مركز كارنيغي/ موسكو: في ظل بريجنسكي

مركز كارنيغي/ موسكو: في ظل بريجنسكي

 

ترجمة- سمير رمان

لو كان العالم مسطَّحًا، كما كان القدماء يتخيلونه، لكان يستند على كتفي عملاقين- زبيغنيف بريجنسكي، وهنري كيسنجر. وكلاهما شغل منصب مستشار الأمن القومي في الولايات المتحدة، وكانا يفهمان أُسس Realpolitik ومقاربة السياسة العالمية الواقعية، بطريقتين مختلفتين.

في الساعة الثالثة، من 19 تشرين الثاني/ يناير 1979، أيقظ بيل أودم، مساعد مستشار الأمن القومي زبيغنيف بريجنسكي، رئيسَه من النوم: “عفوًا سيدي، هجوم نوويّ. قبل 30 ثانية انطلق 200 صاروخ سوفييتي، باتجاه الولايات المتحدة الأميركية”.

استغرق التأكد من المعلومات دقيقتين، وأربع دقائق لإيقاظ الرئيس الأميركي، وتقديم تقريرٍ له عن الوضع. طلب بريجنسكي من مساعده أودوم ثانيةً التأكدَ مرَّةً أُخرى من المعلومات، ومعاودة الاتصال به، والـتأكّد من أنَّ قيادة القوات الجوية الاستراتيجية، في وضعية الجهوزية القتالية.

لاحقًا، كان بريجنسكي يتذكَّر أنَّه كان هادئًا تمامًا، في غضون الثواني الثلاث التي كان ينتظر خلالها مكالمة مساعده: “بقيت بضع دقائق على الهلاك الشامل، كان من الصعب استيعاب الأمر”. أودوم عاود الاتصال، وأعلن أنَّ الإنذار كان خاطئًا.

لم يقدَّر لكل شخص في عام 1979 أنْ يعيش من جديد أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 1962 الأحداث التي جاءت، أيضًا، بسبب خطأ في النظام. ماذا لو لم يعطِ “زبيغ” -كما كانوا يسمونه- الأوامر بإعادة التأكُّد من المعلومات؟ تعمَّد مستشار الأمن القومي عدم إطلاق جهازه التحليلي خلال تلك الثواني الحرجة. ولأنَّ هذا الجهاز التحليلي كان معطَّلًا، استطاع بريجنسكي أنْ يدرك، على الرغم من التوتر مع السوفييت وعلى الرغم من انتهاء الانفراج معهم، أنَّه لم يكن لديهم مبرراتٌ لشنِّ هجومٍ نوويٍّ.

تخيلوا بريجنسكي يعانق ياسر عرفات! مستحيل. أو أنَّ كيسنجر يوزِّع، عن طيب خاطر، ابتسامته الساخرة والودودة التي تفهم كلَّ شيءٍ على ديكتاتورات العالم. كان بإمكان بريجنسكي أنْ يلعب الشطرنج مع مناحيم بيغن، في كامب ديفيد، وهو بالكاد يغادر ملعب التنس معتمرًا القبَّعة، مرتديًا الشورت ومنتعلًا حذاء التنس. ولكنَّه، على الأرجح، لن يذهب لصيد الخنازير البرية برفقة بريجنيف كما فعل كيسنجر وهو يستمع من القادة السوفييت إلى نكاتٍ خفيفةٍ عن اليهود، وهو يدرك أنَّها لا تحمل أيَّ إهانةٍ شخصيّة؛ فهم ببساطةٍ يتعاملون معه معاملة الندِّ للندّ.

هل كان بريجنسكي ليقوم ببناء مثلَّث: الولايات المتحدة – الصين – روسيا، كما فعل كيسنجر؟ بالتأكيد، لا. فالصين، كانت على “رقعته الشطرنجية العظيمة” قطعةً شطرنجية أكثر أهميَّةً من الاتحاد السوفيتي. وفي الوقت نفسه، كان يعرف، مثل كيسنجر، منابع السياسة الخارجية الروسية التاريخية والثقافية، وتوقَّع، قبل 20 عامًا في “بيست سييلر” على رقعة الشطرنج العظيمة، حتميَّة مطالبات روسيا بأنْ تكون أوكرانيا في منطقة نفوذها.

هل كان بريجنسكي ليقيم قنوات اتصالٍ خلفية مع قيادة الاتحاد السوفيتي/ روسيا؟ قام كيسنجر مع السفير السوفيتي لدى واشنطن أناتولي دوبرينين بمدَّ قناة كهذي، ولم يتجنب زيارة موسكو سرًا (دون معرفة وزارة الخارجية التي يمثل عمليًا سكرتير الأمن القومي). أصبحت هذه القناة إحدى وسائل سياسة الانفراج.

تبيَّن، من خلال التسريبات الأخيرة (التي تهزَّ واشنطن يوميًا)، أنَّ صهر الرئيس ترامب جاريد كوشنر، والسفير الروسي في الولايات المتحدة الأميركية سيرغي كيسلياك، يكرران نجاح كيسنجر. إلا أنَّ القناة لم تفتتح، ولم يتذكَّر أحدٌ تجارب الدول العظمى السابقة؛ وبالتالي، مرَّت القصَّة في العلاقات بعيدًا عن تحقيق انفراجٍ في تجديد العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، بل صار ينظر إليها كدليلٍ على تدخل روسيا الاتحادية في شؤون الولايات المتحدة. ربما لم يكن وزن المتحاورين الحاليين بمستوى كيسنجر ودوبرونين، ولكنَّ المهمَ، أنَّ أيَّ خطوة تقوم بها إدارة ترامب المثقلة بأسماء روسية الأصل، يُنظر إليها من زاوية خيانة المصالح القومية الأميركية.

معامل الكيمياء التي تختصّ بإنتاج “كيمياء” شخصية للسياسيين الروس والأميركيين تعمل بكامل طاقتها الإنتاجية، ولكنَّها، على ما يبدو، لا تعطي نتائج ملموسة.

أوكرانيا، سورية، وحتى إعادة الجانب الروسي للفيلات الدبلوماسية في ميريلاند لم يحلّ أيٌّ من هذه المسائل، أمَّا لقاء بوتين – ترامب المحتمل فلم يتم الاتفاق بعد على جدول أعماله.

غالبًا ما يقارن ترامب برتشارد نيكسون. وكانت هيلاري كلينتون، قد أجرت مقارنةً بينهما في محاضرةٍ ألقتها مؤخَّرًا. ولكنَّه تشابهٌ ظاهريٌّ لا أكثر. كان نيكسون سياسيًا حزبيًّا مخضرمًا، قادرًا على صياغة سياسته الخارجية الخاصّة به. إضافةً إلى ذلك، كان إلى جانبه هنري كيسنجر. أمَّا ترامب فليس سياسيًا، وليس لديه عقيدة، من دون الحديث عن فشله في استكمال طاقم وزارة الخارجية.

الأهم، أنَّ نيكسون وبريجنيف -كما يتضح من مذكرات شهود انبعاث مرحلة الانفراج، بما فيها مذكرات كيسنجر نفسه- كانا يريدان بالفعل تحسين العلاقات والتوصل إلى السلام. ولتحقيق شيءٍ ما يجب، أولًا فهم ما يراد تحقيقه، وثانيًا الرغبة الصادقة في ذلك.

لا شيء في أفعال السلطات الروسية ودبلوماسيتها يشير إلى أنَّها تريد التوصل إلى انفراجٍ مع أميركا كما هي عليه اليوم، وليس التوصل إلى علاقات شخصية “صديق – مع صديق” مع ممثلي الإدارة الخارجية الأميركية. أمَّا ما يريده ترامب فعمومًا، لا يمكن فهم ما يريده من خلال الكمِّ الهائل من الملاحظات حول ملابس إيفانكا وميلاني ترامب التي تملأ صفحات كبريات مجلات الموضة العالمية.

والأهمُّ، أنَّ ترامب لا يستطيع التغلب على مقاومة نظام التعطيل والتوازنات، مؤسسات الديمقراطية الأميركية، وكذلك النوايا السيئة الواضحة داخل الهياكل الحكومية التي تمتلك قنوات خلفية، تصبُّ في (نيويورك تايمز) مباشرةً. إنها بريدٌ جويّ يعمل دون خلل على مدار الساعة. وحتى لو كان ترامب يريد الخير للأمَّة على طريقته، فإنَّ أحدًا لا يصدِّق ذلك، ولا شيء أقوى من الطريقة النمطية السائدة.

الرئيس الأميركي يلزم كشريكٍ لأوروبا التي تعافت من انتصار ترامب ومن “البركسيت” البريطاني، بفضل إيمانويل ماكرون وبفضل وضع أنجيلا ميركيل المتين المتوقَّع. ويبدو أنَّ ماكرون هو الشخص الوحيد، في القارة الأوربية، الذي يستطيع بفضل تفكيره البراغماتي المالي أنْ يتحمَّل مصافحة ترامب القاسية، وهو الوحيد المستعدُّ للاعتراف له (لترامب) بأنَّه قادرٌ على الاستماع والتعلُّم.

وهذا ما يفسر الكثير من علاقة الرئيس الفرنسي الجديد بالرئيس فلاديمير بوتين. ينصبُّ اهتمام الأوربيين الكبار على إعادة إطلاق، وإعادة تأسيس المشروع الأوروبي. التفتت الأوروبي على كلِّ حال لم يقع بعد. ولكنَّ القيادة السياسية الأوروبية بحاجةٍ إلى إعادة التركيز في وقتٍ ما. إنَّها بحاجةٍ إلى التركيز على القضايا الأوروبية الداخلية، بدءًا من الهجرة غير الشرعية وصولًا إلى تصرفات قيادة بولندا وهنغاريا الغريبة. لذلك، أوروبا غير مهتمَّة ببوتين. ويكمن الحلّ في تهدئته نوعًا ما، وهذا بالضبط ما فعله ماكرون بصفته وجهًا جديدًا على الساحة الأوروبية، ويهتم به بوتين بعض الشيء، ولكن مع قليلٍ من الضجر.

بعد الفشل المتكرر الذي ذاقه اليمين المتطرف، قد يكون هذا الاحتمال مناسبًا للطبقة السياسية الروسية التي كرّر ممثلوها غير مرَّةٍ ما هو معروف: يبقى الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الرئيس لروسيا، على الرغم من العقوبات (شكَّلت واردات الخدمات الأوربية إلى السوق الروسية 44.8 بالمئة في عام 2016، في حين بلغت حصَّة الصين الصديقة 3.2 بالمئة فقط).

وبمعنًى ما، العودة إلى نموذج “التعايش السلمي” الذي رُسم في عهد العمالقة: بريجنسكي وكيسنجر “ما هو لي هو لي، وما هو لك موضوع مفاوضات”. علَّمنا العمالقةُ البراغماتية، وكذلك الصلابةَ. والرئيس الفرنسي ماكرون يسير على هذا المنهج غريزيًا، وهو الذي لم يشعر أمام بوتين بالحرج ليقول له بعد المصافحة: ستزداد العقوبات في حال التصعيد في أوكرانيا.

وهكذا، نحن -الروس- أمام وضع جديد، ربما يكون وضعيةً مؤقتةً على رقعة الشطرنج العظيمة. من المؤسف أن يكون بجينزيسكي قد مات، فقد كان من الممكن أنْ يكون لديه ما يقوله.

  • Social Links:

Leave a Reply