التدين الإسلامي والثورة السورية من منظور نفسي – اجتماعي – أحمد نظير الأتاسي

التدين الإسلامي والثورة السورية من منظور نفسي – اجتماعي – أحمد نظير الأتاسي

أحمد نظير الأتاسي

                      أحمد نظير الأتاسي

التدين الإسلامي في سوريا (1)

مقدمة – علم النفس الاجتماعي

 

المقالات والسجالات السياسية والأيديولوجية التي تستخدم مصطلحات مثل إسلام وثورة وسورية تعطي انطباعاً وكأن الجميع متفقون على معناها. لكنها في الحقيقة مفاهيم ومصطلحات إشكالية ومربكة. من وظائف الدراسة المنهجية أن تفكك هذه المصطلحات المألوفة إلى معانيها المختلفة حسب اختلاف السياق الذي تستخدَم فيه، وأن تعطيها معاني محددة، يمكن من خلالها معالجة قضايا شائكة مثل الإسلام والثورة معالجة منهجية تبدأ بالمفاهيم وتنتهي بالنظرية الشارحة. يضاف إلى ذلك أننا نعاني في المنطقة العربية من قلة الاختصاصات الجامعية في مجالات العلوم النفسية والاجتماعية، وقلة الأبحاث الأكاديمية والمنهجية، وبالتالي فإننا نعاني من ضعف المصطلحات سوآءاً المنحوتة محلياً أو المعربة أو المترجمة.

لذلك سنبدأ في هذه المقدمة بتوضيح المصطلحات والمفاهيم المتعلقة بعلم النفس الاجتماعي ثم ننتقل إلى توضيح ما نعنيه بالتدين الإسلامي في سوريا ومن ثم بالثورة السورية وعلاقتها بالإسلام. أما الأقسام اللاحقة فنسلسلها زمنياً حسب مراحل تطور الثورة: البداية، الأسلمة، الحرب. وفي كل مرحلة نحاول دراسة أثر التدين كأيديولوجيا جمعية تساهم في صنع أفعال جمعية.

 

مواضيع ومفاهيم (2)

يمكن القول بأن علم النفس الاجتماعي يهتم بتكوين وتبادل المعارف اجتماعياً من أجل الوصول إلى الفعل الجمعي. أي أنه يهتم بثلاثة محاور تكتلت حولها مواضيع هذا العلم: أولاً، القيم والمعتقدات والآراء (attitudes, opinions, beliefs) كيف تتشكل ضمن الجماعة وكيف تصبح متشابهة ومشترَكة وكيف تتغير أو تتصلب؛ ما هو دور هذه المفاهيم ضمن الجماعة وفي علاقاتها مع الجماعات الأخرى؛ ما هي الأبعاد الواعية وغير الواعية لهذه المفاهيم وكيف تحكم تصرفات الأفراد والجماعات؛ كيف تتجمع بعض القيم والآراء والمعتقدات لتشكل تكتلات فكرية أكبر مثل الأيديولوجيات. ثانياً، الهوية وتصور الفرد لنفسه وتصور الجماعة له (social and self-perception, identity) أي ما هي الصورة التي يكونها الفرد عن نفسه ضمن الجماعة وكيف؛ وما هي الصورة التي تكونها الجماعة عنه وعن نفسها وكيف؛ ما هو دور هذه التصورات في الفعل الفردي والجمعي. ثالثاً، العلاقات ضمن الجماعة وبين الجماعات أو ديناميكية التفاعل (dynamics, inter and intra group processes) أي لماذا يتصرف ويفكر الفرد ضمن الجماعة بطريقة لا يمكن أن يعتمدها لو عاش وحيداً، كيف تفعّله الجماعة وتعطيه هذه الطاقة؛ كيف ولماذا تتكون الجماعات؛ كيف ولماذا يتعاون أو يتصارع الأفراد ضمن الجماعة الواحدة؛ كيف ولماذا تتعاون أو تتصارع الجماعات المختلفة.

 

ويجدر بالذكر أنه تاريخياً كان هناك تأكيد على البرهان التجريبي في علم النفس الاجتماعي وليس فقط الملاحظة (experimental demonstration). وذلك ليس من أجل إضفاء صفة العلمية على البحث وإنما من أجل إثبات السببية (causality) والحفاظ على الموضوعية أي محاكاة المفاهيم للواقع (objectivity) بدل محاكاتها فقط لأفكار الباحث الذاتية. لكن، رغم أن العلوم الاجتماعية والنفسية تطرح نفسها كعلوم تجريبية موضوعية منفصلة عن ثقافة الأفراد المنتجين لها، إلا أنها في النهاية تواجه تحديات كبيرة في سمتين من سماتها ونعني “التجريبية” و”الموضوعية”. لا يمكن للعلوم الاجتماعية، وفي أحيان كثيرة النفسية، القيام بتجارب مخبرية تتحكم بشكل كامل بالوسط المحيط بحيث تضبط المتغيِّر المستقل وتسجل المتغير التابع مع الإبقاء على جميع العوامل الأخرى ثابتة من أجل إنتاج سببية واضحة. كما أن الباحث كإنسان يشبه مواضيع بحثه، أي الأشخاص الآخرين، وبالتالي فالباحث محكوم بدرجات متفاوتة بوجهات نظره وانتماءاته.

 

في هاتين الحلقتين لا نزعم بأننا قمنا بعمل تجريبي. فقد اقتصرنا على الملاحظة وعلى مقابلات مع مشتركين في الحدث الجمعي. كما لا نزعم السببية أو الواقعية، فجهدنا ينحصر في محاولة تطبيق بعض نظريات علم النفس الاجتماعي على فعل جمعي بامتياز مثل الثورة السورية. إنه عمل تفسيري (interpretive)، وبالتالي فهو محكوم بالذاتية (subjective) مهما حاولنا التخلص منها. وكل ما نأمله هو التعريف بعلم مثير مثل علم النفس الاجتماعي وبقدرته التحليلية العالية. هذه القدرة التي يحتاجها كل من يحاول فهم حدث جلل مثل الثورة السورية، وكل من يحاول التعامل مع أسبابها وسيرورتها ونتائجها من منظور قريب إلى الأرض يركز على الأفراد والجماعات الصغيرة كبشر وليس كروبوتات. ولا نحاول التطرق لكل جوانب الثورة كفعل جمعي، ونقتصر على محاولة شرح العلاقة بين هذا الفعل وبين أيديولوجية جمعية بامتياز هي الدين. لا نزعم أن الدين هو المسبب والمتحكم الأوحد، فهذا خطئ فادح، لكنه عامل شديد الأهمية لا يمكن إغفاله، بل لا بد من فهم دوره. نبدأ دراستنا فيما يلي بالمفاهيم الأساسية لعلم النفس الاجتماعي ثم نبني عليها إلى أن نصل إلى مفاهيم أكثر تعقيداً مثل الأيديولوجيا والدين والثورة. في القسم التالي نستخدم هذه المفاهيم للتخصيص، أي لتوضيح ما نقصده بالإسلام السوري والثورة السورية وعلاقتهما ببعضهما البعض.

 

التدين الإسلامي في سوريا

بما أننا أمام نسق اجتماعي سلوكي، أي الثورة السورية، فلن نستخدم مصطلح الدين وإنما التدين، أي سنبتعد عن الأيديولوجيا (خاصة المعيار والدوغما) ونتجه باتجاه الممارسة. حسب التعريف الشرعي فإن التديّن الإسلامي يشمل الإيمان بمعتقدات محدَّدة والمشاركة في شعائر وعبادات محددة، ونعني نطق الشهادتين والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والحساب والثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله عند الاستطاعة. التدين الإسلامي السني يضيف إلى ما سبق الإيمان بالقدر خيره وشره، وعذاب القبر، والالتزام بالشريعة التي تقوم على نصوص القرآن المنزل والسنة الصحيحة. وأما التمييز بين درجات من التدين فهو تمييز في طلب العلم، فكلما تقدم الفرد في طلب العلوم الإسلامية بأنواعها ازداد ارتقاؤه في سلم التدين.

 

أما التعريف السوسيولوجي للتديّن فيقوم على أساس العلاقات البشرية والاستخدام اليومي المتغير للأيديولوجيا، ولذلك فقد يحتوي عناصر قد تعتبرها الأديان ثانوية أو غير “قويمة”. لذلك فإن تعريف التدين لا يقوم على التمييز بين مستويات من الالتزام بالأيديولوجيا المعيارية (الدين القويم) وإنما على أساس اشتراك أفراد مجموعة ما بأفكار وأفعال معينة تميزهم عن غيرهم. من منظور نفسي اجتماعي يمكن أن نعتبر أن للتدين ثلاثة محاور أساسية: الأول محور شعوري (affective)، والثاني محور معرفي (cognitive)، والثالث محور سلوكي (behavioral). الأول، أي الشعوري، يختص بالمشاعر التي تتولد عند الفرد عند ممارسة الشعائر الدينية الفردية أو الجماعية، عند الإحساس بوجود الإله واستجابته للدعاء وتدخله في حياة الفرد والجماعة، أو عند الإحساس بالانتماء للجماعة الدينية والتأكيد على هويتها والدفاع عن مقدساتها. الثاني، أي المعرفي، ليس فقط ما نتعلمه عن الدين “القويم” من المرجعيات، لكن أيضاً ما نتعلمه عن الدين والجماعة الدينية بالملاحظة والتقليد والتجربة والجدال، وما نتعلمه من الإعلام والخطب واللقاءات الاجتماعية. البعد المعرفي هو أيضاَ التصوّر الشخصي للإله، فهم معنى العبادة ودور الدين في المجتمع، التاريخ الديني للجماعة، وقصص المعجزات والكرامات؛ وهذه المعرفة اجتماعية بامتياز. المحور الثالث، أي السلوكي، يشمل الشعائر والعبادات والاحتفالات الدينية والدروس والخطب والمعسكرات وزيارة المشايخ والأضرحة والحضرات الصوفية. ولكل من هذه المحاور نمطان: شخصي ومؤسساتي. النمط الشخصي لا يعني الفردي ولا يناقض الجمعي وإنما هو العام والمشترك الذي يحمله كل فرد في الجماعة. أما المؤسساتي فهو الخاص بجماعة معينة منظمة داخل النسق الديني العام. يمكن القول بأن الشخصي في التدين الإسلامي هو أسس الدين، والمؤسساتي هو التدين الصوفي أو المسيس أو الجهادي. الجمع بين المحاور والنمطين يعطينا أبعاداً سته للتدين: البُعد المعرفي الشخصي، المعرفي المؤسساتي؛ الشعوري الشخصي، الشعوري المؤسساتي؛ السلوكي الشخصي، والسلوكي المؤسساتي.

 

هذه الأبعاد تساعدنا على دراسة وتحليل التدين كظاهرة اجتماعية، لكنها لا تدل على أنساق التدين، أي ما يميز المجموعات داخل النسق الديني العام. إذا جمعنا قائمة بكل التجارب الشعورية والمعارف والممارسات، الشخصية والمؤسساتية، المرتبطة بالمجتمع السوري المسلم السني (أي حسب الأبعاد الستة) وصغناها على شكل أسئلة يمكن أن نطرحها على الناس فإننا سنحصل على استبيان إحصائي شامل لكل نواحي التدين الإسلامي السوري السني. عندما نطرح هذه الأسئلة على فرد ما من هذه الجماعة فإن الأجوبة ستعبّر عن التدين الذي يحمله هذا الفرد. فإذا طرحنا هذه الأسئلة على عينة تمثيلية من المجتمع السوري المسلم السني فإننا سنحصل على صورة كاملة لما يعنيه هذا التدين. هناك تحليل رياضي يسمى “تحليل العوامل” (factor analysis) يمكن أن نُخضع له كل الأجوبة ليميز لنا بين حزم مترابطة من الأجوبة. أساس التمييز بين الحزم هو التشابه والتكرار في العينة والتزامن في الحدوث. مثلاً جواب “نعم أداوم على صلاة الجمعة” قد يحصل عند خمسين بالمئة من العينة، وجواب “نعم أصوم رمضان” عند ستين بالمئة من العينة، ويتزامن الجوابان في تسعين بالمئة من إجمالي الإجابتين في العينة. هذا يعني أن الدوام على صلاة الجمعة وصوم رمضان مرتبطان ويدلان على نمط منتشر بكثرة من التدين الإسلامي السني في سوريا. كل حزمة من الأجوبة التي ينتجها تحليل العوامل ستعبّر عن نمط معين ومحدد من التدين الإسلامي السوري السني. لم نقم بهذا المسح الإحصائي بعد، لكن ملاحظاتنا الأولية تشير إلى الأنماط الستة التالية من التدين السني: الشعبي، الملتزم، السياسي، الجهادي، الليبرالي، والثقافي أو الهوياتي. إنها أنساق اجتماعية أيديولوجية ويمكن أن نشرح سماتها وفق الأبعاد الستة التحليلية السابقة الذكر.

 

التدين الشعبي هو الأكثر انتشاراً. جذوره صوفية ويصعب تمييزه عن العادات التقاليد. الجانب المؤسساتي في هذا النمط ضعيف، إذ حتى الجماعات الصوفية رغم اختلافها الظاهري وتميزها فإنها تشترك في المعارف والشعائر ولا تفرض على أعضائها معارف وممارسات معينة. المعرفة الدينية في هذا النمط تتأتى من العائلة والحارة ومسجد الحارة والمشايخ المحليين. وهي بديهيات العقيدة الإسلامية، بالإضافة إلى معارف بسيطة تخلط بين الأقوال المأثورة والأحاديث النبوية وبين التقاليد وأحكام الشريعة وبين الخرافات والتقوى. البعد الشعوري مصدره ومسرحه العائلة والحارة ومسجد الحارة، وكذلك الالتزام بالعادات والتقاليد، وحماية العرض والشرف، والمشاركة في الشعائر الجماعية والمناسبات الدينية. الممارسات في هذا النمط هي خليط من الشعائر الأساسية في الدين والتقاليد المحلية، مثل صلاة الجمعة في المسجد الكبير، الاستماع إلى خطبة الجمعة من خطيب مشهور، صوم رمضان وتبربر الغضب السريع في رمضان بالصوم، الاستماع إلى تلاوة القرآن في أماكن العمل، حضور الموالد والحضرات، حفظ أدعية خاصة بكل حركة، ترديد آية الكرسي ودعاء اللطيفية للتبرك وإبعاد الشرور، الاستماع إلى تسجيلات مشاهير المشايخ، تبجيل المشايخ المحليين وزيارتهم، زيارة القبور والأضرحة، واستخدام الرقى والإيمان بكرامات الأولياء والتبرك بهم وبأضرحتهم وطلب شفاعتهم. هذا النمط من التدين عرضة للتلاعب والتجييش الشعوري وتحريض الغوغاء. يعتقد البعض أن هذا النمط من التدين يكوّن أساس هوية سنية سورية تجمع بين أفراد أغلبية سكانية. في الحقيقة فإن قوة الهويات المحلية (المنطقة والمدينة والقرية والحارة والعشيرة) تجعل من الصعب نشوء هوية وطنية جامعية سوآءاً دينية أو قومية. الثورة السورية والحرب التي تبعتها بلورت انتماءات دينية وطائفية؛ لكن لا نرى إلى اليوم هوية سنية تجمع الحلبي مع الدمشقي والديري مع الدرعاوي، بل هي هويات محلية قد يكون لها عناصر طائفية.

 

التدين السني الملتزم ظاهرة حديثة ظهرت في أوائل القرن العشرين مع بروز الطبقة الوسطى السورية المتعلمة المدينية(3). المشيخة ليست جديدة على الإسلام السوري وهي أساس الصوفية، لكن وجود الشيخ المعلم مؤسس المدرسة الإعدادية أو الثانوية الشرعية وصاحب حلقة التدريس في مسجد الحي لم يكن ممكناً إلا مع صعود التعليم العمومي. كان لهؤلاء المعلمين دور في محاربة التعليم المفرنس تحت الانتداب وفي إنشاء المدارس الشرعية بعد الاستقلال. علاقة الطلاب بالشيخ المعلم هرمية ومبنية على مثال العلاقة بين المعلم الصوفي والمريد، مما يشي بالأصول الصوفية لهؤلاء المعلمين. يحيط بالمعلم مجموعة من الأساتذة، يساعدهم طلاب علم متقدمون. هؤلاء بدورهم يتلقون الطلاب الجدد ويدخِلونهم في الجماعة عن طريق التعليم والمعاشرة. من الجماعات المشيخية المعروفة جماعة مسجد زيد في دمشق (4). فعّاليات الشيخ لا تقتصر على التعليم وإن كان التعليم أساسياً لبناء مشروعيته ومصداقيته. وتشمل هذه الفعاليات العمل الخيري وبناء شبكة من المريدين والمتبرعين والمتطوعين والطلاب، وأحياناً التوسع من خلال تعيين أئمة وخطباء من الجماعة في مساجد المدينة.

 

الشخصي هنا يضمحل أمام المؤسساتي، فهذه الجماعات منظمة وهرمية تعطي المنتمين إليها إحساساً بالانتماء إلى مجموعة اجتماعية ذات هوية متميزة، يتداعى ضمنها الأعضاء لخدمة ومساعدة بعضهم البعض. قد يخصص الشيخ المعلم لمريديه من المتبرعين الميسورين دروساً خاصة، لكن عماد الجماعة هم طلاب العلم الذين يخضعون لمنهاج تعليمي ينتقيه المعلم بعناية، ويستمر لعدة سنوات، ويتدرج في الصعوبة والعمق، ويشمل معظم جوانب العبادات والعقيدة والفقه واللغة العربية والتاريخ الإسلامي. هناك أيضاً معارف تختص بها الجماعة مثل اجتهادات الشيخ الخاصة وتوصياته. البعد الشعوري مرتبط بالمسجد والمعاشرة ضمن المسجد، والقرب أو البعد عن الشيخ المعلم، وبعلاقة التكافل بين الأعضاء ومنافستهم للجماعات الأخرى من أجل جذب الطلاب والمريدين والمتبرعين والسيطرة على مزيد من المساجد. البعد السلوكي يشمل بالإضافة إلى العبادات والشعائر المعروفة في التدين الشعبي، عبادات إضافية مثل صلاة السنن القبلية والبعدية وقيام الليل والصوم خارج رمضان والدروس الدينية وزيارة المعلم والطلعات الترفيهية والمعسكرات. يعتقد البعض ان الإسلام السياسي هو من أنتج هذا النمط من التدين ويسمونه تعسفاً بالنمط الإخواني (نسبة إلى الإخوان المسلمين)، لكننا نعتقد بأن الإسلام السياسي خرج من رحم هذه الجماعات وليس العكس. هذا لا يجعلها سياسية خالصة، لأن دور الشيخ التعليمي والخيري والاجتماعي والدعوي ينتفي بالانغماس بالسياسة ومشاكلها وفضائحها ويعرض مثاليات الشيخ لخطر الممارسة. قد يدعم الشيخ مرشحاً أو يتحالف مع سياسي، لكن الشيخ لا يترشح ولا يؤسس حزباً ولا يدخل في المعارك السياسية. لكن لا يجب أن نهمل حقيقة أن التعليم الديني السني يحتوي مكوناً سياسياً منذ العصور الوسطى وظهور نظريات الخلافة والسياسة الشرعية.

 

تنمّي هذه الجماعات بين أعضائها هوية سنية ظاهرة وقوية تقوم على الالتزام بالإسلام “السني الصحيح”، حسب نظرتهم، وعلى الانتماء إلى أمة إسلامية تتخطى الحدود الوطنية، وعلى ما يسمونه الوسطية (وهو ما تدّعيه كل الجماعات الإسلامية المنظمة)، أو بعبارات أخرى “لا صوفية تشطح ولا سلفية تنطح”. لكن وكما أسلفنا فإن الهويات السورية غالباً محلية، والتنافس بين المشايخ وجماعاتهم يفتت أية هوية وطنية جامعة؛ كما أن هذه الجماعات مدينية بامتياز ولا تتوسع إلا في الأرياف التي تلتحق كأحياء في المدينة أو في الأرياف التي تتضخم لتصبح مدناً. هذا التنافس لا يهدأ إلا إذا قرر المعلمون خوض معركة ضد خصوم علمانيين، فعندها يزعمون بأنهم يمثلون هوية الأغلبية وينطقون باسمها ويعبرون عن ثقافتها “الأزلية” (روح الشعب). لكن هذه الهوية، إذا تمكنوا من تفعيلها، فإنها طائفية بامتياز لأنها تماهي بين الأمة الدينية والأمة السياسية (مواطني الدولة) ولا ترى في الأقليات الدينية إلا ضيوفاً على أرض الإسلام وأمة الإسلام.

 

نمط التدين السياسي ظهر في سوريا في الأربعينيات مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين. هذا النمط مؤسساتي بحت. المعارف فيه تشبه معارف النمط الملتزم لكن تتخطاها فيما يخص العمل السياسي (الحركية كما يسمونها) والاعتقاد بنظام سياسي متميز عن الأنظمة المعروفة والمسمى بالنظام الإسلامي أو الدولة الإسلامية. يجذب هذا النمط أعضاءه الجدد من صفوف الجماعات المشيخية والتدين الملتزم؛ وهذا ما يجعل التدين السياسي مدينياً أيضاً. البعد الشعور ينبع من الانتماء إلى جماعة شديدة التنظيم، شبه سرية، نخبوية طليعية، وتطمح إلى الوصول إلى الحكم ليس فقط عن طريق الانتخابات أو أحياناً الثورة ولكن عن طريق انقلاب مجتمعي ثقافي كامل (الصحوة أو العودة إلى الدين كما يحلو للبعض تسميتها). البعد السلوكي ليس غائباً ولا يتماهى كاملاً مع سلوكيات الملتزمين. هنا نجد تسمية “النمط الإخواني” مفيدة لأن هذه الجماعة هي رائدة العمل السياسي الإسلامي في المنطقة. ورغم تفتت هذه الجماعة في سوريا إلى مجموعات مختلفة التماسك ومتباينة في الفلسفة والمطالب، ورغم ظهور جماعات سياسية أخرى مثل حزب التحرير، إلا أن السلوكيات ضمن هذه الجماعات متشابهة. الطريقة الإخوانية لا تبني مجرد حزب سياسي، وإنما تطمح لبناء مجتمع جديد وثقافة جديدة يعتقدون أنها تشبه جوهر ثقافة السلف الصالح (وهذا ما يجعلها سلفية)، لكن بمظهر حديث وأدوات حديثة ومؤسسات حديثة. الانضباط مهم جداً وكذلك الانصياع للأوامر؛ اللباس عصري والدراسة الجامعية العلمية محبذة؛ اللحية مشذبة والكلمات محسوبة؛ والحجاب للنساء متشابه كاللباس العسكري؛ وهناك كثير من التقية السياسية والتحزب والتماهي التام مع الجماعة. عندما يدخل الفرد في الجماعة (يبدأ التأطير والجذب من سن المراهقة) فإنه سيمضي معظم أوقاته مع أعضاء آخرين في الجماعة وقد يعمل مهنياً معهم ويتزوج من بناتهم. اليوم، هذا النمط من التدين يحاول محاكاة نجاحات حزب العدالة في تركيا من حيث الاهتمام بمنظمات المجتمع المدني، التركيز على الحكم المحلي، والاختراق البطيء لمؤسسات الدولة المركزية، والالتزام بشكل ومؤسسات الدولة الحديثة بما فيها الدستور والبرلمان وفصل السلطات، وبناء شبكات اجتماعية ومصلحية ضخمة. يزعم هذا النمط من التدين، على غرار النمط الملتزم، بوجود أمة إسلامية عابرة للحدود، وهوية سنية هي هوية الأغلبية، وثقافة وطنية متماهية مع الإسلام السني، إنها فعلاً أيديولوجية قومية دينية.

 

التدين الجهادي يجمع بين السلفية الوهابية (أقدم من التدين الملتزم)، والطفرة الجهادية المتحوِّلة عن التدين السياسي، والنزعة العالمية التي ظهرت مع الجهاد الأفغاني. وهذه السلفية مختلفة عن السلفية الإصلاحية المسماة بالشامية. هذه الأخيرة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وكان هدفها مواجهة التحدي الثقافي الغربي؛ ومن أعلامها الأوائل طاهر الجزائري ورشيد رضا. أم السلفية الجهادية دخلت سوريا بشكل ملموس مع الجهاد العراقي ضد الغزو الأمريكي بعد 2003. شجع النظام في سوريا على تجنيد وإرسال متطوعين سوريين للحرب في العراق ضمن مجموعات جهادية عالمية ومحلية؛ وألقاهم في السجون عند عودتهم. أخذ هؤلاء أثناء وجودهم في العراق، وأحياناً أثناء وجودهم للعمل في دول الخليج، الأفكار السلفية الوهابية التي طورتها المؤسسة الدينية السعودية والأفكار الجهادية العالمية التي طورها فلسطينيون وأردنيون ومصريون أثناء الجهاد الأفغاني. بعد تراجع الثورة السلمية وانتشار العنف في سوريا في أواخر 2011، وجد الجهاديون لأنفسهم فسحة جديدة وموضع قدم فقدوه في العراق، فظهرت جبهة النصرة القاعدية والدولة الإسلامية العراقية. كما ظهرت فصائل جهادية أسسها سلفيون جهاديون سوريون خرجوا من سجن صيدنايا الشهير في حزيران من عام 2011.

 

التدين الجهادي مؤسساتي بامتياز، ويصعب على الشخص منفرداً أن يتحول إلى السلفية الجهادية. البعد المعرفي بسيط ويقوم على المكفرات العشرة التي صاغها مؤسس الوهابية السعودية محمد بن عبد الوهاب. وكما قال أحد المراقبين للثورة السورية، “يصبح المرء شيخاً من شيوخ السلفية الجهادية في سوريا في أسبوعين، وبعدها يمكنه أن يحاجج ويفحم أي خصم بأن يكفره”. وقد أظهرت دراسات عن الهجمات الإرهابية في أوروبا وأمريكا أن المتحولين إلى الجهادية السلفية كثيراً ما يكونون مجرمين صغار ومتمردين معزولين اجتماعيا. تؤمن السلفية الجهادية بإعادة الخلافة الإسلامية “على منهاج النبوة” وذلك بالفهم والتطبيق الحرفيين للسنة النبوية والقرآن، وتركّز على تطبيق الحدود (خاصة العنيفة)، وعلى استمرارية الجهاد حتى تتحول البشرية كلها إلى الإسلام أو تدخل تحت سيطرة الشريعة الإسلامية على طريقتهم. الإمارة والخلافة التي ينادون بهما كمنظومة سياسية تقومان على بيعة لقائد، وإنشاء بعض الدواوين الإدارية التي تستخدم الأدوات القمعية للدولة الحديثة. من الناحية السلوكية، تركز الجهادية على التميّز بالمظهر واللباس والحديث عن بقية المجتمع لتمييز الفرقة الناجية من المؤمنين (أي هم) عن الفرق الضالة والكفار (أي بقية الناس). الشعر الطويل المنفوش واللحية الطويلة الشعثة واللباس الأفغاني والكلام بالفصحى والسواك ومجابهة المجتمع بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكفير والانعزال، كلها سلوكيات سلفية جهادية. العنف كسلوك شخصي وممارسة مؤسساتية أساسي في هذا النمط من التدين لأن له مفعول تطهيري للفرد وللمجتمع. أما التجربة الشعورية فتتكون ضمن الجماعة الجهادية المنعزلة من خلال الجهاد الدائم والعنف التطهيري وادعاء الفوقية الأخلاقية واحتقار الآخرين لأنهم أدنى درجة في الإيمان والإنسانية. المشكلة في الجهادية هي أن التدين الملتزم لا يستطيع أن يفنّدها تماماً لأنها تدعو إلى أساسيات في التدين السني الملتزم مثل الخلافة وحكم الله من خلال الشريعة والواجب الجهادي، ولأنها تجابه أعداء الأمة من حكام طغاة وإمبريالية أمريكية وطغيان ثقافي غربي. ورغم أن التدين الملتزم السوري جذوره صوفية وعقيدته أشعرية إلا أنه لا يمتلك الفلسفة السياسية والثيولوجيا الكافية والعميقة ليصوغ الأساسيات نفسها بطريقة مختلفة عن السلفية الجهادية. ولذلك فأقصى ما يمكن للتدين الملتزم أن يفعله هو اتهام الجهاديين بالخروج (خوارج) عن إجماع الأمة المتخيّل، والإفراط في العنف وهو إفراط في الدرجة وليس في الجوهر والمقاصد. أما التدين السياسي فهو أكثر عملية ومرونة، وقدرته التبريرية لعداء السلفية الجهادية أو للتحالف معها كبيرة لأنه نمط نخبوي يهتم بالممارسة والأدوات أكثر من اهتمامه بالفلسفة والثيولوجيا.

