صدى الشام- مصطفى محمد، عدنان عبدالله
اتفاقات مُطبقّة.. لكن ليس بحذافيرها
تراهن تركيا على حصول انشقاقات داخل “هيئة تحرير الشام” تعفيها من الدخول في مواجهة شاملة معها، لا سيما أن الهيئة تعد من أشد الفصائل بأساً في القتال وأكثرها تسلحاً، فضلاً عن أنها تملك ميزة معرفة الأرض؛ ما قد يوقع خسائر فادحة بالقوات التركية.
هذه التصورات قدّمها “المركز العربي للأبحاث” الذي اعتبر أن أنقرة تحاول تجنب صدام شامل مع “هيئة تحرير الشام” يؤدي عملياً إلى تحقق المخاوف نفسها التي دفعت تركيا إلى التدخل عسكرياً في إدلب، أي إطلاق موجة نزوح كبيرة باتجاه أراضيها، ودخول مواجهة لمصلحة النظام السوري وحلفائه.
على هذا الأساس لجأت أنقرة إلى التفاوض مع الهيئة بغرض إقناعها بحل نفسها، أو على الأقل إخراجها من المدن، ودفعها بعيداً عن الحدود التركية، وتسليم المعابر الحدودية لقوات المعارضة السورية الحليفة لها. كما قدمت تركيا مقترحاً للهيئة يتضمن الانسحاب من إدلب المدينة مقابل انتشار قوات تركية برفقة عناصر من قوات المعارضة السورية لتحويلها إلى مدينة آمنة، ومنع أي عمليات قصف من طرف الطائرات الروسية، وتلك التابعة لنظام الأسد.
وفي حين لم تظهر مؤشرات على قبول الهيئة بالمقترحات التركية، وتجنب الدخول في معركة شاملة معها ومع فصائل المعارضة التي تدعمها، يغدو نجاح الإستراتيجية التركية كلها هنا محل تساؤل. وحتى تتضح نتيجة المفاوضات مع “هيئة تحرير الشام”، تحاول القوات التركية التركيز في انتشارها حالياً على الحدود بين محافظة إدلب ومنطقة عفرين، لمحاصرة الجيب الكردي وقطع الطريق على احتمال تمدده جنوباً.
وتضع بعض التقديرات عدد عناصر الهيئة بين 20-30 ألف مقاتل. وبرأي رئيس الأمانة العامة لإعلان دمشق، وعضو الائتلاف السوري المعارض سابقاً، سمير نشار، فإننا و” مع هذا العدد الكبير من المقاتلين، ستجد تركيا نفسها أمام مستنقع إن دخلت بقوة السلاح”.
ولا يفوت نشار أن يلمح في حديثه لـ “صدى الشام” إلى عدم تطبيق التفاهمات التركية-الروسية التي تم التوافق عليها في أستانا “بحذافيرها”، ويوضح أن “الخطة تقضي بتدخل تركي مدعوم من فصائل الجيش الحر المشاركة بعملية درع الفرات، للقضاء على هيئة تحرير الشام، وإخضاع مدينة إدلب لاتفاق خفض التصعيد”. ويستدرك، “لكن ما حصل أن تركيا لم تستطع أن تحشد قوات من درع الفرات لتشكيل رأس حربة ضد تحرير الشام، فوجدت نفسها مضطرة لإيجاد صيغة للتفاهم مع الهيئة”.
تقاطعات مصالح
لا يشكل تطويق التحركات الكردية هدفاً أساسياً للفصائل السورية بخلاف الأهداف التركية، بحسب نشار الذي يستدرك قائلاً “لكن الفصائل لا تعارض تحقيق هذا الهدف”. ويضيف ” ليست محاصرة عفرين هي هدف التوافق الروسي التركي فقط الذي دخلت بموجبه القوات التركية إلى إدلب، وإنما هناك هدف أهم هو القضاء على هيئة تحرير الشام”، غير أنه هدف مؤجل، وخصوصاً أن تركيا لم تستطع محاصرة عفرين إلا عبر التفاهم مع تحرير الشام”.
وربط نشار بين الاقتتال الذي دار في منطقة درع الفرات بين فصيلي “الجبهة الشامية”، و”لواء السلطان مراد”، وبين التضارب في المصالح بين تركيا والمعارضة، معتبراً أن القتال “يعكس مستقبل الفصائل ذات التوجهات المستقلة عن التوجه التركي”، واستطرد “من الواضح أن مصير هذه الفصائل مصير الجبهة الشامية، لأن السلطان مراد يمثل النفوذ التركي في المنطقة”، كما قال.
وأكمل متسائلاً “لماذا لم توقف تركيا هذه الاشتباكات على الرغم من تثميننا للدور التركي”.
ويبدو أن ما سبق، من وجهة نظر نشار، أفضى إلى أن يكون شكل العملية كما هو عليه، وقال “للآن لا يبدو القضاء على تحرير الشام هدفاً له أولوية تركية”، متسائلاً “لكن لماذا ستسمح روسيا ومن خلفها إيران والنظام السوري لتركيا بحصار عفرين، وما هو ثمن ذلك؟”.
وتذهب تحليلات إلى القول بأن مصالح دمشق وأنقرة تلتقي لأول مرة منذ اندلاع الصراع. ويظهر ذلك جلياً في هدف إستراتيجي لكلا الطرفين يتلخص بمنع المليشيات الكردية من تحقيق أهدافها بتشكيل (كانتون) شمالي البلاد.
لكن وبالمقابل تحقّق العملية التركية هدفاً غاية في الأهمية ألا وهو منع سيطرة قوات النظام السوري على إدلب؛ إذ قام النظام خلال سنوات من المواجهة مع فصائل المعارضة بنقل كل من كان يرفض الدخول في مصالحات محلية إلى إدلب، وصارت وسائل إعلام النظام وحلفائه تشير إلى إدلب بوصفها إمارة إسلامية. وقد عزز هذا الانطباع سيطرة “هيئة تحرير الشام” على أغلب المحافظة خلال تموز الماضي، بعد مواجهات مع الفصائل المعارضة وعلى رأسها “حركة أحرار الشام”. وكانت إستراتيجية النظام تقوم على تجميع هؤلاء المقاتلين مع عائلاتهم في إدلب، والتفرغ بعد ذلك للقضاء عليهم بمساعدة دولية وإقليمية، على اعتبار أن العالم لن يقبل بوجودهم، وسوف يتم التعامل معهم كما تم التعامل مع تنظيم “داعش”.
ووفقاً لتقديرات “المركز العربي للأبحاث” فقد جاء التدخل العسكري التركي ليلغي احتمال هجوم عسكري لقوات النظام بدعم روسي – إيراني على إدلب، والحفاظ، من ثم، على آخر محافظة تسيطر عليها قوات المعارضة التي شهدت مناطق سيطرتها تراجعاً كبيراً خلال العامين الأخيرين بعد التدخل العسكري الروسي.
في الإتجاه ذاته، رأى نشار أن ما جرى في إدلب أظهر عدم وجود تجربة ناجحة لعمل عسكري معارض موحد من شمال إلى جنوب سوريا، معرباً عن أسفه لعدم امتلاك الفصائل لقرارها، بخلاف جبهة النصرة التي أظهرت مواقف صلبة، واستدرك “لكن هذا لا يعني أن هناك فصائل جيش حر لا زالت تقاتل النظام بحسب قدراتها، في غوطة دمشق وفي ريف حماة الشمالي”. وأضاف “إن الحقيقة المرة تقول إن أغلب فصائل الجنوب ممسوكة من الأردن، وأغلب فصائل الشمال من تركيا، وهي التي شاركت في أستانا”.
وبالبناء على ذلك، يجزم نشار باستفادة جبهة النصرة “كمنظمة متماسكة” من تفكك المعارضة، ويقول “لقد عبّرت النصرة عن جدية في قتال بشار الأسد، رغم أنها لا تؤمن بمشاريع وطنية، وأظهرت استقلالية إلى حد ما، وهو ما أعطاها بعض الخصوصية رغم ممارساتها المتطرفة الغريبة عن المجتمع السوري والإسلام الوسطي”.
على ضفّتين
عاش الشارع السوري تناقضات بين ترحيب شعبي بالتدخل التركي ورفض له على مستويات أخرى. فقد اعتبر البعض أن أنقرة تسعى للتمهيد لحل سياسي، وتحاول إيجاد توافقات، لكن الواقع يفرض عليها حماية الأمن القومي التركي وخاصة في ظل التمدد الكردي. وعلى الضفة الأخرى للمواقف لاقت العملية رفضاً لأسباب مختلفة تتعلق بفكرة وجود قوى أجنبية على أرض سوريا فضلاً عن الحضور والدور الروسي في الاتفاق، في وقت لا تزال فيه المقاتلات الروسية تستهدف السوريين في مدنهم وقراهم.
ويعبّر نشّار عن هذه الحالة بالقول إن “هناك انقسام حادّاً اليوم في الشارع السوري”، ويضيف “البعض من أصحاب التوجهات الإسلامية يدعم التدخل التركي ويجدون لموقفهم المبررات، بينما يرى البعض الآخر أنه مقدمة لفرض سيطرة تركيّة لأمد طويل”.
ويُكمل في السياق ذاته، “هناك مؤشرات كبيرة تقول أن الحكومة التركية تمنع دخول الحكومة المؤقتة وممارسة سيطرتها في منطقة درع الفرات، وبالتالي المنطقة تخضع بشكل مباشر للسيطرة التركية، وهناك مخاوف من تكرر النموذج ذاته في إدلب”.
ومما لا شك فيه بأن الانقسام الشعبي حيال التدخل التركي، امتد لأوساط المعارضة السياسية، وفقاً لنشار الذي قال “المعارضة اليوم في وضع لا تحسد عليه”. وأشار في هذا السياق إلى أن الائتلاف لم يستطع أن يصدر بياناً حتى اليوم يوضح موقفه من اتفاقات أستانا، على الرغم من صياغة مواقف خلال اجتماعات الائتلاف، مؤكداً أن “الموقف بقيَ طيّ الكتمان ولم يخرج للجمهور”، مردفاً “يبدو أن السكوت هو أفضل الخيارات للائتلاف”.
مشكلة واحدة
وحول ربط ما يجري من تطورات عسكرية وسياسية في إقليم كردستان العراق بما يحدث في إدلب، قال نشار “أصبح واضحاً منذ سقوط حلب أن الأولوية التركية في سوريا لم تعد تتعدى سوى محاربة قيام كيان كردي سواء في سوريا أو العراق”.
ومن الواضح- بحسب نشار- أن “المشكلة كردية لتركيا مشكلة واحدة، سواء كانت في العراق أو في سوريا”، مشيراً في هذا الصدد إلى التغير الجذري في موقف الحكومة التركية من حكومة إقليم كردستان العراق، ولفت أيضاً إلى ترحيب الحكومة التركية بالتطورات العسكرية التي جرت في مدينة كركوك قبل أيام.
وتابع قائلاً :”لقد انقلب الموقف التركي حيال كردستان العراق نتيجة للأولويات الجديدة”، وشدّد “ليس لتركيا اليوم هدف سوى منع إقامة كيان كردي على حدودها الجنوبية، في العراق أو سوريا، وبالتالي صار تعاملها مع الجميع مبنياً على هذه الأولوية فقط”.
Social Links: