التدين الإسلامي والثورة السورية من منظور نفسي/اجتماعي أحمد نظير الأتاسي 3-3

التدين الإسلامي والثورة السورية من منظور نفسي/اجتماعي أحمد نظير الأتاسي 3-3

أحمد نظير الأتاسي

أحمد نظير الأتاسي

التدين الإسلامي وقرار المشاركين الأوائل

 

إذا اعتمدنا النموذج الفردي العقلاني لاتخاذ قرار المشاركة في التظاهرات الأولى وجب التركيز على المنفعة الفردية التي قد يجنيها المشارِك في الثورة، وعلى أهمية دور الفرد في الفعل الجمعي. وقد وجدنا أن هذا النموذج لا يسمح بمشاركة الفرد إلا إذا مرت المنفعة الفردية من خلال المنفعة الجمعية، وركز المشارك المحتمل على التخصص مما يجعل المشاركة الفردية تبدو مهمة لأن حقل المقارنة أصغر. في هذه الحالة، ما هي الصياغة الإسلامية للمنفعة الجمعية التي قد تتحقق من التظاهر والثورة؟ وما هي الصياغة الإسلامية للتخصصات المختلفة التي يحتاجها المتظاهرون؟ إسلامياً يمكن أن تتحقق المنفعة العامة بإنهاء حكم ظالم ومتجبر، بإعادة حرية العقيدة والممارسة الدينيتين، بالتخلص من حاكم كافر وطغمة كافرة، بانتقاء حاكم مسلم ومؤمن، بإقامة الشريعة الإسلامية، بإعادة الطابع السني التقليدي للبلد وبالتالي جلب الرضى الإلهي، برد الحقوق والكرامة وضمان أمن النفس والدين والعرض، بالقصاص العادل من المسؤولين عن الفساد والسجن والتعذيب، بالثأر لثورة الإخوان المسلمين الموءودة في الثمانينات، بتمكين الفئة الناجية، بالقضاء على حكم علماني، بإقامة الدولة الإسلامية، بإقامة دولة الخلافة، بإعلان الجهاد الفريضة المنسية، أو بإيقاف انتشار التشيع ومظاهره. كما يمكن أن تنتج عن الثورة مضرة عامة بإثارة الفتن، بالخروج على الحاكم صاحب الشوكة، بالتذرع بغياب الأمن من أجل التعدي على الممتلكات والأفراد. ولا نعتمد هنا فقط على محاكمة شرعية قائمة على نصوص وقياس وتجربة السلف الصالح، بل على أفكار وتقييمات وقناعات سائدة تستخدم مصطلحات وأخلاقيات ودوافع إسلامية معروفة للجميع ومتداولة بكثرة. ونذكر هنا بأننا لا نبحث عن دور الإسلام المعياري في الثورة وإنما عن دور التدين الإسلامي حسب أنماطه التي اعتمدناها أعلاه. وإسلامياً يمكن أن نتصور التخصصات التالية: الدعاء المستجاب، حضور صلاة الجمعة، الألفة الناتجة عن ارتياد المسجد الذي ستخرج منه المظاهرة، الخطابة، الصوت الجهوري وتلاوة القرآن، إمامة الصلاة والحس القيادي، استبطان مفهوم التضحية ومفهوم الشهادة ومفهوم الجهاد، والإيمان بالقضاء والقدر.

 

نمط التدين الإسلامي الشعبي يحتوي معظم الصياغات السابقة الذكر للمنفعة العامة بالإضافة إلى بعض التخصصات. التدين الشعبي قد يرى في الثورة دفاعاً عن الكرامة والعرض والدين، إنهاءً للظلم والجبروت وإحلالاً للعدل، عودةً لحرية ممارسة بعض مظاهر التدين مثل الحجاب والموالد والاستماع لتلاوة القرآن في الأماكن العامة دون خوف، وإحلالاً لحاكم مسلم مؤمن محل حاكم كافر. ويسمح التدين الشعبي بتخصصات مثل حضور الصلوات جماعة وخاصة الجمعة، ألفة المساجدة، واستبطان مفهوم الشهادة، والإيمان بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. وقد يزيد التدين الشعبي من التفاؤل بفرص النجاح لأن يد الله مع الجماعة، ولأن تحقيق المنفعة الدينية العامة مرضاة لله مما قد يزيد من فرص الاستجابة الإلهية لدعاء المؤمنين، ولأن الإيمان بالقضاء القدر يزيد من شجاعة الأفراد ويساعدهم على كسر حاجز الخوف. كل هذه الاعتبارات قد تدخل في حسابات المشارَكة ضمن أنماط التدين الأخرى وحتى التدين الهوياتي ذي المظهر العلماني. أما صياغات المنفعة العامة مثل إقامة حكم الشريعة الإسلامية وإنجاز القصاص العادل وإيقاف التشيع وتصوّر تخصصات مثل الإمامة والخطابة والجهاد فإنها تتلاءم أكثر مع أنماط التدين الملتزم المؤطر والسياسي الحزبي والجهادي. التدين السياسي الحزبي قد يعتمد صياغات مثل الثأر لثورة الإخوان، إقامة الدولة الإسلامية، إقامة دولة الخلافة، أو تمكين الفئة الناجية؛ وتخصصات مثل التنظيم الحزبي، المعرفة الإسلامية السياسية، والتوجيه العقائدي. أما التدين الجهادي فقد يعتمد صياغات مثل إقامة دولة الخلافة، القضاء على حكم علماني، أو إعلان فريضة الجهاد؛ وتخصصات مثل الجهاد العالمي والمشاركة في ساحاته مثل أفغانستان والبوسنة والعراق، العصبية بموالاة المؤمنين دون غيرهم، التنظيم العابر للحدود، أو معرفة التجربة الأفغانية في إقامة الدولة الإسلامية السلفية.

 

أما صياغات مثبطة مثل حصول المضرّة العامة بإثارة الفتن، بالخروج على الحاكم صاحب الشوكة، أو بالتذرع بغياب الأمن من أجل التعدي على الممتلكات والأفراد فإنها قد تدخل في حسابات التدين الملتزم المؤطر وربما الحزبي السياسي. التدين الحزبي السياسي حسم أمره منذ زمن طويل من ناحية الخروج على الحاكم ويستطيع أن يحاجج ضد مضرة إثارة الفتن بأن فتنة الحاكم الكافر أعظم من فتنة الحرب. وقد تكون صياغات مثل المنفعة بإقامة الشريعة وحكم الخلافة وتمكين الفئة الناجية وإعلان الجهاد مثبطة للتدين الجهادي في حال أن الثورة اقتصرت على المظاهرات والمطالب السياسية دون اللجوء للعنف. وكما ذكرنا فإن حسابات التدين الهوياتي ستكون أقرب إلى حسابات علمانية منها إلى حسابات دينية. نموذج القرار الجمعي، حسب سيناريو تعميم النجاح الجمعي، قد يعطي دوراً كبيراً للتدين بكل أنماطه، وذلك لأن صياغات التدين للمنفعة أو المضرة هي بعمومها جمعية ومتفائلة بطبعها، وخاصة عند نمطي التدين الملتزم المأطر والحزبي السياسي. ولا يعني هذا أن الثورة السورية بدأت في آذار من عام 2011 لأسباب دينية بحتة. فبالنسبة للتدين الشعبي، وهو النمط الأكثر انتشاراً، المنفعة العامة هي شعورية فيما يخص الدين، أما المنفعة الاقتصادية أو السياسية فصياغتها كانت علمانية غير دينية في الأشهر الأولى للثورة، ولا نرى لها علاقة بالتدين الشعبي. لكننا في هذه الحلقة نركز على دور التدين في الثورة وخاصة بدايتها، ولا ننظر إليه كسبب إذ أن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كانت قوية جداً؛ كما أننا ننظر إلى التدين كمعطى واقعي قد يدخل في حساب القرار الجمعي ببدء التظاهر وإطلاق الثورة السورية. لا توجد دراسات إحصائية لقياس دور هذين النمطين في إطلاق الثورة، لكن من المعروف أن الحاملين لنمط التدين الحزبي السياسي كان معظمهم يسكن خارج سوريا في البدايات، لكن كان لهم وجود كبير وكثيف كمشجعين وداعمين ومحفزين. أما الحاملين لنمط التدين الملتزم المؤطر فنعتقد أن مشاركتهم كانت كبيرة في إطلاق الثورة وفي المراحل التالية: كما نعتقد أيضاً بأن حسابات المشاركة بالنسبة إلى هؤلاء كانت في جزء لا يستهان به دينية.

 

أما التدين الجهادي فإنه لا يرى مصلحة الجماعة إلا من منظار نخبوي (بانتصار الفئة الناجية وتمكينها) وعنفي (الجهاد بالقتال)، كما أن خياراته وأدواته محدودة العدد. ولذلك فإن نموذج القرار الجمعي، كما في نموذج القرار الفردي العقلاني، سيقودنا إلى الاستنتاج بوقوف حاملي هذا النمط من التدين على الهامش عند انطلاق المظاهرات وأثناء انتشارها ينتظرون بدء الحرب أو يدفعون باتجاهها.

 

أما الشروط الضرورية لاتخاذ قرار المشاركة وفق نموذج القرار الجمعي، سيناريو تعميم النجاح الجمعي، فإنها شروط لا يلعب التدين فيها أي دور إلا في شرط الهوية الجمعية، وبدرجة أقل في شرط الجدوى الجمعية. شرطا الاقتناع بدوام الحال وانسداد الأفق تحققا بسبب تعنت النظام الحاكم واحتكاره للثروة والسلطة وتاريخه الحافل بالعنف. قد تقوّي كل أنماط التدين من الإيمان بجدوى العمل الجمعي فيد الله مع الجماعة ولا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. أما شرط الهوية المتجانسة والقوية فقد لعب التدين بكل أشكاله دوراً في التأسيس لها وتحويلها وتقويتها. تثير الهوية الطائفية اليوم جدالاً كبيراً بين السوريين يدور حول دورها في إشعال الثورة، أسلمتها، وتحويلها إلى طريق العنف. إن الشرط الرابع في اتخاذ القرار الجمعي بالخروج للتظاهر من أهم الشروط لأنه المولّد لسمة “الجمعية” في المشاركة في الثورة. في نقاشاتنا السابقة كان من الواضح أن المشاركة في الثورة ليست مجموع قرارات فردية، وإنما قرار يُتخذ ضمن الجماعة ويضع مصلحتها فوق مصلحة الأفراد. والهوية هي الأيديولوجيا التي تجعل الجماعة ممكنة وبالتالي فهي تجعل القرار الجمعي ممكناً. فهل كانت الهوية المشتركة التي أعطت المشاركين الأوائل الإحساس بالانتماء إلى جماعة واحدة هي هوية دينية طائفية؟ فإذا كانت كذلك فما هي أنماط التدين الإسلامية الأكثر مساهمة في تشكيل وصياغة هذه الهوية؟