التدين الليبرالي لا يهمه المعرفة العميقة للدين بقدر ما يهمه التشابه الثقافي الذي يمكن على أساسه بناء تحالفات اقتصادية. إنه تدين شريحة صغيرة من المجتمع المديني السني السوري هي شريحة رجال الأعمال والتجار الكبار والصناعيين السنة. لا يوجد جانب مؤسساتي لهذا النمط إلا إذا انتمى بعض أفراده إلى جماعة مشيخية ما يصرّ زعيمها على التمايز الفكري والاجتماعي لمريديه. وهنا نتساءل، لماذا يحتاج هؤلاء إلى هوية دينية طائفية؟ في الحقيقة، إن انعزال نخبة الدولة في سوريا عن بقية المجتمع جعل من الصعب إنشاء مؤسسات تكنوقراطية تدير مصالح هذه الشريحة من الناس. الدولة في عهد الأسد تحكمها نخبة ضيقة عشائرية وعسكرية، تتفرع منها مجموعات ولاء ومحسوبية أهمها مخابراتي ثم عسكري ثم طائفي ثم حزبي. مؤسسات الدولة، رغم تغلغلها في المجتمع، إلا أنها غير متطورة قانونياً وإجرائياً وتقنياً، ولا تسمح للمجتمع المدني بالتطور خشية أن ينافسها. البنوك مرتبطة بالدولة والشركات الكبرى خاضعة لشراكات مع النخبة الحاكمة، ورؤوس الأموال الخاصة لا تستطيع أن تكبر عن حد معين. هذا كله يجعل الشبكات القائمة على الانتماء الطائفي ضرورية للاقتراض وتحويل رؤوس الأموال وضمان السيولة النقدية بالعملة الصعبة وحل الخلافات التجارية وإبرام العقود الملزِمة لأطرافها. رجال الدين يلعبون دور الوسطاء والضامنين لكل هذه المعاملات الاقتصادية والاجتماعية. قد لا يكون للتدين الليبرالي دور في الثورة السورية لكن كان له دور في بعض مراحلها وسيكون له دور في مستقبلها. يعطينا النموذج التركي مثالاً عن كيفية توظيف مثل ها النمط من التدين في السياسة عن طريق تحالف بين رجال الأعمال (رأس المال) والتدين السياسي (الدولة) والتدين الملتزم (الدعاة) من أجل تحويل شكل التدين الشعبي ليصبح ثقافة وطنية تنتخب النخب السياسية الجديدة (الإسلامية) وتستهلك السلع الجديدة (الإسلامية) وتقترض من البنوك الجديدة (الإسلامية).

 

أخيراً، نمط التدين الهوياتي/الثقافي، قد لا يعتبره المنظور الشرعي المعياري للتدين أنه متدين أصلاً أو متدين كفاية. هذا النمط شخصي وليس له مظهر مؤسساتي. المعارف فيه تقتصر على أساسيات الإسلام، والممارسات على الحد الأدنى الذي يضمن الراحة النفسية أو الانتماء إلى الجماعة المحيطة. ينتمي إلى هذا النمط العلمانيون واللادينيون والملحدون وكثير من المثقفين وأصحاب الشهادات العليا، بالإضافة إلى المسلمين الإسميين الذين يعتبرون أن ثقافتهم إسلامية ويعتزون بها لكنها ثقافة منفتحة على الغرب والعولمة الثقافية. الهوية السنية عند هؤلاء ليست الهوية الأقوى وانتماءاتهم السياسية قومية وطنية غير إسلاموية وأحياناً يسارية. أصحاب هذا النمط من التدين لم يصوغوا اشتراكهم في الثورة السورية ومطالبهم صياغة إسلامية وإنما صياغة تركز على محاربة القمع واحتكار السلطة وعلى إقامة حكم القانون وإنشاء دولة الخدمات الحديثة التي تضمن المساواة في المواطنة والفرص وتوزيع الثروة.

 

الهوامش:

1- يود الكاتب أن يتوجه بالشكر إلى الدكتور جمال صبح على الدعوة التي وجهها إلى العديد من الباحثين والأخصائيين السوريين إلى الكتابة عن الثورة السورية من منظار نفسي إجتماعي. كانت هذه الدعوة هي المحرض على كتابة هذه المقالة. ونقيم عالياً محاولته إخراج أول كتاب سوري مكرس بأكمله لتحليل الثورة السورية من هذا المنظار العظيم الفائدة والقدرة التحليلية.

2- Lee Ross et al. “History of Social Psychology.”

3- يوهانس رايسنر. الحركات الإسلامية في سوريا. دارس الريس، 2005.

4- Thomas Pierret. Religion and State in Syria: The Sunni Ulama from Coup to Revolution. Cambridhe Press, 2013. توماس بيرييه. الدين والدولة في سوريا: علماء السنة من الإنقلاب إلى الثورة. دار كامبريدج للنشر، 2013.

  • Social Links:

Leave a Reply