأسف كلما تعمقت معرفتي بكتابات الجابري، كلما اكتشفت الأساس العلمي الهزيل أو المزيف لها. وقد أحصيت من شواهده التي لا تقل عن خمسمئة شاهد، أحصيت منها 490 شاهدا خاطئا وكاذبا أو مساء تأويله. ومع تقدمي في العمل شعرت أن ما كنت أتوهمه قمة توصلني إلى قمة أخرى اكتشفت بأنه ليست قمة على الإطلاق، وأقولها صادقا ليس من باب التشهير، شيء عجيب أن يبني أحدهم مجموعة هائلة من الإشكاليات على معطيات كاذبة. هذه كانت مفاجأتي الكبرى مع الجابري في النهاية. والواقع أن الجابري قدم لي المناسبة، التكئة، نقطة الانطلاق، ولكن ليس محطة الوصول. فقد كف مشروعي عن أن يكون مشروعا لنقد الجابري ليتحول إلى إعادة قراءة، وإعادة حفر، وإعادة تأسيس. أو هذا ما أرجوه على الأقل.

س9 ) هل من أمثلة على ما تسميه ب «الكذب أو التزوير» الذي قام به الجابري؟

ج9 سأعطيك مثالين من كتابي الأخير «العقل المستقيل في الإسلام»، فالجابري كتب عن كتاب اسمه «الفلاحة النبطية» الذي ترجمه إلى العربية ابن وحشية، نصف صفحة بينما كتبت عنه مئة وعشرين صفحة، وكانت مفاجأة العمر بالنسبة لي إذ عثرت على هذا النص فاكتشفت أن الجابري لم يفعل سوى انه اعتبر هذا الكتاب هو مثال الكتاب «اللاعقلاني، الغنوصي، الدخيل الذي دمر الحضارة الإسلامية من داخلها»، اكتشفت أولا أن هذا الحكم أخذه الجابري من مستشرق فرنسي ذي اتجاه مسيحي، وانه لا هو ولا المستشرق قد اطلعا على الكتاب الذي يعد أحد الكتب الهامة حول الزراعة وليس له علاقة لا بالتنجيم، ولا بالسحر. وهذا الخلط جاء لان كلمة «فلاحة»، في الفرنسية والإنكليزية، تعني أيضا التنجيم فظن المستشرقون الذين لم يقرأوا هذا الكتاب انه في التنجيم والسحر، والجابري الذي لم يقرأ الكتاب أيضا، وإنما سرق هذه الفكرة من المستشرقين، اعتبر، بدوره، أن هذا اكبر كتاب دمر العقل في الإسلام، وانه كتاب «غنوصي وهرمسي وافلاطوني مشرقي وسحري»، وإذ قرأت الكتاب وجدته موسوعة حقيقية في علم النبات، ولا علاقة له بالسحر بل مضاد للسحر، هو كتاب مدهش في مستواه العلمي، وقد غيّر رؤيتي للحضارة كلها واثبت لي بعكس كل ما كان يردده المستشرقون أمثال أرنست رينان من أن العقلية السامية، بعكس العقلية الآرية الأوروبية، عقلية لا علمية وعقلية خرافية، ففي هذا الكتاب نجد مستوى علميا عاليا في التدقيق والتحليل والقوانين العلمية، وجاء الجابري والمستشرقون واتهموا الكتاب بأنه كتاب سحر وغيبيات وانه سبب أساسي في خراب العقل الإسلامي، وهذا، كما بينت حكم خاطئ ومضلل.أما المثال الآخر فيتعلق برسائل إخوان الصفاء، فالأهجية التي كتبها الجابري ضدهم، وتنديدا بدورهم المزعوم في «تكريس وتعميق الاتجاه اللاعقلاني في الثقافة العربية الإسلامية» لم تتعد الصفحتين، بينما كتبت اكثر من مئة صفحة لأرد إليهم اعتبارهم الفكري لأنني اكتشفت عندما عدت لقراءتهم، انه لا يوجد من احترم العقل مثلهم، وذلك بعكس ما يزعم الجابري بالضبط، والذي اعتمد هنا أيضا على أحكام المستشرقين.

س10 ) الجابري انتقدك مرة وقال: كيف لمن لا يحمل شهادة دكتوراه أن يتصدى لنقده؟ كيف ترد عليه؟

ج10 طبعا أنا لا احمل شهادة دكتوراه. ورغم أن من المعيب أن يدخل الإنسان بتفاصيل من هذا القبيل ولكن فقط احب التذكير باني كنت أنجزت رسالة دكتوراه للسوربون ولكن أنجزتها بالعربية، وكان المشرف عليها محمد اركون فقال: لا يمكن قبولها بالعربية ولابد من ترجمتها إلى الفرنسية، فاستغنيت عن شهادة الدكتوراه وطبعت الكتاب، فالموضوع ليس شهادة دكتوراه. أنا اعتقد أن هذا الموقف لا يصدر إلا عن الضعف مثلما قال مرة أخرى أسوأ من ذلك، قال: «هذا مسيحي، فكيف له أن يدخل إلى التراث الإسلامي، فأنا كإسلامي أتعامل مع التراث الإسلامي من الداخل أما هو، فلأنه مسيحي، فلن يتعامل معه إلا من الخارج»، ولم يدر في خلد الجابري أن التراث الإسلامي هو تراث أي مشرقي مسيحيا كان أو مسلما أو حتى يهوديا. ليس لدينا تراث آخر غيره، ولكن تصوراته المغلوطة…(لم يكمل طرابيشي جملته، وآثر الصمت).

س11 ) كتابك الأخير «العقل المستقيل في الإسلام» هو الجزء الرابع في الرد على الجابري. هل ثمة أجزاء أخرى؟

ج11 نعم هناك الجزء الخامس والأخير الذي اعمل عليه الآن، فالكتاب الذي ذكرته لم يتوصل إلى أن يحسم أكثر من نصف الإشكالية. فالشيء الذي افلح الكتاب في إثباته هو أن استقالة العقل في الإسلام لم تكن بعامل خارجي ونتيجة لاكتساح ساحته من قبل جحافل اللامعقول المندفعة من مكامن الموروث القديم في الإسكندرية وأفامية وحران…الخ، كما يقول الجابري.

وأما أن مأساة أفول العقلانية العربية الإسلامية هي مأساة داخلية، ومحكومة بآليات ذاتية، وغير قابلة للتعليل بأي «حصان طروادة» أيديولوجي أو إبستمولوجي متسلل من الخارج، فهذا هو نصف الإشكالية الثاني الذي آمل أن أتمكن من الإجابة عنه في الكتاب الخامس والأخير من (نقد «نقد العقل العربي»).

 

  • Social Links:

Leave a Reply