لماذا تحتاج الطبقة الرأسمالية إلى استئجار العمال؟ كلنا يعلم أن السبب ليس على الإطلاق لان أصحاب المعامل يريدون إطعام العمال الجياع، وإنما لأنهم يريدون جني الأرباح بواسطتهم. من أجل الربح، يبني صاحب المعمل معمله. من أجل الربح، يشغل العمال عنده. من أجل الربح، يبحث عن الأسواق التي تدفع لسلعه أعلى الأسعار. الربح هو محرك كل أعماله. هنا نكتشف صفة مثيرة من صفات المجتمع الرأسمالي. فهذا المجتمع لا ينتج الأشياء المفيدة والضرورية له، بل أن الطبقة الرأسمالية تجبر العمال على إنتاج السلع التي تأتي بأغلى الأسعار، السلع التي يجني الرأسماليون منها أكبر قدر من ممكن من الأرباح. المشروبات الروحية، مثلا، مادة مضرّة جدا بالصحة، يجب إنتاجها فقط لأغراض تقنية أو لاستخدامها في صنع الأدوية. لكن الرأسماليين ينتجون المشروبات الكحولية في طول العالم وعرضه بكل ما أوتوا من حماس وزخم. لماذا؟ لان إغراق الناس بالشرب تجارة رابحة.
يجب أن نوضح الآن كيف يتكوّن الربح. ولهذا السبب، يجب أن ننظر إلى المسألة بالتفصيل. الرأسمالي يحصّل الربح على شكل مبلغ مالي عندما يبيع السلع التي أنتجها معمله. ما هو مبلغ المال الذي يحصل عليه من بيع سلعه؟ يتوقف هذا المبلغ على السعر. كيف يتحدد السعر؟ ولماذا تباع سلعة بسعر منخفض بينما تباع أخرى بسعر مرتفع؟ الجواب ليس صعبا. إذا دخلت الآلة إلى أحد فروع الإنتاج واستخدام العمل بطريقة مجدية (أي إذا كان العمل منتجا، كما يقال) ينخفض سعر السلعة. أما إذا كان الإنتاج صعبا وكمية السلع المصنوعة قليلة وإذا فشل صاحب العمل في استخدام العمل بنجاح، أي إذا لم يكن العمل منتجا بالدرجة المطلوبة، يرتفع سعر السلعة.
إذا اضطر المجتمع إلى بذل ما يزيد عن المعدل من العمل لإنتاج سلعة معينة، يرتفع سعر هذه السلعة. أما إذا انخفض هذا المعدل، ينخفض سعر السلعة. لنفترض أن فاعلية الصناعة متوسطة، أي أن الآلات والأدوات ليست أفضل الآلات والأدوات الموجودة، ولا هي أسواها. هنا نسمي كمية العمل الاجتماعي الضرورية لإنتاج سلعة معينة قيمة تلك السلعة. إذن، السعر يتوقف على القيمة. والواقع أن السعر قد يزيد أو ينقص عن القيمة. ولكن يمكننا –توخيا للبساطة- أن نعتبره مساويا للقيمة.
لنتذكر الآن ما قلناه سابقا عن العمال المأجورين. أن استخدام عامل يعني بيع سلعة معينة. وهذه السلعة اسمها «قوة العمل». عندما تصبح قوة العمل سلعة، ينطبق عليها ما ينطبق على السلع الأخرى. وعندما يستخدم الرأسمالي العامل، يدفع له سعر قوة عمله (أو فلنقل أنه يدفع له قيمة قوة عمله، توخيا البساطة هنا أيضا). ولكن كيف تتحدد هذه القيمة؟ قلنا أن الذي يحدد قيمة السلع –كل السلع- هو كمية العمل المبذولة لإنتاجها. هذا القول ذاته ينطبق على قوة العمل.
ما الذي نعنيه بإنتاج قوة العمل؟ قطعا، لا يجري إنتاج قوة العمل في المصنع، مثلما يجري إنتاج دهان الأحذية والنسيج والآلات. كيف نفسِّر إذن إنتاج قوة العمل؟ لكي نفسرها، يكفي أن نلقي نظرة إلى الحياة اليومية في ظل الرأسمالية. ها هم العمال قد انتهوا من عملهم. إنهم منهكون. لقد استنفذوا كل نشاطهم، وهم لا يستطيعون بذل المزيد من العمل. قوة عملهم مستنفذة تقريبا. ماذا يحتاجون لكي يجددوا قوة عملهم؟ إنهم يحتاجون إلى الطعام والراحة والنوم، فتعود إليهم قوتهم. هكذا تتجدد قوة عملهم. وهذا يعني أن الطعام والكساء والسكن –باختصار، الحاجيات الضرورية التي يحتاجها العامل –تؤثر على إنتاج قوة عمله. ولكن لا يجوز أن ننسى العوامل الإضافية التي تدخل في إنتاج قوة العمل، كنفقات تدريب العمال عندما يكون المصنع بحاجة لعمال مهرة، على سبيل المثال.
كل ما تستهلكه الطبقة العاملة لتستعيد قوة عملها له قيمة. ولهذا السبب، فقيمة قوة العمل = قيمة الحاجيات الاستهلاكية + نفقات التدريب والتأجيل. السلع المختلفة لها قيمة عمل مختلفة. وكل نوع من أنواع قوة العمل له قيمته الخاصة به. قيمة قوة عمل عامل الصف في المطبعة مختلفة عن قيمة قوة عمل العامل غير الماهر.
ونعود إلى المصنع. الرأسمالي يشتري المواد الأولية والمحروقات والآلات والزيوت والضروريات الأخرى. ثم يشتري قوة العمل، أي يستخدم «اليد العاملة». وهو يدفع ثمن كل هذه المشتريات نقدا. ويبدأ الإنتاج. العمال يعملون. الدواليب تدور. المحروقات تحترق. الشحم يستهلك. أبنية المصنع تبلى. قوة العمل تستنفذ. نتيجة ذلك، ينتج المصنع سلعة جديدة. ولهذه السلعة قيمة كما لغيرها من السلع. فما هي قيمتها؟ أولا، امتصت هذه السلعة قيمة وسائل الإنتاج المستهلكة –المواد الأولية، المحروقات المستهلكة، الآلات البالية، وغيرها. قيمة كل هذه تحولت إلى قيمة السلعة نفسها. ثانيا، أضيف على قيمة السلعة قيمة أخرى هي عمل العمال. إذا كان عدد العمال 30 عاملا، وإذا صرفوا 30 ساعة عمل لإنتاج هذه السلعة، يكونون قد بذلوا ما مجموعه 900 ساعة عمل. ويكون مجمل قيمة المنتوج هو قيمة المواد المستخدمة في إنتاجه (ولنفترض أن قيمتها تساوي 600 ساعة عمل) بالإضافة إلى القيمة الجديدة التي أضافها العمال للمنتوج بواسطة عملهم، وهي 900 ساعة. مجموع قيمة هذه السلعة إذن هو 600 + 900 = 1500 ساعة عمل.
لكن، ما هو المبلغ الفعلي الذي دفعه الرأسمالي كثمن لهذه السلعة؟ لقد دفع كامل ثمن المواد الأولية، أي أنه دفع مبلغا من المال يساوي قيمة 600 ساعة عمل. ما الذي دفعه كثمن لقوة العمل؟ هل دفع قيمة الـ 900 ساعة كاملة؟ هنا مفتاح السر. لقد افترضنا أن الرأسمالي دفع كامل قيمة قوة العمل. إذا عمل 30 عاملا خلال 30 ساعة –أو خلال ثلاثة أيام على أساس 10 ساعات في اليوم- يكون صاحب المعمل قد دفع لهم المبلغ المطلوب لاستعادة قوة عملهم خلال تلك الأيام الثلاثة. ما هو هذا المبلغ؟ الجواب واضح: إنه أقل من 900. لماذا؟ لأن كمية العمل المطلوبة لتجديد قوة عمل العامل شيء، وكمية العمل التي يستطيع هذا العامل أن يبذلها شيء آخر. أستطيع أن أعمل 10 ساعات في اليوم. ولكن، لكي أحصل على حاجتي اليومية من الطعام والكساء وسواهما، فإن كل ما احتاجه من حاجيات تساوي قيمته الإجمالية 5 ساعات عمل. هذا يعني أنني أستطيع أن أقدم من العمل ما يزيد عما هو ضروري لتجديد قوة عملي.
لنعد إلى المثال لذي انطلقنا منه. العمال يستهلكون من الطعام والكساء، وما شابه خلال ثلاثة أيام ما قيمته 450 ساعة عمل من الحاجيات. لكنهم يقدمون 900 ساعة عمل في المقابل. هكذا يبقى للرأسمالي 450 ساعة تشكل مصدر ربحه. والواقع أن السلعة كلفت الرأسمالي 600 + 450 = 1050 ساعة عمل. لكنه يبيعها لقاء قيمة قدرها 600+ 900 = 1500 ساعة عمل. الفارق بين الاثنين –أي 450 ساعة- هو فضل القيمة الذي أنتجته قوة العمل. هذا يعني أن يوم العمل ينقسم إلى نصفين، كل منهما من خمس ساعات. في النصف الأول، يعمل العمال للتعويض عما تلقوه من أجر. وفي النصف الآخر، يعملون للرأسمالي مجانا.
لننظر الآن إلى المجتمع ككل. أن ما يفعله صاحب المصنع الفرد أو العامل الرفد لا يهمن كثيرا. الذي يهمنا هو كيف تعمل الآلة الضخمة المسماة المجتمع الرأسمالي. الطبقة الرأسمالية تستخدم الطبقة العاملة، الأكبر منها بكثير من حيث العدد. وفي ملايين المصانع والمناجم والمقالع وفي الغابات والحقول مئات الملايين من العمال يكدحون كالنمل.
رأس المال يدفع لهم أجورهم، أي قيمة قوة عملهم التي يستعينون بها دائما لتجديد قوة عملهم من أجل الاستمرار في خدمة رأس المال. الطبقة العاملة تنتح أجورها من عملها. وبالإضافة لذلك فهي تخلق مدخول الطبقات العليا، تخلق فضل القيمة. ويتدفق فضل القيمة إلى جيوب طبقة الأسياد عبر ألف وسيلة ووسيلة. قسم يذهب للرأسمالي نفسه على شكل أرباح معملية، وقسم يذهب لمالك الأرض على شكل ريع عقاري. وقسم آخر يدخل خزائن الدولة الرأسمالية. أما الأقسام الأخرى، فتذهب للتجار والباعة وأصحاب الحوانيت، أو تنفق على الكنائس وفي المواخير ولإعالة الممثلين والفنانين والكتاب البرجوازيين. وعلى فضل القيمة الذي ينتجه العمال تعيش كل الحشرات الطفيلية التي يولدها النظام الرأسمالي.
غير أن قسما من فضل القيمة يعاد توظيفه من قبل الرأسماليين، إذ يضيفونه إلى رأسمالهم، فينمو هذا ويتكاثر. وهكذا يوسعون مؤسساتهم ويستخدمون أعدادا إضافية من العمال، ويستجلبون آلات أفضل. والواقع أن زيادة عدد العمال تسمح بإنتاج كمية إضافية من فضل القيمة. وهكذا تتسع المؤسسات الرأسمالية وتتكاثر. ومع كل طلعة شمس، يتقدم رأس المال خطوة جديدة إلى أمام، ويراكم المزيد من فضل القيمة. ويتضخم رأس المال مع امتصاصه لفضل القيمة الذي تنتجه الطبقة العاملة –وهذا ما نسميه استغلال رأس المال للعمال.
Social Links: