
أحمد نظير الأتاسي
أسلمة الفضاء القيمي – عوامل القرار
إن هذا الدفع للتدين الشعبي الذي ساد في الأشهر الأولى باتجاه التدين السياسي والجهادي هو سمة من سمات ما نسميه بأسلمة الثورة السورية. التدين الشعبي لا يستطيع صياغة مطالب سياسية لكن التدين السياسي والتدين الجهادي قادران على صياغة مثل هذه المطالب. ونخص المطالب هنا لأنها مؤشرات على تغير في المنظومة القيمية السائدة. الصياغات الأولى كانت علمانية (أي لا تتطرق لمطالب دينية) مثل إسقاط النظام وإطلاق المعتقلين ووقف القتل ومحاسبة القتلة وإنهاء الفساد وإقامة دولة جديدة. أما الصياغات اللاحقة فكانت مأسلمة مثل “هي لله لا للسلطة ولا للجاه” (مع أن السلطة مطلب أساسي لكل ثورة سياسية)، نصرة الدين، إقامة الدولة الإسلامية، إدخال المرجعية الإسلامية إلى الدستور، هزيمة الروافض والمجوس، إيقاف التشيع، نصرة أهل السنة المظلومين، محاربة البيت الأبيض، تمكين أهل السنة، إقامة حكم الله. هذه المطالب المأسلمة كان لها في البداية مقابل علماني (قومي أو ليبرالي)، لكنه مقابل في الدور وليس في المعنى. مثلاً يقابل الدستور العلماني إما دستور بمرجعية إسلامية أو دستور إسلامي أي القرآن؛ يقابل القانون العلماني الشريعة الإسلامية؛ ويقابل سيادة الشعب حكم الله؛ ويقابل الديمقراطية حكم الأغلبية السنية أو مشاورة أهل العلم؛ ويقابل انتخاب رئيس الجمهورية بيعة الأمير أو الخليفة؛ ويقابل الهوية الوطنية الهوية السنية. كان الانتقال من المطالب العلمانية إلى المطالب المأسلمة تدريجياً ومبطناً ومبعثراً في الخطاب والشعارات، بينما ظهرت المطالب العلمانية بشكل صريح ومتبلور في منشورات وبيانات ولافتات كبيرة. لم تتخط المطالب المأسلمة حدود الشعارات ورايات الكتائب وبعض الخطب المصوّرة. ولم تظهر صياغات مكتوبة وعلنية لهذه المطالب المأسلمة إلا بعد سنتين أو أكثر من بداية الثورة.
هناك أنماط أدبية تعود إلى الظهور في الأزمات، ومنها نمط وصية الشهيد. عندما تظهر في جريدة أو في بوست فيسبوك أو في رسالة إيميل يتبادلها الناس، ونقرأها على أنها حقيقية ونتفاعل معها بقدر ما تثير فينا من قيم نتمسك بها ونعتبرها جزءاً من ثقافتنا. في الحقيقة، إذا لم تكن معبّرة عن قيم نحملها فلن تثير المشاعر حتى ولو كانت الرسالة حقيقية، وسننساها أو نتجاهلها. إنها حقيقية بقدر ما هي معبّرة. القيم التي تعرضها مثل هذه الرسائل جديرة بالتحليل، وهي منتشرة ومؤثرة بقدر ما تنتشر الرسالة ويزداد عدد قرائها. هذا النمط الأدبي منتشر بين السوريين سواء في طرف المعارضين أو في طرف الموالين. بحث بسيط على غوغل (مفتاح: وصية شهيد سوري، وصية مجاهد سوري) سيوضّح ما نزعمه. هناك مشتركات وفروقات بين ما ينتشر عند هؤلاء وما ينتشر عند أولئك. لكن تشترك هذه الوصايا بأنها من شهيد إلى أمه أو زوجته أو أخته غالباً (مخاطَب نسائي)، وبأنها لا تتحدث عن خصوصيات إلا بقدر ما هي رموز لعموميات؛ وأحياناً تترك الخصوصيات جانباً لتتوسع في العموميات. هذه العموميات هي القيم والمبادئ التي يتمسك بها الكاتب وقرّاءه المتخيّلون.
الوصية التي سنحللها موجهة من “شهيد إلى زوجته”،[3] أو بالأصح من رجل سيستشهد إلى زوجته؛ استشهاده المستقبلي يغلب على تاريخه الماضي فيصبح الشهيد الحي الذي يكتب وهو متيقن من أنه سيصبح شهيداً في مستقبل قريب. الرسالة-الوصية تسرد تاريخ الكاتب مع زوجته عندما كانا طالبين في إحدى الجامعات السورية وكيف كانت زوجته تتعرض للإهانة من قبل الأساتذة المحسوبين على النظام لمجرد أنها محجبة، وكيف كانت المخابرات تضايقها لأنها تقرأ تدرس تفسير القرآن، وكيف كانت نار الغضب تحرقه وهو يرى عِرضه المستقبلي يهان أمام عينيه. ثم جاء ابنه الذي سماه حمزة وتوسم في مجيئه الخير، وبعده جاءت الثورة كالوليد بعد المخاض، وحان وقت الأخذ بثأر هذا الشرف المهان. الرسالة مليئة بالرموز الثقافية-الدينية التي تعبّر عن مظلومية مرتبطة بإهانة الدين أو إهانة الشرف بسبب التمسك بالدين. ومع تكرار هذه الإهانات يتحوّل الرجل الضعيف الخائف الجبان إلى مشروع شهيد شجاع لا يخاف. بعبارة أخرى إهانة الدين وإهانة الشرف المتكررة، وكلاهما واحد، تؤدي إلى مخاض طويل وعسير وولادة لثلاثية هي “الابن حمزة الأمل — الثورة واستجابة الإله للدعاء — ورجولة الأب التي حققها في خروجه واستشهاده.” وهي لا تختلف عن كثير من الثلاثيات الرمزية التي نعرفها من التاريخ والأديان القديمة: الولادة-النضج-الموت بالتضحية؛ الآب- والروح الرسول بينهما- والابن الأضحية؛ الربيع-والصيف-والخريف في انتظار ربيع جديد. المفاهيم والقيم المرتبطة بها في الرسالة خليط بين التقاليد والدين، أو صياغة لقيم تقليدية بطريقة إسلامية.
المرأة-الزوجة هي “لباس يستر عورتي (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)”؛ وهي إحدى “المحجبات الجديات اللاتي يأتين إلى الجامعة ليتعلمن، ولا يأتين للهو وعبث”، إنها “الأنوثة الرقيقة العفيفة” التي تتردد “مع بعض الأخوات المؤمنات الفاضلات… على مربية جليلة”، هذه المربية الدينية كانت السبب في “صياغة شخصيتك بأنبل وأطهر وأكمل ما يمكن”؛ وهي أيضاً الضحية التي تدخل وحيدة إلى فرع المخابرات ليسألها المحقق “عن كتاب مختصر ابن كثير في التفسير الذي تقرؤونه على المربية”، لتقول له ببراءة الفطرة الدينية والعفة الرقيقة نعم إنه كتاب في تفسير القرآن ولتكتشف ” أن ابن كثير نفسه صار من المطلوبين، هو وابن القيم وابن رجب الحنبلي ،باعتبارهم من تلامذة الإرهابي الكبير والخطير ابن تيمية “؛ إنها الأم التي تعاني مخاض الولادة لتلد طفلاً اسمه الحرية ينعم “بالكرامة والطهارة” التي ضحى الأب من أجلهما بحياته؛ إنها شريكته الدنيوية التي “لا بأس أن تفكر بزواج آخر” بعد موته لكنها ستكون شريكته الأخروية الأبدية “وحوريته الأولى في الجنة”، وهناك ستكون “أحلى من الحور، لن تغار غيرتها اللذيذة” كما كانت تفعل في الدنيا. باختصار الزوجة هي شرف الرجل وعِرضه، معرّفة بأنوثتها العفيفة وطهارتها وحجابها ومربيتها القبيسية، ثم هي الضحية التي يتكالب عليها أعوان النظام الشبقون ليثور لها الرجل مدفوعاً بحميته على عرضه، وفي النهاية هي حورية الرجل الأولى في الجنة وثوابها بأنها لن تغار على زوجها. طهارة المرأة، هذا المفهوم التقليدي، يتحول إلى مفهوم إسلامي مرتبط بالحجاب الذي يتعدى عليه النظام ويهزأ به. وخروج المرأة من بيتها للدراسة، هذا الهم الحداثي الذي أصبح مقبولاً، يعرّضها إلى مخاطر نظرات الرجال؛ لكن مقابل هذه الخروج الخطِر لتعلّم العلوم الدنيوية تذهب بصحبة مؤمنات (وليس رجال) إلى المربية القبيسية لتتعلم مختصر تفسير ابن كثير (وليس التفسير كله لأنه كبير)، أي لتتعلم دينها. وهي ضحية في الحالتين فذهابها إلى الجامعة يعرّضها لرجال النظام المتحرشين، وذهابها إلى المربية يعرّضها لفرع المخابرات، كما يعرضها ركوبها الباص لخطر جنون ضابط المخابرات الأرعن.
الرجل-الزوج فهو ضعيف ورقيق وليس “بطلاً من طراز حمزة بن عبد المطلب ولكن أقرب إلى حسان بن ثابت (دون المنكرات التي قالها)”؛ وهو الخاضع لجبروت النظام الذي يطلب منه أن يقول “منحبك” وهي الكلمة التي لا يمكن أن يقولها لغير زوجته؛ هو الجبان الذي يذهب بصحبة خطيبته إلى فرع المخابرات ليسألوها عن الدروس الدينية التي تحضرها بينما هو يقف خائفاً في الخارج يدعو ربه؛ وهو الحانق الغاضب الذي يشعر بأن “عيونهم وألسنتهم تنتهك عرضي فيك” ليتحول بعدها إلى ثائر لأن زوجته لن تفخر به زوجاً “وقد مُس عرضه وعرض عماته وخالاته ، وبنات بلده ،ولم يرفع صوته جهيراً يملأ سمع أهل الأرض”؛ ثم يصبح بطلاً يخرج مع من خرجوا “لأنك عندي غالية ، يجب ألا تُمسي بسوء، وألا يتثاقل عليك الوقحون، وألا يعسروا طريق نجاحك، وألا يساوموك على عفافك، وألا يأخذوك إلى فرع الإذلال والنكال والخسة كما أخذوا غيرك”، خرج وضحّى بحياته ليطهّر “البلاد من هذا الوباء، ويمهد للجيل القادم بيئة العزة والكرامة والطهر” . الزوج الجبان يصبح جباناً على طريقة التراث الإسلامي فهو لا يعرف إلا الكلمات مثل شاعر الرسول حسان بن ثابت. ثم يأتي النظام لينتقص من رجولته لأنه ترك خطيبته تدخل الفرع وحدها بسبب حضورها لدروس دينية. ثم يتحول إلى بطل يضحي بنفسه من أجل عرضه وشرفه المرتبط بالمرأة وبحضورها للدروس الدينية. من سمات العصر أن الزوجة تخرج من بيتها، وهذا لم يكن ممكناً منذ مائة عام، ففي ذلك الزمن الخروج وحده كان سيكون عاراً، أما اليوم ومع قبول هذا الخروج لتعلم الدين فإنه يصبح حقاً تعيقه السلطة الجائرة.
أما العدو فهو مجموعة من الرجال في مواقف سلطوية جنسية مختلفة. إنهم طلاب الجامعة من أعوان النظام الذين “يريدون أن تبذلن أنوثتكن لعيونهم الجائعة”؛ وأستاذ الجامعة العضو العامل في الحزب الذي “يسخر من المحجبات” ويقول “الشريفة لا تتخفى خلف قطعة قماش”؛ وهو الأستاذ “الذي كان يمشي في أروقة الكلية يتفاخر بالصبايا اللواتي يحومون حوله، ومثلك ممن لا يروي رغباته المريضة كان نصيبهن التعسير في الامتحان والتقييم”؛ وضابط المخابرات التي يضرب سائق الباص ويهدد حبيبة الكاتب بأن يأخذها إلى فرع المخابرات كما “فعلوها في الستينات والسبعينات وخصوصا الثمانينات”؛ إنه المعسكر الجامعي التدريبي حيث “السهرات الماجنة التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وتذوب الكرامة فيها حياءً أمام سقوط كل حدود الاحترام والآداب والحرمات”؛ وكل هذا قد يكون مؤامرة “خطِط لها بمهارة شيطانية، هم يريدون مجتمعاً الدعارة فيه مقبولة على أنها انطلاق وحرية”؛ إنه الجامعة التي “تربي الفتيات على العنتريات التحررية، والخروج عن الدين والتقاليد والصراع مع الرجل لأنه رمز المجتمعات الذكورية”؛ وهو كذلك الفرع الذي تذهب إليه حبيبته وحيدة لأنها حضرت دروس الدين عند مربية طاهرة. إنهم كل رجال النظام الذين “لا يعرفون معنى للشرف، ولا قيمة للطهر”، ويحقدون على العفيفات لأنها “عقيدة حزبهم” وينتهكون عرضهن ومعهن حبيبة الكاتب “بعيونهم وألسنتهم”. العدو باختصار رجال النظام الذين يهينون شرف النساء العفيفات ويفعلون الموبقات ويريدون أن تكون “بلدنا حانة كبيرة ونساؤنا بغايا لهم”.
أما الثورة فهي استجابة لدعاء الكاتب أمام فرع المخابرات الذي كانت تدخله حبيبته وحيدة “اللهم احفظ وسلم”، الدعاء الذي شكك بعضهم باستجابة الله له “ولكن ..من قال إن الدعاء لا يكفي!! هذه الملايين التي خرجت اليوم لتقول ” لا ” هي استجابة رب العزة لدعائنا، ولدعاء مئات الآلاف من المظلومين منذ أكثر من أربعين عاماً، لكن الاستجابة حصلت عندما نفذ المؤمنون” سنة الله في التغيير، اذ أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فيصبح المحتجون على الظلم بقوة قدر الله في التغيير”. هذه الثورة مثل ابنه الصغير الذي أرادت أمه أن تسميه محمد “ومَن أقرب إلى القلوب من محمد”، لكن الكاتب سماه حمزة “ليكون له نفرة حمزة رضي الله عنه العزيزة يوم خرج والفاروق مع المسلمين إلى الحرم في بداية العهد المكي، مما يعتبر أول مظاهرة احتجاج على الظلم”، هذه هي المظاهرة الحقيقية وليس “كما يقول بعض المتفذلكين من أن التظاهر وسيلة مدنية علمانية”. الثورة ليست وسيلة علمانية، بل هي إرادة الله وقدره واستجابته لدعاء المؤمنين الذي أعدوا العدة كما أوصاهم الإله، إنها استمرار لتراث إسلامي قديم ابتدأ بنفرة حمزة بن عبد المطلب، صاحِب أول مظاهرة احتجاج على الظلم.
هذه الوصية في عام 2011، والتي صاغت الثورة بصياغة إسلامية تراثية محورها العرض والشرف، حلت محلها وصية أكثر مباشرة عام 2014 تقدّم صياغة إسلاموية موجزة بشعارات سياسية دينية سياسية محورها تحكيم شرع الله والشهادة. في هذه الوصية يبدأ الكاتب بوصايا دنيوية وينتهي فجأة بقوله “والله ما خرجنا إلا لنصرة دين الإسلام وإعلان كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله وتحكيم شرع الله على الأرض، نسأل الله أن يقبلنا من الشهداء والله على ما نقول شهيد”[4].
ويمكن أن نرى مثل هذه التحولات في الخطاب والقيم والنظرة إلى العالم بين بداية الثورة عام 2011 وبين أعوامها اللاحقة في فيديوهات العمليات العسكرية والاستشهادية، والأناشيد، ووصايا الاستشهاديين المصوّرة، وفيديوهات تشهّدات الجرحى على حافة الموت، والمرثيات والخطب الحماسية والرسائل الموجهة إلى إخوة المنهج وغيرها من الأدبيات المقروءة والمسموعة والمرئية.
إن إحدى أهم المفاهيم القيمية التي تحولت مع أسلمة الثورة هي مفهوم الهوية. تحدّد الهوية المجموعة الاجتماعية بأن ترسم صورة أعضاء المجموعة “نحن” وصورة من هم خارجها ولا ينتمون إليها “هم”. هذه الصورة ليست فقط وصفية بل أيضاً قيمية. الهوية السنية التي نهتم بها ليست فقط وصفاً للمعارف التي يجب أن يحملها حامل الهوية، أي السني، بل هي أيضاً قيم تلوّن هذا الوصف بالتضاد مع هوية الآخرين، خاصةً الأعداء. كما ذكرنا سابقاً فإن الهوية السنية ليس نابعة من التدين الشعبي بل من التدين الملتزم والسياسي والجهادي. ومع تحوّل التدين الشعبي خلال عدة سنوات من الحرب نحو التدين الملتزم والسياسي وخاصة الجهادي أًصبحت الهوية السنية تعريفاً وقيمة يحملهما العديد من السوريين المسلمين السنة. حكم الأسد الأب قام على تحالف واسع بين حزب البعث وشرائح متعددة تعرّف نفسها كأقليات طائفية أو دينية أو كطبقات دنيا ريفية. إحدى هذه الشرائح رأت نفسها علوية، وأخريات رأت نفسها فلاحية ريفية مهمشة سواءً كانت علوية أو سنية. قد يكون الأسد ومخابراته طائفيين، لكن التحالف الذي قامت عليه الدولة وحتى النظام لم يكن طائفياً. أما نظام بشار الأسد فقد كان تحالفاً بين شرائح أضيق اكتسبت هويات محوّلة عن بعض الهويات القديمة. الهوية العلوية الريفية انقسمت إلى علوية نخبة النظام المدينية والشبيهة بالقومية (العلوية السياسية التي قال بها صادق العظم)، وعلوية عناصر المخابرات الريفية أو الساكنة في العشوائيات لكن لا تزال تربطها بأريافها الأصلية علاقة وثيقة عشائرية وثقافية واقتصادية. بالطبع، قد يكون هناك علويون لا يرون أنفسهم لامع هؤلاء ولا مع أولئك. والحليف الآخر حمل هوية علمانية يسارية متعالية بغض النظر عن أصوله، والتي قد تكون أقلوية طائفية عند البعض. والحليف الثالث حمل هوية سنية مدينية سمح لها النظام من خلال استثمار رؤوس أموالها في البلد بممارسة ثقافتها السنية المحافظة. الأهم هو أن تحالف النظام كان في مجمله يحمل هويات طائفية علوية ومسيحية وسنية. وتحت حكم بشار الأسد قوي نفوذ كثير من رجال الدين من مختلف الطوائف، واستخدمهم النظام كوسطاء بين طوائفهم (التي أصبحوا يمثلونها) وبين مركز السلطة المتمثل بالقوى الأمنية والنخبة الاقتصادية الناتجة عن إجراءات الخصخصة ورفع الدعم. ومع توسع المدن الكبرى مع ما حولها من عشوائيات وضواحٍ، وتوسع المدن الصغرى لتصبح مليونية بعد أن كانت ريفية قبل عشرين سنة، أصبحت غالبية السكان في سوريا تعيش في مدن. رافق هذا التحوّل انتشار لأنماط التدين المدينية فيما سبق أن كان أريافاً، وانتشار شبكات المشايخ ورجال الدين المتمركزين في المدن. تحمل هذه الشبكات كما ذكرنا التدين الملتزم والسياسي، وبعضها التدين الجهادي. ولا نهمل هنا الدور الكبير الذي لعبه الاغتراب في دول الخليج لحوالي ميلوني سوري قبل الثورة؛ هؤلاء أصبحوا طبقات وسطى مهنية بغض النظر عن أصولهم وخرجوا عن الإطار التقليدي لدولة الإعانات (أي الوظيفة الحكومية) وتشربوا الأفكار الإسلامية الملتزمة والجهادية والسلفية المنتشرة في الخليج؛ هذه الأفكار هي عبارة عن إسلام معولم يمكن حتى أن نميزه كنمط قائم بذاته من التدين الإسلامي السني. باختصار، في مواجهة تحالف النظام الطائفي، كان هناك انتشار واسع لشبكات تحمل أنماطاً جديدة من التدين، المديني الملتزم أو السلفي المغترب أو الجهادي العالمي.
عندما قامت الثورة شارك الناس تحت مظلة هوية المضطهَدين لأنها المظلة الوحيدة التي يمكن أن تجمعهم على اختلاف مناطقهم وهوياتهم المحلية. لكن القمع ضرب المحليات وشتتها وضرب الأحياء الفقيرة في المدن وحاصرها ودمرها. الثورة الشعبية السلمية انتهت عندما اختار النظام كحل لأزمته أضخم عملية تهجير في تاريخ المنطقة، ستة ملايين إنسان مهاجرين داخل سوريا وأربعة ملايين إنسان لاجئين في جميع أنحاء العالم. تزعزعت كل أنواع الهويات في سوريا، وظهرت هوية جديدة للمضطهَدين المهجرين واللاجئين، إنها هوية بالتضاد مع الهوية التي اختار النظام أن يظهر بها أمام مواطنيه ونعني الهوية الطائفية العلوية (نتحدث عن الصور والخطاب وليس بالضرورة عن الأشخاص). هوية التضاد هذه، أي السنية، شجعها المال الخليجي والتركي الذي اختار “دعم الثورة” بعد أشهر من بدئها، وفي الحقيقة بعد هزيمة الثورة السلمية الشعبية. الأنظمة الحاكمة في الخليج طائفية سنية سلفية بامتياز، والحزب الحاكم في تركيا إسلامي بامتياز. وهؤلاء دعموا المشابهين لهم من السوريين في مغامرة بناء إمبراطورية فشلت بعد عدة سنوات من الحرب الطاحنة. هذا بالإضافة إلى الجهاديين الذي تموّلهم شبكات عالمية (كثير من أعضائها أغنياء من الخليج) تؤكد على هوية سنية إقصائية عنيفة هي الجهادية السلفية العالمية. وكما أراد النظام وأراد داعمو المعارضة المسلحة، تحوّلت الحرب في سوريا إلى حرب أهلية طائفية.
هذه الهوية السنية التي بدأت تحت النظام الطائفي وتقوّت أثناء الحرب الطائفية تحمل (مثل الهوية الطائفية المقابلة) كماً لا يستهان به من القيم التي تؤثر في تصوّر الناس للتصرفات الممكنة والمحتملة والمتوقعة والمقبولة ولنتائج هذه التصرفات (أنظر حساب القيمة). نذكر من هذه القيم:
المظلومية: ليست المظلومية بالضرورة قيمة تحملها كل ضحية. الضحية تحسّ بالظلم عند وقوع الاعتداء لكن المظلومية إحساس دائم بالظلم لا يرتبط باعتداء معين وإنما بانتماء إلى فئة معينة. السني المظلوم قد يكون ضحية، لكن المظلومية السنية تجعل من كل سني ضحية سواءً تعرض لاعتداء أو لم يتعرض، إذ أن أي اعتداء على أي سني يصبح اعتداءً على كل سني. هذه المظلومية السنية لا تختلف عن مقابلاتها في تحالف النظام أي المظلومية العلوية والمظلومية المسيحية والمظلومية الشيعية. المظلومية فكرة نمطية عن الذات والآخرين، الذات فيها دائماً ضحية والآخر دائماً ظالم والعلاقة بينهما دائماً علاقة ظلم، وهذا ينطبق على كل أفراد الطائفة المظلومة وكل أفراج الطائفة الظالمة. إن المظلومية لا يمكن أن تنتِج إلا العنف لأنها تقتصر على دورين وحيدين، إما دور الضحية وإما دور الظالم.
التكفير والطهرانية: يمكن أن يكون الطرف الآخر مجرد معتد، وقد يكون نداً. قد نحتقره بسبب أذية ألحقها بنا لكننا لا ننفي عنه بالضرورة صفة الإنسانية. وما دمنا نعتبره إنساناً فمن الممكن تحصيل الحق منه عن طريق القانون. لكن التكفير، كما هي الخيانة والتخلف في قاموس النظام، تجرد الآخر من إنسانيته وتجعل قتله إمكانية وأحياناً ضرورة من أجل الحفاظ على طهارة عالمنا. ولا نقول أن التكفير والطهرانية من سمات السنية بشكل عام، حتى وإن احتوى التاريخ الإسلامي على أمثلة كثيرة على التكفير. في الحقيقة التكفير نشأ قديماً تحت دولة إمبراطورية استخدمته لمحاربة أعدائها من المتمردين والمنافسين على السلطة والإمبراطوريات المجاورة. وبقي التكفير أداة تستخدمها الدولة. وهي وإن استخدمها الرعاع فإنهم استخدموها دائماً في ظل دولة تسمح بها. لكن التكفير الذي تمارسه الجهادية العالمية خارج تماماً عن أية سلطة ويقوم به أفراد وجماعات مستقلة، وهذا ما يجعل هذا التكفير سلاحاً فتاكاً يقضي حتى على الذين يستخدمونه لأنه سلاح مطواع بأيدي أعدائهم كما هو مطواع بأيديهم. والجهاد مرتبط بالتكفير، وكما كان التكفير حكراً على الدولة كان الجهاد أيضاً حكراً عليها، وكما أصبح التكفير أداة بيد أفراد، أصبح الجهاد أداةً فرديةً يعلنه من يشاء وعلى توتير ودون كبير عناء. وكلاهما، التكفير والجهاد، أثرا على مؤسسة إسلامية قديمة هي مؤسسة الفتوى وجعلاها مبتذلة في أيدي أفراد يزعمون الأهلية.
الخطر الثقافي والديني: منذ السبعينات استخدمت الطليعة المقاتلة الإخوانية أداة التكفير لتجييش الناس من أجل محاربة حاكم ظالم. لكن هذه الجماعة لم تستخدم هذا المصطلح السياسي وإنما استخدمت مصطلحاً طائفياً “حاكم علوي”، وزعمت أن وجوده كعلوي في سدة الحكم غير شرعي بغض النظر عن ظلمه. كما زعمت بأنه يقود حملة ثقافية دينية تهدف إلى تشييع البلاد السنية، أي التي هم أصحابها على حد زعمهم. هذا الخطر الثقافي الديني الداهم، لا يقتصر على الطليعة والإخوان بل يشمل الأنظمة الحاكمة في الخليج، التي تحارب معارضيها الذين ينتمي كثيرون منهم إلى الأقلية (أو الأكثرية في حالة البحرين) الشيعية. وزاد في الطين بلة أن هذه الأنظمة قضت على معارضاتها الأخرى العلمانية مثل القومية العربية واليسارية وتفرغت لمعارضيها الشيعة الذين كان كثير منهم يحمل أيديولوجيات أخرى، مما دفعهم لحمل لواء المظلومية الشيعية. هذه المظلومية أساسية في التدين الشيعي، وأكثر أهمية في التدين السياسي الإيراني الذي تولى الحكم بعد الثورة الإيرانية في 1979. هذه الحكم الطائفي بامتياز (يشبه كثيراً الأفكار الإخوانية) شجع الأقليات المعارِضة في الخليج على حمل لواء المظلومية الدينية. واليوم يتدخل النظام الإيراني الطائفي في العراق واليمن وسوريا والبحرين مما يعزز الرواية الإخوانية والرواية الخليجية عن حملة التشيع. الحقيقة أن هذه الحملة موجودة في عقول النظام الإيراني وعقول الطليعة الإخوانية وعقول أنظمة الخليج فقط. ليس هناك أي دليل ملموس على نجاح، أو وجود، مثل هذا المشروع في سوريا. نعم هناك وجود إيراني، لكن ليس هناك خطر تشيع وتغيير سكاني أدى إلى الثورة السورية ويحاول الجهاديون إزالته لأنه خطر وجودي على الهوية السنية.
هذه القيم التي ذكرناها كفيلة بأن تجعل أي مشروع تعايش يبدو مستحيلاً، وأي حل للأزمة يبدو مستحيلاً، إلا بالقضاء على الآخر المجرم الكافر بكليته من أجل إنقاذ الذات الطاهرة بكليتها.
الهوامش:
[3] كاتب مجهول، “وصية شهيد (متظاهر سلمي سابقاً في سوريا)”. على موقع د. بشر محمد موفق لطفي (دكتور في الإقتصاد الإسلامي، سوري الجنسية حسب السيرة الذاتية، مقيم في البحرين)، بتاريخ 23 نوفمبر/تشرين الثاني، 2011. تنويه تحت العنوان (أوراق تركها شهيد لزوجته قبل أن يقتل في مظاهرة احتجاج في سورية الحبيبة). (آخر دخول 8 نيسان 2017) انظر الرابط..
[4] كاتب مجهول. ” وصية شهيد من ريف حلب وُجدت في جيب سترته.” موقع زمان الوصل، 13 نيسان 2014، (آخر دخول 8 نيسان 2017) انظر الرابط.
Social Links: