المفهوم المقارن: ألمانيا، ايطاليا، وروسيا ــ فالح عبد الجبار،عالم اجتماع عراقي

المفهوم المقارن: ألمانيا، ايطاليا، وروسيا ــ فالح عبد الجبار،عالم اجتماع عراقي

 

 التوتاليتارية: الفصل ٥

الثلاثي المانيا، روسيا الستالينية، وإيطاليا هي العائلة الكلاسيكية للتوتاليتارية. غير ان التفحّص المقارن لهذه الحالات الثلاث من هذه العائلة يكشف انها تختلف من حيث النظام الذي كان سائدأ فيها قبل الحقبة التوتاليتارية، ومن حيث طبيعة مجتمعها المدني، ومن حيث الأيديولوجيا ومنابع النشوء. وتظهر المقارنة أن للحالات الثلاث سمات مشتركة أيضا.

السمات الاساسية المشتركة

في الحالات الثلاث كلّها المطروحة هنا، ثمة تعبئة جماهيرية شاملة، وحركة أيديولوجية ناشطة خلال واحدة من أعنف الأزمات التي عصفت باوروبا، ألا وهي الحرب العالمة الأولى كما تميّزت جميع هذه الحالات بوجود منظمة عالية الانضباط من النشطاء المتفانين، الباحثين عن ضرب ما من ضروب اليوتوبيا: الشعب- Das Vo;(ألمانيا)، الدولة (إيطاليا) او الثورة البروليتارية (روسيا).

أما صورة ء وطريقة، ووسيلة التعبئة الجماهيرية الي اعتمدتها هذه المنظمات فكانت جديدة، فعّالة، ومناسبة جدأ للمجتمع/الطبقة التي توجّهت إليها. لقد كان للمنظمات الثلاث مسحة عسكرية؛ إذ كان لها جناح مسلح، وقوة مسلحة بالدرجة الأولى (كانت اللجة العسكرية في روسيا قد نظّمت قبل العام 1917 بقيادة ليون تروتسكي؛ والحزب الفاشي الإيطالي كان، وفقآ لكلمات زعيمه، منظمة شبه عسكرية في خدمة الدولة؛ كما ان قوات هتلر الخاصة المعرونة ب SS كانت جزءأ من المنظمة النازية لكنها دمجت في القوات المسلحة بعد صعود هتلر، حول جمهورية فايمار في ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى).

وتشترك الحركات الثلاث في وعود مبشرة، كما أنها تبدي الاحتقار او الانتقاد التام للسياسة الليبيرالية، متابعة غاياتها بواسطة نشاطات مؤسساتية (شرعية) ومن خارج المؤسسات (لاشرعية)، ومن جملتها سياسة العنف القاعدي، والتمرّد، أو الانتفاضة المسلحة. وقبل استلامها السلطة، كانت هذه الحركات

تشارك مشاركة فعالة في السياسة المؤسساتية الليبرالية، مثل الانتخابات، والبرلمانات والنقاشات البرلمانية، وتعبئة الرأي العام عبر وسائل الإعلام الجماهيرية، وكانت تتمتع بدرجة عالية من الشعبية في أوقات الأزمات، غير أنها لم تتمنع أبدأ بأكثرية عددية (% 50+1) وحدهم البلاشفة ما قبل الستالينيين أبدوا احترامآ للانتخابات في روسيا، لكنهم كانوا يعتمدون على احتياز أغلبيات مطلقة في مجالس السوفييت (مجالس العمال والفلاحين) بدلآ من الانتخابات العامة. غير أن القواعد الانتخابية لهذه المجالس (مجالس السوفيات) لم تشكل قط اكثرية على المستوى الوطني؛ كما ان الأسطورة القائلة إن مجالس الفلاحين والعمال، والجنود تشكل “اكثرية الأمة” قد مزقت شر تمزيق عبر تفحص الاتتخابات العامة وانتخابات المجالس المحلية في 1917- 1921. فالأكثرية التي فاز فيها البلاشفة في “مجالس السوفيات” كانت محل شك نظرأ إلى انهم لم يتوصلوا قط الى الفوز باكثر من %20 من الأصوات على مستوى الأمة في الانتخابات العامة. اما الانتخابات الألمانية والإيطالية التي أدت الى فوز الحزبين النازي والفاشي، فقد كان لها السمات نفسها: فوز بأقل من اكثرية هزيلة، لكن تدمير كامل للالة الانتخابية بمجرد الوصرل إلى). ولإبقاء قبضتها على السلطة، علقت الحركات الثلاث عمدا المؤسسات التمثيلية المنتخبة، وعبرت عن نزوع نخبوي الى بسط وصايتها على مصائر الأمة.

في الحالات الثلاث، طوّر الحزب الجماهيري أدوات هيمنة للإقناع والإكراه انطلاقا من المستوى المحلي فصاعدا. وإذ تم الاستيلاء على السلطة، أنشئت آلية هجينة من الدولة والحزب اضفت عليها تماسكأ صوّانيآ. التعبئة الجماهيرية عبر (الدولة – الحزب) خليط صارم يعيش على الطاعة العمياء ويقضي على المخالفة، ويتجلى هذا في مبدأ المركزية. واذ احكم السيطرة على ولاء الأفراد المفتتين في المجتمع الجماهيري للقيادة

الكارزمية والوعد اليوتوبي بالتحرر أو العظمة القومية، راح (اللوياثان- وحش اسطوري) الجديد يجتاح مؤسات الدولة معيدأ هيكلتها في منظومة شديدة المركزية. فقد تحكم في السلطة التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، وجردها من طابعها القانوني محوّلآ إياها إلى امتدادات أو ملحقات للحزب. أما الجيش والشرطة السرية فقد أعيد تنظيمهما بصورة جزئية كما حصل في ألمانيا، أو أعيدت هيكلتهما كليأ كما في الجيش الأحمر الروسي. وما إن توطد أمر “لوياثان” او الوحش المتمثل ب (الدولة – الحزب) حتى أخذ يهاجم المجالات الاجتماعية المستقلة. فتم القضاء على تعددية الأحزاب؛ وألغيت الصحافة الحرة. ولم يترك اي سجال خاص خاح سيطرة الهيئة السياسية التوتاليتارية، أو لم يدمج فيها. فالروابط الاجتماعية كالنقابات، والاتحادات، أخضعت جميعها لإدارة الحزب؛ وفي الحالة الروسية أدمجت مؤسسة الملكية الخاصة، سواء أكانت في شكل مجالس أو مزاع جماعية صغيرة، في إطار الاقتصاد الموجّه الذي تديره الدولة او تمتلكه. وقد راح بيروقراطيو الدولة – الحزب يديرون مباشرة مجمّعات صناعية في حين أُكرهت الملكيات الريفية الصغيرة والكبيرة على التأميم: على صورة مزارع تعاونية أو مزارع دولة. وكان من شأن حضور ماكينة الحزب على كل مستوى من مستويات التنظيم

الاجتماعي الرسمي وغير الرسمي تحييد أو تقويض استقلالية المجال الاجتماعي. وتسللت هيمنة الدولة – الحزب أيضأ إلى مجال الإعلام بحيث سيطرت على وسائل الإعلام وعلى لغة الاتصال نفسها.

وفيما شقّت ماكينات الحزب والدولة العملاقة طريقها عبر المجتمع، راحت المجالات الخاصة تتضاءل تدريجأ حتى انحدرت إلى مجرّد الأفكار والمشاعر الفردية في حدها الأدنى. ولم يعد في وسع المجتمع ان يبدي أي مقاومة إلا بمقدار ما كان يمتلك طريقة مؤسساتية لعمل مراكز السلطة التعددية، ولمجتمع مدني قوي شرط أن يكون هذا مستعدأ أو قادرأ على الاحتفاظ بهذه الاستقلاليته بدلأ من السقوط أمام الخوف، و\ أو التضحية باستقلاليته من أجل مثال اعلى رومنطيقي للعظمة القومية (المانيا فوق الجميع) او تفادي الغليان الثوري. وقد احتفظت الدولة في جميع هذه الحالات ب “حق” تحديد من هو عدو الدولة (دولة الشعب Volkstaat، او الدولة الاشتراكية، او الدولة بكل بساطة). والتعبير الأفضل عن هذا الموقف هو قول موسوليني “كل شيء داخل الدولة، لا شيء خاح الدولة، ولا شيء ضد الدولة”.

وحيثما كانت الأيديولوجيا عنصرية استهدفت الأعراق غير النقية، كالساميين، جماعيأ. وحيثما كانت الأيديولوجيا الجماعية هي السائدة كانت كل الجماعات المناوئة ل”المجتمع الجديد” مستهدفة. وفي الحالات كلّها، المعارضون السياسيون؛ والمنشقون عن الحزب، او القادة المترددون كانت تتم تصفيتهم. من ذلك ان الملايين هلكوا في روسيا السوفياتية خلال عملية التحوّل الاشتراكي في ظلّ (ستالين)، أي “عملية تراكم بدائي” رديئة. غير أن الإكراه ليس إلا وجهأ واحدأ، فالنظامان في المانيا وإيطاليا كانا

يتمتعان بدعم حقيقي من طبقات رجال الأعمال، والطبقات الوسطى، والطبقات الدنيا والمهمشة؛ وكان البلاشغة يتمتعون بتأييد في صفوف عمّال المدن، وفقراء الفلاحين، والمثقفين المستلبين. وفي نظر المؤرخ الماركسي، (إريك هوبزباوم)، فإن كلا من ألمانيا النازية، وايطاليا الفاشية، وروسيا الستالينية قد حققت أرقامآ قياسية مذهلة في إعادة التأهيل الاقتصادي، والعمالة، وحتى شيئآ من الازدهار، خلال فترة الأزمة الاقتصادية الكبرى. وقد اجتذبت تكتيكاتهم العنيفة رعاع المدن واشباههم. والوحشية التي قضي فيها على المعارضة تشهد على وجود مقاومة كان من شانها أن تخفف، في إيطاليا مثلأ، من طبيعة التوتاليتارية٠

الاختلافات

بالرغم من اوجه التشابه القائمة، فإن الحركات والأنظمة الإيطالية، والألمانية، والروسبة كانت تختلف الواحدة عن الأخرى اختلافات واسعة. فالتوجه الجماعي الروسي كان يستهدف إقامة مجتمع لاطبقي، ومجتمع اممي بلا دولة، مرتكز على الملكية الجماعية والإدارة التعاونية للأصول الإنتاجية. اما الفاشيون والنازيون فكانو ميالين إلى دولة قوية، موخدة إمبراطورية تسيطر سيطرة محكمة على المجتمع، وترتكز على أسواق منظمة وخاضعة للسيطرة، واقتصاد تعاوني وخاص. والنمونجان الألماني والإيطالي ينتميان الى الفئة (الدولة – القومية)؛ اما روسيا الستالينية فكانت تنتمي إلى الفئة (الجماعية –التنموية).

ولعلّ هذا الفرق الكبير يفسّر السبب في انهيار نموذجيّ التوتاليتارية الفاشي والنازي تحت وقع مغامراتهما العسكرية. اما النموذج الستاليني، فقد تداعى جراء إخفاقه في تحقيق الوعد الكبير بالتحرر من عالم الحاجة.

ومن الاختلافات الأخرى الاختلاف الأيديولوجي. فقد شاركت النظرية الماركسية فكر التنوير الليبيرالي العقلاني في الحاجة إلى توسيع المساواة السياسية والتخلص من التراتبيات الاجتماعية الإقطاعية. لكن الخطاب الماركسي حاول تقديم مقاربة كاملة للتحرر الليبرالي، أي توسيع المساواة إلى ما وراء المجال السياسي لتطال المجال الاقتصادي ايضا. فالإطار الراسمالي يُعتبر، من وجهة النظر الماركسية، قيدأ يلجم الحرية الكاملة. لأن سلطة الثروه تقيّد، وفقأ لهذه النظرة، الحريات السياسية وتحدد

علاقات السلطة السياسية. فالنزعة التحررية الماركسية الجذرية تقف على النقيض التام من الداروينية الاجتماعية، اي التراتبيات العنصرية التي اعتمدتها النازية والفاشية. ولعل ذلك قد شكّل أساسأ كافيأ

للتحالف الغربي الروسي ضد ألمانيا النازية، على الرغم من العوامل الجيوسياسية المتعلقة بالحرب العالمية الثانية. ومن الجائز أيضأ ان ما جمع النازية والستاليئية، وفرّق بينهما، إنما هو كراهية كل منهما للاخر ورفضه له.

اخيرأ، كانت المانيا هي الأكثر تقنمآ من حيث الصناعة والتكنولوجيا، والتمدن والثقافة؛ بينما كانت رومسيا تكافح من أجل التصنيع واللحاق بالركب الصناعي. اما إيطاليا فكانت في منزلة متوسطة. وقد كان من شأن هذه الاختلافات ان تحدد المسارات المختلفة لكلّ من هذه الأنظمة.

نجاح ظرفي

كان نجاح التوتايتارية مشروطا؛ وقد جاء دائمأ في فترة تأزم. ففي الحالة اليسارية الجماعية (الروسية)، تسببت الحرب العالمية الأولى بازمات متعددة. كانت روسيا تعيش آخر انماط حكم الفرد المستبد في اوروبا؛ وكانت امة حديثة العهد بالتصنيع؛ وتتسم بهيكليات إقطاعية زراعية في حال غليان، كما كانت تزخر بالحركات الشعبوية الاشتراكية القوية، غير ان قواها الليبرالية كانت ضعيفة. والواقع ان فترة شباط – تشرين الأول 1917 شهدت ثلاثة تغيّرات جذرية متزامنة ومتلاقية بصورة فريدة: ثورة ليبرالية لإنهاء حكم الفرد (شباط 1917)، تمرد فلاحي مسلّح للاستيلاء على الأراضي (صيف 1917)، وثورة شعبوية للطبقة العاملة على الليبراليين القوميين مشعلي الحروب (تشرين الأول 1917) فالهزيمة والتعب من الحرب، والتفكك الاقتصادي الناجم عن الحرب، فتتت شرعية الحكم القيصري الفردي ووريثه الليبرالي. كما أن الآراء المناوئة للحرب أضعفت الثقة بحكومة الكاديت (اللييراليون الدستوريون) المياّلة إلى روح القومية السلافية الجامعة.

أما في ألمانيا وايطاليا فقد كانت الروح القومية عاملا أكبر. فغي كلا البلدين كانت مصداقية الدولة الليبيرالية نفسها محل شك؛ لأنه كان ينظر إليها باعتبارها ترتكب فعل خيانة قومية. وكان لإذلال إيطاليا في “مؤتمر فرساي” للسلام المفعول نفسه. وكانت الكوارث الاقتصادية تفعل فعلها أيضأ. فالتعويضات عن الحرب والأزمة الاقتصادية الكبرى أجهزت نهائيأ على جمهورية فايمار التي انهت الحكم الملكي في العام 1918. ولقد كانت كلفة الحرب هائلة على قدر ما كان التفكك الاجتماعي هائلا.

  • Social Links:

Leave a Reply