مقدمة
مؤخرًا، تناوب مسؤولون غربيون وعرب، على إطلاق تصريحات تتحدث عن القبول ببقاء رأس النظام السوري، بشار الأسد، خلال المرحلة الانتقالية، وكذلك القبول بترشّحه لفترة رئاسية جديدة بعد انتهاء هذه المرحلة، ما فسّره البعض على أنه تغيّر دولي و”واقعية سياسية” تُحاول بعض الدول فرضها على المعارضة السورية، لخفض سقف مطالبها وتقديم التنازلات.
خلال الشهرين الأخيرين، سمع السوريون تصريحات متناقضة، حول تراجع بلدان، غربية خصوصًا، عن شرط إزاحة الأسد عن السلطة كشرط مسبق للتسوية السياسية التي يمكن أن تُنهي الحرب المستمرة منذ ست سنوات ونصف، وأحبطت هذه التصريحات بعض المناوئين للنظام، ولم يكترث بها البعض الآخر، معتبرين أنها تصريحات سياسية “تكتيكية” لا تحمل حرفية كلماتها، كان لا بدّ منها لتمرير قضايا مهمة أخرى تحتاج إلى بعض الليونة الموقّتة.
أولًا: فرنسا- تغيّرات تكتيكية أم استراتيجية
في 21 حزيران/ يونيو الماضي، بدأ سيل التصريحات المتناقضة، فقد صرح الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأنه لا يرى بديلًا شرعيًا للأسد، وأن فرنسا لم تعد تعتبر رحيله شرطًا مسبقًا لتسوية النزاع في سورية. وفي مقابلة مع ثماني صحف أوروبية، رأى ماكرون أن الأسد “عدو الشعب السوري لكنه ليس عدو فرنسا”، وأضاف أن أولوية باريس هي “التركيز الشامل على محاربة الإرهاب وضمان ألا تصبح سورية دولة فاشلة”.
تناقضت تصريحات الرئيس الفرنسي بصورة حادّة مع موقف الإدارة الفرنسية السابقة؛ فعلى خلاف موقف سلفه، فرانسوا أولاند، الذي أيّد بشدّة شرط رحيل بشار الأسد عن الحكم كمخرج للأزمة السورية، وأكّد على أنه لا يجب أن يكون جزءًا من مستقبل سورية، جاءت تصريحات ماكرون لتُلغي هذا الشرط، ولتقترب كثيرًا من موقف موسكو التي تؤمن بأنه لا يوجد بديل ملائم عن الأسد.
أنصار النظام السوري اعتبروا هذه التصريحات تحولّا في السياسة الفرنسية وانتصارّا للأسد، ووثيقة تعميد أوروبية لبقائه في السلطة أبدًا، فيما حذّرت المعارضة من أن هذا التغيّر دليل على نجاح الأسد في تخويف العالم من الإرهاب، الذي قال في وقت سابق إنه لن يأكل سورية فحسب بل سيأكل العالم كله، وأرسل رسالة على الغرب بما معناه عليكم أن تختاروا إما أنا أو الإرهاب.
لكن، سرعان ما بدّد وزير الخارجية الفرنسية، جان إيف لودريان، الريبة الكلّية، وأظهر ملامح لتراجع باريس عن موقفها؛ ففي مطلع أيلول/ سبتمبر، خلط أوراق بلاده السياسية تجاه سورية، وأدلى بتصريح صحفي يختلف كليًا عن تصريح ماكرون، وقال إنه “لا يمكن أن يكون الحل”، أي الأسد، رافضًا بقاءه في المرحلة الانتقالية، وقال “لا يمكن أن نبني السلام مع الأسد، لا يمكنه أن يكون الحل، الحل هو في التوصّل مع مجمل الفاعلين إلى جدول زمني للانتقال السياسي يُتيح وضع دستور جديد وانتخابات، وهذا الانتقال لا يمكن أن يتم مع بشار الأسد الذي قتل قسمًا من شعبه”.
برزت ملامح خلاف بين موقف وزارة الخارجية وموقف الرئاسة الفرنسية ممثلة بماكرون، الذي شهدت سياسته انتقادات من الدبلوماسية الفرنسية، ووصفها بعضهم بـ “السطحية والخالية من العمق، ولا تدرس مصالح فرنسا جيدًا، ولا تمتلك تقديرًا دقيقًا للأزمات”، لكن تصريحات لودريان التي رقّعتها أتت في منزلة تنبيهٍ له لفتح باب المراجعة.
لكن ماكرون، سارع إلى الإعلان عن تشكيل “مجموعة اتصال” جديدة حول سورية، تهدف إلى تطبيق الانتقال السياسي وفق القرارات الدولية، على الرغم من أن تجارب مجموعات الاتصال السابقة لم تكن ناجحة، على أمل أن تكون وسيلة لإعادة النظر في موقفه من رحيل الأسد.
تحدّث ماكرون وقتها بلغة دبلوماسية، غير محدّدة، وحمّالة أوجه، يمكن ترجمتها بعكس معناها بانحراف صغير في التفسير، لتُرضي هذا الطرف موقّتًا ثم تعود لتُرضي الطرف الآخر، ليتفادى قائلها الضغوط التي تحيط به، خاصة أن هذه التصريحات أتت بعد فترة قصيرة من قمّة جمعت ماكرون بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في فرساي بضواحي باريس، أعربت خلالها فرنسا عن رغبتها في تطوير مستوى العلاقات مع روسيا، وتخفيف حدّة الخلافات معها، خاصة تجاه ما يجري في سورية، على الرغم من أنها من النواة الصلبة لمجموعة “أصدقاء الشعب السوري” التي كانت تُطالب برحيل الأسد عن السلطة.
خلال حملته الانتخابية، لم يكن هذا الموقف مطروحًا لدى الرئيس ماكرون، لكن مواقفه تغيّرت بعد قمة جمعته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في باريس أواخر أيار/ مايو الماضي، وتبلورت رغبة فرنسية في تخفيف حدّة الخلافات الروسية- الفرنسية، ويبدو أن مجمل الموقف الدولي وضرب الإرهاب في فرنسا غير مرّة، دفع فرنسا لاتباع تكتيك مختلف من القضية السورية.
لكن ماكرون نفسه، عاد في 19 أيلول/ سبتمبر ليقلب الطاولة على من اعتقد أن فرنسا تُغيّر موقفها وتُعمّد الأسد، وقال خلال مؤتمر صحفي إثر إلقائه خطابه الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك إن “بشار الأسد مجرم، يجب أن يُحاكم ويُحاسب على جرائمه أمام القضاء الدولي. ولكني، من منطق براغماتي، لم أجعل من تنحّيه شرطًا مسبقًا”، مشددًا على أن هذا الأمر يعود إلى الشعب السوري “أن يختار بحرية قائده المُقبل”.
أتت تصريحات ماكرون الثانية بعد أن دعا في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى تشكيل مجموعة اتصال حول سورية لإعطاء دفعة جديدة نحو التوجه إلى حل سلمي للنزاع في هذا البلد، معتبرًا أن آلية المفاوضات التي تخوضها موسكو وطهران وأنقرة في أستانا، عاصمة كازاخستان، “لا تكفي”. وهذا التصريح، عدا عن أنه مباشر وواضح لجهة تنحي الأسد أو تنحيته، يوحي بأن العلاقة الفرنسية- الروسية لم تتطور بالمستوى أو بالسياق الذي ترغب فيه فرنسا، ما دفعها للعودة إلى موقفها الأساس المتشدد من النظام السوري.
هذا الأمر أكّده أيضًا وزير الخارجية الفرنسي في نيويورك، حين حذّر من أن الوضع العسكري في سورية يُهدد بـ “بتقسيم البلاد إلى الأبد” وتشكيل منظمات جديدة من “التطرف”، تحل محل “تنظيم الدولة الإسلامية”، ما لم تُوحّد الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي جهدها للسعي من أجل “حلّ سلمي”، وشدّد الوزير على أن “الواقعية تحتم رحيل بشار الأسد عن السلطة” بعد أن “هرب ملايين السوريين من البلاد، بسبب الحرب”، وأكد على أن ذلك يجب أن يكون من خلال “رعاية الأمم المتحدة في مفاوضات جنيف”، ما يؤكد أن فرنسا تعتبر كل ما يجري في أستانا أمرًا هامشيًا لن يحل أي جانب من جوانب القضية السورية.
Social Links: