ثانيًا: الولايات المتحدة- التقلّب بين ضفتين
تزامنت تصريحات ماكرون الأولى (حزيران/ يونيو)، مع تصريحات للسفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد، تحدث فيها عن خداع الإدارة الأميركية للسوريين، وقال إن الأسد يقترب من إعلان نصره بعد أعوام من المذابح التي ارتكبها في سورية.
أتبَعَ فورد تلك التصريحات، بتصريحات أكثر خطورة أدلى بها لصحيفة (ذي ناشيونال) في 28 آب/ أغسطس الماضي، قال فيها إن الأسد سيبقى في الحكم، وقد لا يتم يومًا محاسبته بخصوص المجازر التي نفذها بحق الشعب السوري، وأن الحرب التي بدأت تخمد قد انتصر فيها، كما قال إن إيران ستبقى في سورية، وأضاف “هذه وقائع علينا القبول بها ولا يمكن تغييرها”.
في هذا السياق، تقول وسائل إعلام أميركية إن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تتحرك من منطلق التعايش مع فكرة بقاء الأسد من دون التصالح معه، وفقًا لخطوط براغماتية وعسكرية تنال تأييد وزارة الدفاع الأميركية، وتشير إلى أن المعادلة الأميركية في سورية انقلبت عما كانت عليه منذ ست سنوات، لتصبح التركيز على البعد الإقليمي للنزاع وعلى دور إيران وأمن إسرائيل وحصة الأكراد، أما مصير الأسد فلم يعد تفصيلًا ضروريًا، ويمكن التعايش معه إلى حين.
هذا الموقف أيضًا يختلف جذريًا عن موقف الولايات المتحدة منذ بداية الثورة السورية عام 2011، حيث طالبت طوال السنوات الماضية برحيل الأسد، وقالت إنه لا مكان له في حكم سورية بعد قتله لمئات الألوف من شعبه وتهجيره للملايين.
لكن تصريحات أميركية أخرى، عادت لتُبقي الموقف الأميركي، الرافض لبقاء الأسد، أكثر وضوحًا وثباتًا، نظريًا على الأقل، فقد أعلنت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، نيكي هيلي، في 17 أيلول/ سبتمبر أن أميركا ستشارك في التسوية في سورية ولن تسمح بأن تؤدي إيران دورًا رئيسيًا، وقالت في مؤتمر صحفي “ستكون أميركا شريكًا قويًا في حل الوضع بسورية، ونحن لن يهدأ لنا بال ما لم نرَ سورية قوية، وهذا يعني أن الأسد لن يكون في مكانه”، وأضافت أن “إيران لن تتحكم هناك أو تلعب دورًا رئيسيًا في الوضع”.
سارع مسؤولون أميركيون لتأكيد أن الأسد لن يحظى بثقة الإدارة الأميركية، وأنه خاسر أخلاقيًا، ولن يتراجع الأميركيون عن الدعوة إلى محاكمته، لكن لا تسعى الإدارة لإطاحته بسرعة بسبب خطط وأولويات تتعلق بمحاربة (داعش) وأشباهها، ودعم الأكراد، والحفاظ على أمن إسرائيل.
في السياق ذاته، قال ديفيد ساترفيلد القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى إن جميع الدول التي حضرت اجتماع نيويورك “اتفقت على وجوب وجود عملية سياسية، كي تكون هناك مشاركة دولية في إعادة بناء سورية”، وأضاف المسؤول الأميركي أن نظام الأسد وداعميه لا يمكنهم أن “يُعلنوا النصر بناءً فقط على خريطة المواقع على الأرض”، وتابع: “إن إعادة بناء سورية تعتمد بصورة كبيرة على هذه العملية السياسية الموثوقة”، وأشار إلى أن هذه العملية السياسية يجب أن “تتركز على جنيف ودور الأمم المتحدة”، ما يعني أن واشنطن ما زالت على موقفها الذي لا يعير أي أهمية لاجتماعات أستانا وما نتج عنها خلال ستّ جولات، وليست معنية بكل اتفاقيات “وقف التصعيد” التي فرضتها روسيا على فصائل من المعارضة السورية المسلحة في أربع مناطق في سورية، وأنها ما زالت ترى أن حل القضية السورية يبدأ بتطبيق بيان جنيف الأول لعام 2012 القاضي بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية، ومع فكرة أن لا يكون للأسد أي دور أو صلاحية حتى لو بقي في منصب الرئيس وفق ما يريد الروس.
كذلك هاجم الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام 130 من قادة ورؤساء الدول النظام الإيراني و”أنشطته المزعزعة لاستقرار المنطقة”، وقال إن “الحكومة الإيرانية حوّلت بلدًا غنيًا وذا تاريخ وثقافة عريقين إلى دولة مارقة مرهقة اقتصاديًا وتصدر بصورة أساسية العنف وسفك الدماء والفوضى”؛ وفي ما يخصّ الملف السوري، دعا إلى التوصل إلى حل سياسي يحترم إرادة الشعب السوري، وأكد أن واشنطن لا تسعى إلى تصعيد الحرب في سورية، واستنكر استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي، واصفًا ذلك بأنه كان “صادمًا”، وقال “إن استخدام بشار الأسد السلاح الكيماوي ضد شعبه، حتى الأطفال، كان صادمًا”، واصفًا الأسد بأنه “مجرم”، أي أن موقف الرئيس الأميركي لم يكن حاسمًا بشأن وضع حدّ نهائي للنظام السوري ورأسه.
ومعلوم أنه قبل ستّ سنوات من الآن، طالب الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، الأسد بالتنحي من منصبه، من دون أن تكون لديه استراتيجية أو أدوات داخل سورية لتحقيق هذا الهدف، ولم يسعَ طوال سنوات حكمه لتحقيقه، بل كان متراخيًا إلى الحدّ الذي صار الجميع معه يتهم الولايات المتحدة بأنها سلبية وغير مُكترثة بما يجري في سورية من مجازر وجرائم حرب يرتكبها النظام السوري.
قد تكون كلفة مغادرة الأسد بالنسبة إلى الإدارة الأميركية أكبر من كلفة بقائه، فأي حديث عن تنحيه أو عزله أو إطاحته، سيعني إعادة تسليح المعارضة بصورة فعّالة، ودخول سورية في حرب ثانية أكثر ضراوة وعنفًا، خاصة مع وجود روسيا وإيران وميليشياتها الطائفية في سورية تُحارب إلى جانب الأسد، وفي الغالب تحوّل سورية إلى دولة فاشلة بالمفهوم الأميركي. وربما بسبب هذه القناعات تُفكّر الإدارة الأميركية بالتعايش مع الأسد من دون التصالح معه، ووفقًا لشروط عسكرية يوافق عليها رغمًا عنه، على رأسها تفرغ قوات النظام لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وضمان أمن إسرائيل، وتحييد إيران تدريجيًا، وضمان حصة للأكراد كجائزة ترضية.
ثالثًا: بريطانيا ودول عربية أيضًا
في هذا السياق، وفي الموضوع نفسه، قال وزير الدفاع البريطاني، مايكل فالون، في 25 آب/ أغسطس الماضي إن بلاده لا ترى دورًا طويل الأمد للأسد في مستقبل سورية، واعتبر أن مستقبل سورية يجب أن يكون في يد السوريين أنفسهم، ولهذا تدعم بريطانيا مسار المفاوضات في جنيف، أي أنه قبل بفكرة بقاء الأسد ضمن شروط ضيّقة جدًا لا تُسعف الأسد للاحتفاء بتلك التصريحات.
إلى ذلك، قال وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، “من مصلحة الشعب السوري أن يرحل الأسد… لكن كنا نقول إنه يجب أن يذهب كشرط مسبق، الآن نقول إنه يجب أن يذهب لكن كجزء من عملية انتقال سياسي، وبإمكانه دائمًا المشاركة في انتخابات رئاسية ديمقراطية”، وهو ما يتوافق مع تصريحات فالون التي تُمسك العصا من المنتصف أيضًا.
لكن سرعان ما صدرت تصريحات أخرى مختلفة كليًا عن رأس الدبلوماسية البريطانية. ففي 18 أيلول/ سبتمبر، أكد الوزير جونسون أن بلاده “لن تدعم إعادة بناء سورية، حتى يكون هناك انتقال سياسي بعيدًا عن الأسد”، وأوضح أنّ الولايات المتحدة وفرنسا ودولًا أخرى تُشارك بريطانيا موقفها هذا، وأعلنت موقفها المناهض لـ “نظام بشار الأسد”.
ولفت جونسون إلى أن “السبيل الوحيد للمضي قدمًا هو تسيير العملية السياسية”، وأن على “الإيرانيين والروس ونظام الأسد أن يعرفوا أن العملية يجب أن تُبنى، كما ينص القرار 2254، والذي يعني أن لا وجود للأسد في سورية”.
وقبل ذلك، أبلغت السعودية المعارضة السورية أنه لا خيار أمامها إلا قبول الأسد في السلطة خلال المرحلة الانتقالية، وعليها أن تنحني للضغوط الروسية بهذا الشأن، ثم عادت لتؤكد أنها تؤيد المعارضة السورية وتدعو لتغيير النظام السياسي كمدخل لوقف الحرب.
ترافقت التصريحات السعودية هذه، مع تصريحات أخرى لمسؤولين في دول الجوار السوري، تصبّ بصورة أو بأخرى في المسار نفسه؛ حيث كشف وزير الدولة لشؤون الإعلام، الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية، محمد المومني، عن تطور في العلاقات مع النظام السوري، وحول العلاقة بين الأردن وسورية، قال في حديث للتلفزيون الأردني في 25 آب/ أغسطس الماضي إنها “بدأت تتخذ منحى إيجابيًا”، موضحًا أنه “سيكون هنالك استدامة في قادمات الأيام لهذا الزخم”.
فسّر البعض هذه التصريحات بأن الأردن يمتلك معلومات واضحة تؤكد بقاء الأسد، وهو الأمر الذي دفع الناطق باسم الحكومة للإعلان عن التفاؤل بمنحى إيجابي للعلاقة بين البلدين، بل وتنامي هذا المنحى وزخمه خلال المستقبل القريب.
Social Links: