عامان يُمهّدان لاحتلال قد يمتد إلى نصف قرن 2/3

عامان يُمهّدان لاحتلال قد يمتد إلى نصف قرن 2/3

مركز حرمون للدراسات المعاصرة – وحدة دراسة السياسات 

ثالثًا: قواعد ثابتة وبنى عسكرية دائمة

تمكنت روسيا خلال عامين من جني ثمار عسكرية واستراتيجية واقتصادية، نتيجة تنازل النظام السوري وتسليمها زمام الأمور بإبرامه معها اتفاقيات، هي أقرب ما تكون إلى “اتفاقيات إذعان”، المُعلن منها اتفاقية لإقامة قاعدتين عسكريتين على المتوسط، الأولى جوية في مطار حميميم في محافظة اللاذقية، والثانية بحرية في محافظة طرطوس، وكلاهما لمدة نصف قرن قابلة للتمديد تلقائيًا.

 

وفي الحصيلة الأخيرة، أقامت خلال هذين العامين عدة قواعد عسكرية، بحرية وبرية وجوية. فقد صادق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 على اتفاق بين دمشق وموسكو بشأن نشر قوات جوية روسية في قاعدة حميميم “لفترة غير محددة”، وهي القاعدة التي اعتمدتها روسيا قاعدة رئيسية لها، ولسلاح الجو الروسي الحربي والمروحي، وعززتها بمضادات أرضية (S300)، لتصبح منطلقًا لآلاف الغارات الجوية ضد فصائل المعارضة السورية، والتي تقول إنها تستهدف من ورائها “التنظيمات الإرهابية”، في حين نسبت منظمات حقوقية محلية ودولية عشرات المجازر بين صفوف المدنيين لقواتها. وفي 23 كانون الأول/ ديسمبر 2016، وقّع بوتين أمرًا رئاسيًا يقضي بتوقيع اتفاقية بين روسيا وسورية بشأن توسيع القاعدة البحرية الروسية في طرطوس، غربي سورية، لتأمين احتياجات السفن الحربية الروسية، وهي القاعدة التي كانت تضم بالأساس منشآت عسكرية روسية لصيانة هذه السفن ومركزًا تموينيًا لها. وكانت قد أعلنت قبل ذلك، في 3 كانون الأول/ ديسمبر 2015، عن تجهيز مطار الشعيرات بحمص ليكون قاعدة عسكرية لها أيضًا. كما أعلنت، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، عن تشغيل منظومة صواريخ (إس400) في سورية، تبعها، في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، الإعلان عن نشر أنظمة للدفاع الجوي من طراز (إس300) في محافظة طرطوس.

 

حصلت روسيا من الأسد على تنازلات هائلة من وراء هذه الاتفاقيات، لدرجة أنه لا يُسمح للسلطات السورية، لا الآن ولا في المستقبل، بدخول الأماكن التي ترابط فيها قوات روسية، ولا يخضع الجنود الروس للقوانين السورية، ولا تخضع كل الشحنات الروسية لأي تفتيش من قِبل الجمارك السورية.

 

وعلى الرغم من أن روسيا كانت تتوقع أن تدوم عملياتها العسكرية في سورية ثلاثة أشهر فقط، إلا أن وجودها في هذا البلد تحوّل إلى وجود شبه دائم بعد توقيع تلك الاتفاقيات طويلة الأمد التي كان من نتاجها قتل آلاف المدنيين السوريين بشتى أنواع الأسلحة الروسية الفتاكة.

 

في المقابل، أنقذت موسكو الأسدَ من هزيمة محققة وفق اعتراف وزير خارجيتها، سيرجي لافروف، الذي نبّه إلى فضل بلاده الأول في إنقاذ الأسد من السقوط. وسمحت موسكو لنفسها بالاستفراد بالقوة والسيطرة، وإخضاع كل عملية التفاوض ومصير الأسد لمنطق الابتزاز، واستخدمت الفيتو غير مرّة لنفس السبب، كما هو معروف، وحاصرت الوضع السياسي بما يتناسب وسيطرتها على القرار العسكري في دمشق، وبات لخطاب موسكو منطق “المحتل المنتصر” في ساحة المعركة، والذي من حقه فرض الشروط والضغوط في المجال السياسي.

 

رابعًا: التدخل ومواقف الأطراف

في 30 أيلول/ سبتمبر 2015، بدأت روسيا تدخلها العسكري المباشر في سورية، بعد موافقة مجلس الاتحاد الروسي على القيام بعمليات عسكرية هناك. ومنذ ذلك الحين، تغيرت المعادلات على الأرض بشكل جذري، حيث أصبحت طرفًا فاعلًا في الساحة الحربية في سورية، وطرفًا في القتال، ووسيطًا يتفاوض، وممثلًا يعقد الهدن والاتفاقيات بدلًا عن النظام السوري.

 

وقف بوتين إلى جانب الأسد منذ بداية الثورة السورية، وقدم له دعمًا عبر تسليح قواته، وحماه في مجلس الأمن، ودعمه اقتصاديًا، ورسّخ الوجود العسكري الروسي في سورية، على الأقل لـ “تسعة وأربعين عامَا مقبلّا”، بموجب الاتفاقية العسكرية التي وقّعها النظام مع الروس، وهو أكبر وجود عسكري روسي في الخارج منذ زمن الاتحاد السوفياتي السابق وحتى اليوم، كما ضمن لروسيا نفوذًا شبه دائم في الشرق الأوسط.

 

وخلال سنتين، تغيرت معادلة العلاقة الروسية- التركية، بعد أن أسقطت تركيا طائرة روسية في الأجواء السورية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، وتحولت تركيا إلى خصم لروسيا. لكن، وبعد توافقات خاصة فيما بعد بين البلدين، تحولت العلاقة من خصومة إلى شراكة وتعاون على أكثر من صعيد، وخاصة في ميدان القضية السورية، ورعت روسيا وتركيا، ومعهما إيران، نظام “خفض التوتر” في أربع مناطق في سورية، تم اعتمادها مطلع العام الحالي.

 

لم يكن التدخل الروسي في سورية فعلًا سارًا للمعارضة السورية، إذ اعتُبرت روسيا مُحتلة منذ الأيام الأولى للتدخل، ذلك لأن تجربة المعارضة السورية مع الروس في الفترة ما بين انطلاق الثورة وحتى التدخل العسكري المباشر، كانت تجربة مريرة، تؤشر سلفًا إلى ما سيحمله هذا التدخل من المزيد من الدعم للنظام والاستخفاف بالمعارضة وعدم الاكتراث بالقتل والتدمير الذي تسبب به النظام خلال زمني الثورة والحرب.

 

بعد معركة حلب، أدركت روسيا أن الغطاء الجوي غير كاف للسيطرة على الأرض، فاضطرت، بسبب عدم ثقتها بالنظام وبحلفائه، خاصة إيران وحزب الله، إلى إرسال خبراء عسكريين وقوات خاصة روسية للعمليات البرية، تحت راية شرطة عسكرية روسية، كما أرسلت مرتزقة متعاقدين مع وزارة الدفاع الروسية، كعناصر شركة (فاغنر) العسكرية الروسية الخاصة. ثم وجدت المعارضة السورية نفسها مضطرة إلى الدخول في مفاوضات مع النظام ترعاها روسيا في أستانة، أملًا في تنشيط المسار السياسي.

 

من جهتها، كانت الولايات المتحدة تمر بمرحلة مضطربة ما بين رئيسين وإدارتين، ومرحلة انتخابات تدفع المرشحين للرئاسة للالتفات إلى الوضع الداخلي أكثر من الخارجي، وتجميد كل المبادرات والفاعليات العسكرية الخارجية إلى الحد الأدنى طالما أنها لا تمسّ بالأمن القومي الأميركي، ولم يكن بالأساس لإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أي رغبة بالتورط في الحرب السورية الطاحنة، خاصة أنه حقق صفقة سحب السلاح الكيماوي من النظام السوري، كما أن الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، لم يكن معنيًا كثيرًا بالحرب السورية، وسلّم بالدور الروسي في سورية، ولم يكن يهمه شيء سوى محاربة الإرهاب (الإسلامي) والقضاء على تنظيم (داعش) الإرهابي.

 

لم يُبدِ الأميركيون اعتراضًا على التدخل الروسي العسكري المباشر في سورية، وكانت علامات الموافقة الأميركية على هذا الوجود هو التوجّه الأميركي للتفاهم حول معالم الحل السوري، أو بالأدق ملامح توزيع النفوذ والتوازنات، في محطات لقائي فيينا 1 و2 والقرار الدولي 2254 الذي قاد إلى جنيف 3 في كانون الثاني/ يناير 2016، وحاولت الولايات المتحدة “إغراء” الروس بشكل غير مباشر بـ “مكافأة” في سورية، مقابل ابتعادها عن الصين وإيران، باعتبار الأخيرتين “خطرًا رئيسيًا” وفق المنظور الأميركي، وباعتبار أن سورية ليست بتلك الأهمية الاستراتيجية بالنسبة إلى الأميركيين، وكذلك فإن بقاء الأسد في السلطة أقل كلفة بالنسبة إليهم من شن حرب عليه. لذا، يُعتقد على نطاق واسع أن واشنطن لا تُمانع أن يكون جزء كبير من سورية مجالًا للنفوذ الروسي، وأن التحرك والتدخل الروسي في سورية كان وسيبقى تحت سقف الولايات المتحدة رغم عدم التنسيق والاتفاق الكامل بين البلدين.

 

أما دول الخليج التي دعمت المعارضة السورية بقوة، وبأكثر من وسيلة، فقد أُسقط في يدها بعد أن صارت روسيا الآمر الناهي عسكريًا في سورية؛ ووسط خذلان الحليف الأميركي، واضطراب العلاقة الخليجية البينية، بدأت تُفكّر في تغيير بعض استراتيجياتها المتعلقة بالمسألة السورية.

 

كذلك الأردن، استطاع استثمار علاقاته الوثيقة مع واشنطن وموسكو في الوقت نفسه لتأمين حدوده الشمالية، وإحياء اتفاق وقف إطلاق للنار في جنوبي سورية، يضمن الحدود البرية الأردنية الشمالية، وهذا أقصى ما يطمح له الأردن على المدى المنظور.

 

أما إيران، فقد صعد نجمها وهبط، حيث يحاول الروس ترضيتها بإشراكها كوسيط وضامن في اتفاقيات أستانا، واتفاقيات وقف إطلاق النار والهدن. وفي نفس الوقت تسعى موسكو لتحجيم القوة الإيرانية، ووقف التغلغل الإيراني العسكري والسياسي في سورية، لكن هذا المنع مازال يعتمد على مؤشرات وليس على حقائق راسخة يمكن من خلالها التأكد بأن الدور الإيراني في سورية هو دور غير مرغوب بشكل قاطع من قبل روسيا.

  • Social Links:

Leave a Reply