كل من خرج في تظاهرة الجامع الأموي في دمشق يوم 15 آذار كان يحمل هوية المستضعَفين الذين سدت الدولة الاحتكارية أبواب الفرص في وجوههم. اختيار الجامع الأموي كان قراراً تكتيكياً وليس هوياتياً ولا رمزياً. لم يكن انتقاء الجامع الأموي لأنه أموي سني مقابل النظام العلوي الشيعي، بل لأنه مكان تجمع (الصلاة) قد تردع حرمته النظام من ممارسة العنف تجاه المتظاهرين. يمكن القول أن هذه الحرمة صفة دينية احتمى بها المتظاهرون، لكن هذا لم يمنع عنهم التعرض للضرب المبرح في ساحة المسجد. بالمقابل يمكن القول بأن رمزية المسجد الأموي وطنية أكثر منها دينية، أي أن التعرض للضرب في المسجد الذي ينتمي للبلد جميعاً قد يثير غضب كل سوريين وليس فقط غضب أهالي الأحياء المحيطة بالمسجد أو أهالي دمشق المدينة. لكن اختيار مكان التظاهرة الأولى ليس هو الدليل الوحيد على الهوية الجامعة. لم يكن كل المشاركين مسلمين ولم يكن كلهم من حاملي أنماط التدين الملتزم أو السياسي بل أغلبهم من حاملي نمط التدين الشعبي وبعضهم من حاملي نمط التدين الهوياتي. هذا ما أشارت إليه المقابلات التي أجراها الكاتب. أما الذين خرجوا في تظاهرات درعا يوم 18 آذار فيمكن القول بأن الهوية المحلية الدرعاوية العشائرية جيشتهم أكثر من الهوية الدينية الطائفية. ولا نهمل هنا هوية المستضعَفين الذين اضطرت الخصخصة والاحتكار أغلبهم للعمل في لبنان والأردن ودول الخليج (7). وماذا عن هوية المشاركين في تظاهرات حمص الأولى يوم 25 آذار 2011؟ أول الهتافات الطائفية استخدِمت في حمص، لكنها لم تكن معممة على كل التظاهرات في ذلك اليوم وأيام الجمع التي تلته. كانت الهويات الطائفية في حمص واضحة بسبب وجود الطوائف الثلاثة السنية والعلوية والمسيحية بنسب جيدة في المدينة وفي الريف المحيط، وكذلك بسبب الاحتقان الذي أثاره مشروع حلم حمص الذي روج له المحافظ العلوي إياد غزال والذي هدد الملكيات العقارية في وسط المدينة والتي تعود أغلبها لمالكين سنة. وقد فسر كثيرون هذا المشروع بأنه محاولة علوية لإقصاء السنة عن المجال الاقتصادي في المدينة الذي سيطروا عليه تاريخياً. يمكن أن نعرض حجة مماثلة لتظاهرات مدينة حماة الأولى باعتبار أن المدينة لديها مظلومية تاريخية مع حكم عائلة الأسد في حربها مع الإخوان المسلمين الذين أعلنوها حرباً طائفية في ثمانينات القرن الماضي على ما وصفوه بحكم العلويين. لكن المظاهرات التالية لم تُظهر أية هويات طائفية من خلال الشعارات والمطالب. كذلك فإن المظاهرات الأولى لم تقتصر على المدن بل انتشرت بسرعة في الأرياف المحيطة بهذه المدن والتي لا نعرف عنها تاريخياً تمسّكاً بهوية سنية طائفية تجمع كل السنة في سوريا. الحجة المعاكسة ستأتي بالتأكيد من نجاح أسلمة الثورة في معظم أرجاء سوريا. فإذا كانت هذه الهوية الطائفية موجودة وفاعلة فإن المتظاهرين والمنظمين نجحوا لعدة شهور في إخفائها وتثبيط فعلها. في الأقسام التالية سنحاول أن نشرح كيف يمكن تفسير الأسلمة اللاحقة ليس على أساس هوية مسبقة مخفية وإنما على أساس ديناميكية الثورة، وردود أفعال النظام القمعية ودفعه باتجاه الحرب الطائفية، بالإضافة لحجم الضخ الخارجي من المغتربين السوريين والدول المحيطة. ونستطيع التأكيد هنا على أن الهوية الجامعة (قد لا تكون الوحيدة) لكل المتظاهرين الأوائل هي هوية المستضعَفين؛ كما كانت هناك هويات فاعلة أخرى محلية وطائفية واجتماعية وطبقية وسياسية.

 

نموذج القرار الجمعي، حسب سيناريو تعميم الفشل الجمعي، قد لا يعطي دوراً كبيراً للتدين الشعبي في اتخاذ قرار المشاركة، فكما ذكرنا، المنفعة الدينية هنا شعورية، والمنفعة غير الدينية ملموسة وضخمة وبالتالي تلعب الدور الحاسم في تحديد المشاركة. التدين الشعبي لا يجزي المشاركين ولا يعاقب الهاربين، وهذا قد يرفع من قيمة مؤشر المشاركة (تناسب عكسي). أما من منظور التدين الملتزم والتدين السياسي فإن المنفعة عظيمة في حال النجاح وصفرية في حال الفشل (مؤشر موجب)، والمضرة صفرية في حال النجاح وعظيمة في حال الفشل (مؤشر موجب) مما يجعل قيمة المؤشر عالية وموجبة، أي أن الحافز للمشاركة كبير. وفيما يخص الجزاء والعقاب فإن الجزاء كبير في حال المشاركة والعقاب كبير في حال الهرب، مما يزيد من قيمة المؤشر الموجبة وبالتالي من حافز المشاركة. ويتأتى ذلك من تنظيم وتلاحم الجماعة الحاملة لهذين النوعين من التدين، وبالتالي زيادة الرقابة على الأفراد وإيلاء الانضباط والانصياع للقيم المعيارية أهمية كبيرة.

 

أما إذا اعتمد هذان النمطان صياغة الفتنة والخروج على الحاكم فإن المنفعة صفرية في حال النجاح وعالية في حال الفشل (مؤشر سالب)، والمضرة عالية في حال النجاح وصفرية في حال الفشل (مؤشر سالب)؛ أي أن مؤشر المشاركة يشير نحو التثبيط عن المشاركة وهو ما رأيناه في حال سعيد رمضان البوطي ومدرسته ومن شابههم في التفكير. التدين الجهادي هنا أيضاً يدفع نحو الانتظار لأن المنفعة لا تأتي إلا بشكل واحد وبطريقة واحدة لا تمثلها الثورة السلمية. هنا أيضاً الجزاء والعقاب كبيران بسبب التنظيم والانضباط والرقابة، مما يزيد من القيمة السالبة للمؤشر وبالتالي التثبيط.

 

النقاش السابق يشرح دور التدين بأنماطه المختلفة في صنع قرار المتظاهرين الأوائل في الخروج للتظاهر، أي الأفكار التي دارت في خلد الأشخاص الذين نظروا إلى الخروج يوم الخامس عشر من آذار عام 2011 في دمشق أو يوم الثامن عشر من آذار 2011 في درعا كخيار مطروح ومحتمل. الكاتب وباحثون آخرون أجروا مقابلات مع العديد من المشاركين الأوائل في التظاهرات. خلال هذه المقابلات كان من الواضح أن قرار المشاركة كان قراراً فردياً وجمعياً في الوقت نفسه. القرارات الفردية بالمشاركة نحت منحى النموذج الفردي العقلاني إلى حد كبير مع تضخيم دور التضحية الفردية من أجل تحقيق المنفعة الجمعية أو التقليل من أهمية الضرر الفردي مقابل احتمال النجاح الجمعي. أما القرارات الجمعية بالمشاركة في التظاهرات الأولى فإن سيناريو تعميم النجاح يشرح معظمها. الشروط الأربعة كانت محققة وتصوّر المستقبل بعد النجاح لابد جعل المشاركين سكارى، خاصة بعد نجاح الثورة المصرية والتدخل الدولي في الثورة الليبية مما عزز من احتمالات النجاح في نظر كثير من المشاركين الأوائل.

 

الليلة السابقة لأول تظاهرة كانت مليئة بالنقاش بين أفراد وجماعات من الأصدقاء وأهل الحارة في طول سوريا وعرضها. المقابلات التي أجريت مع المشاركين تشير إلى أن هذه الاجتماعات كانت عقلانية هادئة حيث تكلم العديد عن احتمالات الفشل وعن الأضرار الفردية الجسيمة التي يمكن أن تنجم عن المشاركة. وحاولت المداخلات الفردية العديدة تثبيط الآخرين عن الخروج مع التأكيد على النية الفردية في الخروج في اليوم التالي، وكذلك التأكيد على الامتناع عن معاقبة الهاربين، أي أن الرسالة كانت “أنا سأشارك غداً ولكني لن ألوم أحداً إذا لم تشاركوا”. رغم الخطاب الفردي والعقلاني إلا أننا نعتقد بأن التجمع والنقاش دفعا باتجاه قرار جمعي، وهذه هي الحقيقة التي رآها الجميع لكن أحد لم يتكلم عنها. الرغبة الفردية بالتضحية من أجل الجماعة كانت واضحة، ومحاولة تثبيط الآخرين كانت لدفع الإحساس بالذنب في حال وقوع ضرر جسدي للآخرين، لكن الضرر الجسدي للنفس كان مهملاً تماماً. وهذا ما أعطى رسالة للجميع بأن الجميع مستعد للتضحية الفردية في سبيل منفعة الجماعة. تلك الليلة لم يكن هناك قرار جمعي معلَن بالمشاركة لكن كان هناك قراراً مبطناً. وفي اليوم التالي التقى كل المشاركين في اجتماع الليلة السابقة في أول مظاهرة. وهذا يدعونا إلى القول بأن القرار كان جمعياً لكن غير معلن، الاجتماع لم يكن لكسر حاجز الخوف وإنما لكسر حاجز الإحساس بالذنب بتوريط الجماعة في مغامرة قد تكون فاشلة وللتأكيد على أن الجماعة لن تعاقب أو تثيب أحداً.

 

كلما زاد عمر المشاركين المحتملين كلما أصبحت المحاكمة الفردية أكثر عقلانية وطغت المنفعة الفردية أو الضرر الفردي وكانت النتيجة التثبيط والإحجام عن المشاركة ومحاولة إقناع الآخرين بعدم جدوى المشاركة. إضافة إلى ذلك فإن من عايش عقد الثمانينات (أي كان مراهقاً فأكبر وقتها، وناهز الخمسين فأكبر عام 2011) ضخّم من حجم الخسائر في حال الفشل وقلّل من احتمال النجاح بسبب حاجز الخوف الشديد نتيجة معاناة الخوف في الثمانينات. أما الأصغر سناً فكان التفاؤل والتقليل من احتمال الفشل والاستخفاف بحاجز الخزف سمتهم الملحوظة. ولا علاقة لهذا بالتدين وإنما تشرحه الفجوة في تجربة الأجيال.

 

مع حلول ليل جمعة الخامس والعشرين من آذار كان من الواضح للجميع بأن المظاهرات ستستمر. بين هذا التاريخ وبين الشهر الثامن من عام، حين نجح النظام في محاصرة الأحياء ونشر القناصة والتعرف على القياديين وإلقاء القبض على بعضهم وقتل بعضهم الآخر واختباء أو فرار الآخرين، كيف يمكن تفسير استمرار التظاهرات؟ وهل كان للتدين بأنماطه المختلفة دور في استمرار التظاهرات؟ وما هو هذا الدور؟

 

التدين واستمرار الثورة السلمية

خلال هذه الفترة السلمية (الأشهر الخمسة الأولى) اقتصر التظاهر على أيام الجمع، خاصة المظاهرات الجماهيرية الحاشدة. كما توطدت سمات وأدوات مثل الخروج من المساجد، استخدام التكبير كهتاف، إطلاق صفة الشهداء على الضحايا، الخطب الحماسية في المساجد، صعود نجم الشيخ عدنان العرعور وخطابه الطائفي، تسريب فيديوهات طائفية لجنود النظام يتكلمون اللهجة العلوية ويهينون المساجد والقرآن، استهداف النظام للمساجد، تأكيد النظام على أن الثورة من عمل مندسين وجماعات مسلحة سلفية جهادية تستهدف الأقليات وخاصة الأقلية العلوية. هذه السمات والتي لها طابع ديني طائفي ليست هي السمات الوحيدة للثورة السلمية، لكنها مؤشرات على وجود نمط أو عدة أنماط من التدين في تجربة الثورة السورية السلمية. فما هو دور التدين في استمرار الثورة السلمية؟ لا نحتاج إلى نماذج جديدة لاتخاذ قرار بالمشاركة في الثورة، فالنماذج السابقة الذكر يمكن أن تبقى ذات قوة تفسيرية في حال مناقشة استمرار المشاركة. لكن متى تعجز هذه النماذج عن تفسير المشاركة ولماذا؟

 

كان قرار الاستمرار جمعياً (نموذج القرار الجمعي) بامتياز وطغى عليه سيناريو تعميم النجاح الجمعي، لكن مع مرور الزمن وزيادة القمع طغى سيناريو تعميم الفشل الجمعي. جادلنا أعلاه بأن أنماط التدين الشعبي والملتزم والسياسي تدفع باتجاه المشاركة، بينما يلعب التدين الهوياتي دوراً حيادياً (حاملو هذا النمط اعتمدوا على صياغات أخرى غير دينية للمنفعة والمضرة). الصياغة الدينية للمنفعة أو المضرة استمرت على حالها خلال الأشهر الأولى. سيناريو تعميم النجاح الجمعي يؤكد أن التفاؤل بنجاح الثورة وحجم المنفعة الجمعية المتوقعة من هذا النجاح يدفع الناس إلى المشاركة. هذا القرار تم اتخاذه مساء كل يوم سبق خروج المتظاهرين، وتم التحضير له في الاجتماعات والمناقشات والمداولات المتكررة على طول سوريا وعرضها أثناء الأيام الستة السابقة لأي يوم تظاهر (يوم الجمعة). الشروط الأربعة لا تزال محققة، لا بل تعزز الإيمان بها مع كل مظاهرة ومع كل اعتقال ومع كل قمع جماعي مارسه النظام. (دوام الحال) تعنّت النظام وعدم استجابته لأية مطالب عزّز الإيمان بأن الحال ستدوم على ما هي عليه ولن تتغير إلا بثورة عارمة. التأكيد الفردي على التضحية دفع إلى الخروج في اليوم الأول، وفي التظاهرات التالية أصبحت التضحية الفردية والجمعية مشهداً يومياً. أخبرني أحد المشاركين في مظاهرات دمشق الأولى أن قوات الأمن أحاطت به وأخذ ما لا يقل عن ستة جنود وعناصر أمن يضربونه ويركلونه، وعندما نظر حوله رأى حلقات مشابهة في وسطها متظاهرون يتعرضون للضرب. المضروب في إحدى الحلقات نظر إلى صاحبنا وابتسم وهو يتلقى الركلات، فرد صاحبنا الابتسامة. عندها، قال المتظاهر، “بأن إحساسه بالألم توقف وبات يسبح في فضاء شبه حالم لا مكان فيه للخوف”. مادام شريكي في الثورة يضحي ولا يأبه فأقل ما يمكن أن أفعله هو مقابلة التضحية بتضحية مماثلة؛ هذا كان لسان حاله الذي لم يعبر عنه بكلمات. (جدوى الفعل الجمعي) جميع المشاركين الأوائل أكدوا أنه كان لديهم شبهات بأن الثورة قد تخمد، لكن مع كل اجتماع ومع كل احتكاك بمشاركين متحمسين آخرين ومع كل مشاركة جديدة في أماكن أخرى من سوريا تعزّز الإيمان بجدوى التظاهر. الفعل الجمعي، التظاهر والنقاش واجتماعات التحضير، حسب ما وصفه عدد من المشاركين الأوائل كان حالة من النشوة الجماعية؛ نشوة عارمة تجذب الإنسان يوماً بعد يوم إلى الخروج وكأنه مدمن على التظاهر. في هذه الحالة الحساب بسيط جداً، الجماعة مارد خرج من قمقمه ولن يعود إليه وسيحقق كل أهدافه. المنفعة الشعورية التي يستخدمها التدين الشعبي في حساب جدوى المشاركة وفرص النجاح تحققت. (الطريق المسدود) طريق النظام إلى تغيير نفسه مسدود لكن طريق الثورة كان مفتوحاً. هنا الطريق المسدود لم يعد يشير إلى الحالة السابقة للثورة وإنما إلى المستقبل. قمع النظام كان شديداً واختلف حسب المناطق في البداية لكن بعد عدة أسابيع أصبح قمعاً معمماً بوسائله وحجمه. إذا خفف النظام من قمعه استنتج المتظاهرون أنه يتزعزع ويضعف، وإذا زاد من قمعه تأكدوا أن لا مجال للعودة لأن النظام سيكون لهم بالمرصاد. أصبح التظاهر استراتيجية هجومية لزعزعة النظام ودفاعية لردعه عن ملاحقة المتظاهرين في الحاضر ومنعه منعاً كاملاً في المستقبل. لقد أصبح استمرار الثورة ونجاحها ضرورةً وجودية. هذا هو الطريق المسدود الجديد. (الهوية الجمعية) من كان يقف على الهامش متفرجاً متردداً نزل لاحقاً إلى الشارع للتظاهر، ومن كان خائفاً لم يشارك لكن كان مؤيداً للمتظاهرين، ومن عادى التظاهر اختفى أو أعلن ولاءه للنظام. الاستقطاب حصل، والانتماء إلى جماعة المضطهَدين أصبح واضح المعالم وعلنياً.

 

قبل أن نتكلم عن تطور مفهوم الهوية خلال الأشهر الأولى، لا بد من التوقف عند ممارسة فعل الثورة وذلك لأن هذه الهوية ستتطور من خلال هذه الممارسة. دور التدين في التظاهر، أي الممارسة، أصبح يزداد يوماً بعد يوم. وليس هذا ما يسميه البعض “أسلمة الثورة” (سنتحدث عن هذا لاحقاً)، لكنه نتيجة طبيعية للثقافة العامة السائدة في المجتمع. إن صياغة المطالب، وهي المعبرة عن أهداف ورؤية المتظاهرين للمنفعة الجمعية، لم تتغير وبقيت علمانية بمعنى أنها بقيت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية: وقف الفساد، وقف القمع، إطلاق سراح المعتقلين، تفعيل الحقوق الدستورية، وإقامة انتخابات حرة. لكن الممارسة اليومية لفعل التظاهر والخطاب اليومي المستخدَم لرفع المعنويات وحشد الجهود جمعا معاً الديني والوطني بوتيرة متزايدة. ارتكزت الهتافات في البداية على التكبير وهتاف “الله سوريا حرية وبس”. وفي هذا الهتاف الأخير يجمع الهاتفون بين الإله والوطن وأساس الحياة الاجتماعية أي الحرية. وقد لا يكون الأصل في هذا الهتاف أكثر من مجر رد على هتاف سابق للثورة تفتقت عنه أجهزة دعاية النظام، ألا وهو هتاف “الله سوريا بشار وبس”، لكن الحفاظ على عنصري الإله والوطن في الهتاف له دلالاته. يذكرنا هذا الهتاف بظاهرة أمريكية تسمى بالدين الوطني (أو الوطنية الدينية) حيث يختلط الله بالوطن وتصبح الوطنية طقساً من الطقوس الدينية، ويتحول الدين إلى صلوات تدعو الله إلى مباركة الوطن والدولة. وليس هذا بعيداً عن المفهوم الإسلامي للدولة كمؤسسة بسيطة (حاكم وحاشية وبضعة دواوين بيروقراطية) هدفها تطبيق الشريعة، يرأسها مندوب الإله أو مندوبه على الأرض، أي الخليفة؛ والدعاء للخلفاء والأمراء من على المنابر بعد الصلوات عادة قديمة قدم الإسلام نفسه ولعلها أقدم. إن جمع الله والوطن في مرتكزات الجماعة يدل على وجود مكون سياسي في التدين الشعبي في سوريا. في الحقيقة فإن تصوّر النظام للجماعة على أنها قائمة على ركائز ثلاثة هي الله والوطن والرئيس ليس غريباً تماماً عن التصور الإسلامي للجماعة، والتي ترتكز على الله والوطن (النفس والممتلكات والعرض) والحاكم المسلم. ويمكن التساؤل، هل كانت الثورة ستكون ممكنة لوكان بشار الأسد، الحاكم الظالم، مسلماً سنياً؟!

 

مع كسر حاجز الخوف وتواتر المظاهرات وتزايد القمع تطورت الهتافات لكنها احتفظت بنسبة معتبرة من المصطلحات والإيحاءات الدينية مثل التشديد على شهادة الضحايا ودخولهم جنات الخلد (مثل “عالجنة رايحين شهداء بالملايين”، “لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله”)، والتركيز على التضحية الجسدية على منوال الشهادة (مثل “بالروح بالدم نفديك يا شهيد”)، والربط بين النظام وأعداء الله (“لا إله إلا الله وبشار عدو الله”، هذا الشعار كان أقل انتشاراً من الشعارات السابقة). الموت كان حاضراً بشدة بسبب قمع النظام، وبالمقابل كانت الصياغة الدينية للموت حاضرة أيضاً، أي التضحية والشهادة. الرمزية هنا قوية جداً، فالموت يصبح حياة لأنه تضحية من أجل الجماعة واستمرارها ولأن ضحية الموت يصبح شهيداً (أي حبيب الله) يعيش في جنة الإله حياة أبدية. لا يعني هذا أن الدين كان المؤثر الوحيد على الهتافات، لكن وجوده، مقترناً أو غير مقترن بالوطنية، مؤشر على الأثر المستقبلي للتدين في تغيير شكل وطبيعة الثورة السورية (8). إن تخلي النظام عن كل الخيارات المتاحة للتعامل مع الثورة واقتصاره على العقاب الجسدي والقتل، قابله عند المتظاهرين اختزال لممارسة الثورة، أي التظاهر، “بمشية نحو الجنة”، ليس كأحياء يسيرون نحو جنة أرضية بل كأموات-أحياء (أي شهداء) يسيرون نحو جنة أخروية. إنه اختزال قاتم يدل على تضحية عظيمة جمعية (بالملايين)، لكنها عدمية لأنها بمليونيتها تعني انتهاء الجماعة الدنيوية واستبدالها بجماعة متخيّلة أخروية من الشهداء الأبرار. إن هذا الهتاف إعادة صياغة لمفهوم نجاح الثورة (المنفعة) وتحويله من نجاح دنيوي أساسه الحياة الرغيدة إلى نجاح أخروي أساسه الحياة الأبدية في الجنة؛ لكن الحساب لا يزال قائماً ويشير باتجاه المشاركة. إن اختزال النظام في آلة للموت، واختزال الثورة بمشية نحو الموت، واختزال المنفعة بنجاح أخروي تزامن مع اختزال لمطالب المظاهرات “بإسقاط النظام”. لاحقاً ومع انتشار العنف، تم اختزال الممارسة الثورية بالقتال، بالتوازي مع تحوّل الهدف والمنفعة إلى هدف ديني بحت وحيد البعد، “ما خرجنا إلا لنصرة هذا الدين”. ولا نقول هنا بأن أسلمة الثورة كانت قدراً لا مهرب منه، على العكس، لكن الجو العام للثورة بعد عدة أشهر من القمع كان يسير باتجاه تزايد دور التدين في تصوّر الثورة كخطاب وممارسة وأهداف وحتى في إعادة تصوّر أسبابها.

 

كان خيار المساجد في البداية كنقطة لانطلاق التظاهر خياراً تكتيكياً وذلك لأن قانون الطوارئ يحظر كل التجمعات عدا صلاة الجماعة في المسجد وخاصة صلاة الجمعة. إن أي تجمع آخر سيشي بنية المجتمعين بالتظاهر وستتم تفرقته بسرعة. أما صلاة الجمعة فيمكن استخدامها كغطاء للتجمع ثم قلبها لاحقاً عند الخروج إلى تظاهرة. عملية القلب لم تكن مضمونة كل أسبوع فكثير من المصلين كانوا في المسجد للصلاة وليس للتظاهر، ولم يكن من المنطقي والأخلاقي تعريضهم لخطر آلة النظام القمعية. تحويل تجمع الصلاة إلى مظاهرة كان غالباً ما يكون في باحة الجامع وحين يتأكد المحرّضون والمشارِكون من وجود عدد لا بأس به من المشاركين المحتملين يمكن معه تخطي الكتلة الحرجة. لكن مع استمرار الثورة وازدياد قمع النظام أصبح الخروج من المسجد ضرورة. الناس لا تستطيع التظاهر إلا يوم الجمعة بسبب أعمالها وحاجتها للتكسب، وأزلام النظام في كل مكان مما يجعل أي تجمع مستحيلاً. فإما أن يجابه المتظاهرون قوات الأمن ويطردوهم من الحي مفسحين المجال للتجمع عند الرغبة، وإما أن ينتظروا يوم الجمعة ويعتمدوا بشكل رئيسي على الخروج من المسجد. ممارسة فعل الثورة أصبحت مرتبطة أكثر فأكثر بالمسجد. مع كل شهيد يعود المصلون إلى المسجد ويعود معهم المتظاهرون؛ ومع كل إمام وخطيب يلتحق بالثورة بسبب مكانته وتخصصه (القيادة والخطابة) يتجمع المشاركون في المسجد ليتزودوا بالحماسة والإيمان بالنصر (الرضى الإلهي) والحصانة ضد الموت (الشهادة)؛ ومع كل تكبيرة يزداد تعلّق المتظاهرين بالقوة الإلهية كمحرك وصانع للنصر؛ ومع كل ظهور للشيخ العرعور على قناة وصال الفضائية تزداد كثافة المفردات والعبارات والإيحاءات والرموز الدينية ويزداد ظهور رجال الدين كقادة فعليين أو روحيين للمتظاهرين.

 

إذا حرص الشيخ العرعور في البداية على تجنّب الخطاب الطائفي، فإن النظام أصرّ على التأكيد على أن ظهور العرعور وشعبيته وحدهما دليل على دينية الثورة (الهوية الجمعية). كان النظام بحاجة إلى أن تصبح الثورة دينية من أجل أن يعيد إلى أذهان مناصريه المستهدَفين بدعايته (أي العلويين والمسيحيين) أجواء الثمانينات، وبالتالي القناعة التي لا تقبل الشك بأن الأقليات تواجه وحشاً، أي الأغلبية، حرّضه التدين وأعماه التعصب. في الحقيقة فإن نمو وتبلور الهوية العلوية كهوية اجتماعية-سياسية (حول النظام) ونجاح النظام في تفعيلها عن طريق الخوف هو ما دفع هوية المتظاهرين إلى التبلور حول المكوّن الديني الطائفي أيضاً (الهوية السنية). ولا نزعم بأنه لم يكن هناك عند المتظاهرين الأوائل ومن شجعهم ودعمهم تصوّر لهوية الجماعة المضطهدَة كهوية دينية. لكن الهتافات والمطالب والخطاب العام الأولي للثورة لم يشي بهوية سنية متبلورة. بعد عدة أسابيع من التظاهر والقمع، من كان يقف على الهامش متفرجاً متردداً نزل إلى الشارع للتظاهر، ومن كان خائفاً ولم يشارك أصبح مؤيداً للمتظاهرين، ومن عادى التظاهر اختفى أو أعلن ولاءه للنظام. الانتماء إلى جماعة المضطهَدين أصبح واضح المعالم وعلنياً. المشاركة والمناصرة رسمت حدود الجماعة الثائرة المضطهَدة، والمشاركة في القمع والتشكيك والاتهام بالخيانة رسم حدود الجماعة الظالمة المضطهِدة. الفيديوهات التي تعمّد النظام تسريبها، والتي تظهِر جنوداً يوحون بأنهم علويون يدوسون المصحف ويشتمون الرب ويسخرون من صلاة “العراعير”، وضّحت للمضطهَدين سمات الهوية السنية التي يجب عليهم أن يتمسكوا بها.

إنها هوية بالتضاد، العلوي يشتم الرب ويحتقر القرآن ويدمر المساجد، وبالتالي السني يرفع صوته بالتكبير ويتمسك بالقرآن ويلتزم بالخروج من المساجد. أبنية المخابرات أصبحت مآوي العلويين والمساجد أصبحت مآوي السنة. البندقية أصبحت أداة العلويين والتظاهر أصبح أداة السنة (لاحقاً الجهاد). الخضوع الكامل أصبح مطلب العلويين، وإسقاط النظام بكل أشكاله أصبح مطلب السنة. دور الضحية أصبح الدور السني بامتياز في الحرب اللاحقة، ودور المتسلط الجبار أصبح الدور العلوي بامتياز (الأسد أو نحرق البلد). كان يكفي لأي مجادِل يؤكد طائفية النظام أن يشير إلى أن كل المناطق الثائرة سنية (أصبحت سنية) وأن كل الضحايا من السنة (ضحايا القمع وليس قتلى الجيش والمخابرات) لكي يكسب جولة المناظرة وليؤكد بالتالي على تماهي الجماعة المضطهَدة مع السنة والجماعة المضطهِدة مع العلويين. طبعاً كان من الممكن تفنيد هذه الحجة بالإشارة إلى أن الشبيحة في حلب أغلبهم من السنة، وإلى أن الميسورين في المدن الكبرى، وأغلبيتهم سنة، لم يخرجوا ضد النظام، وأن شريحة كاملة من مشايخ السنة أعلنوا الثورة فتنة وخروجاً على الحاكم. هذه الحجة ضعفت يوماً بعد يوم أمام تدمير المساجد وطغيان مفهوم الشهادة وزيادة عدد المشاركين في العنف المضاد واعتماد هؤلاء لخطاب ديني (طوعاً أم كرهاً، النتيجة لا تتغير). لكن وحتى بعد سبع سنوات من بدأ الثورة السورية لا يتماهى المنتمون إلى الثورة كلهم مع هوية سنية (حتى وإن انتموا إلى الفئة السنية) ولا يمكن إغفال الهوية السنية لكثير من مناصري النظام، ولا يزال بالإمكان المجادلة بأن الحرب في سوريا ليست كلها حرب هويات طائفية.

 

يجدر الذكر بأن التدين الملتزم دخل في مرحلة شك بسبب حساب المضَرة، وما أدى إليه من تثبيط، الذي تزعمه سعيد رمضان البوطي. الكثير من الملتزمين المشاركين في الثورة لم يستطيعوا شتم البوطي أو الدعاء عليه، واقتصروا بأن دعوا الله بأن يهديه إلى سواء السبيل. فهل يا ترى كان بقاء البوطي ضرورياً ليحاول جذب الملتزمين المشاركين إلى معسكر غير المشاركين، إن لم يكن إلى معسكر الموالي. في الحقيقة جذب مزيد من الموالين من السنة لم يكن حرجاً للنظام لأن معظم الملتزمين ينتمون إلى أوساط مدينية، وهذه الأوساط كانت حذرة من الانخراط الكامل في الثورة (لا بل بقيت فئاتها الميسورة موالية للنظام) التي طغى عليها انخراط الأرياف والمدن التي كانت أريافاً منذ ماض قريب. أما التخلص من البوطي فكان سيقضي على بذرة الشك عند بعض الملتزمين وسيدفعهم بالكامل إلى أحضان الثورة. هؤلاء يشكلون كتلة حرجة في أسلمة الثورة أي أسلمة الخطاب والأهداف والممارسات وهذا بالضبط ما كان النظام بحاجة إليه من أجل سد طريق العودة على العلويين والأقليات الأخرى المتخوفة من ثورة سنية. إن ولاء هؤلاء كجنود عند النظام أعلى قيمة من ولاء ملتزمين سنة لن ينخرطوا في صفوف الجيش والأمن من أجل الدفاع عن النظام. إذن هل قتل النظام البوطي أم قتله الثوار المتأسلمون المشجعون للعنف؟ لا نعرف، لكن نعتقد بأن قتله ساهم في أسلمة الثورة وهذا ما أراده النظام وأطراف أخرى سنفصلها في الحلقة الثانية.

الهوامش :

7- رايناود ليندرز وستيفن هايدمان. “الحشد الشعبي في سوريا: الفرصة والتهديد، وشبكات الممنتفضين المبكرين الإجتماعية. ترجمة أحمد نظير الأتاسي. ظهرت على موقع معهد العالم للدراسات في 4 نيسان 2017.

8- طبعاً لا يجب أن نغفل مؤثرات أخرى غير الدين في الهتافات مثل الرياضة (“علّي الطير على الطير باي باي يا بشار تصبح على خير”، “بسيطة شو فيها الجمعة منكفيها”) وسجعات ألعاب الأطفال (“يا حج محمد يويا”، “يا بشار ويا قيقة ياصرماية عتيقة”)، خاصة في مدينة حمص المعروفة بهوسها بفريق الكرامة لكرة القدم. هناك أيضاً مؤثر العادات والتقاليد كما في ربط الجبن عن التظاهر بالتشبه بالنساء (كما في نكتة “النساء لا يغطين شعورهن في حلب لأن البلد كلها حريم”) وكما في شعار جمعة الحرائر (“من كرامتنا وأعراضنا سنثور”) الذي لا ذكر فيه للنساء المعتقلات والمستهدفات بالقمع إلا من خلال كرامة رجالهن وأعراضهم.

  • Social Links:

Leave a Reply