مركز حرمون للدراسات المعاصرة – وحدة دراسة السياسات
خامسًا: ما لم يُنجز
استخدم الروس الفيتو في مجلس الأمن الدولي لأول مرة في 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 ضد قرار يدين النظام السوري، في محاولة لفرض أنفسهم قطبية ثانية في مواجهة الولايات المتحدة، وكرّت السبحة ليصبح استخدام الروس الفيتو ضد أي قرار يمكن أن يدين النظام السوري أمرًا روتينيًا، حتى لو كان الأمر يتعلق بضرورة إيصال مساعدات إنسانية للمحتاجين إليها في سورية.
المحطة الثانية في “سجلّ” الروس في سورية بعد الثورة كانت رعاية اتفاق “سحب السلاح الكيماوي” في 14 أيلول/ سبتمبر 2013، والذي قاد إلى القرار الدولي 2118 الذي تبنى بيان جنيف 1، ثم قاد إلى سلسلة مؤتمرات جنيف، التي بدأ الروس في عام 2016 بالانقلاب عليها. ففي كانون الثاني/ يناير 2017 بدأوا بالترويج لمسار سياسي يوازي المسار العسكري، وعقدوا ست جولات مفاوضات في أستانا، وتوصلوا بالتعاون مع تركيا وإيران إلى ما أطلقوا عليه “مناطق خفض التوتر” التي لا تشمل مناطق سيطرة (تنظيم الدولة الإسلامية)، إلا أن مناطق خفض التوتر هذه لم تسلم من ضربات نفذتها طائراتهم وطائرات النظام، ولم تسلم من هجمات لقوات النظام البرية والميليشيات الموالية والتابعة لإيران، وأدينت روسيا من قبل منظمات حقوقية، محلية ودولية، بارتكاب جرائم حرب في سورية بسبب استخدامها قنابل عنقودية وفوسفورية وأسلحة محظورة دوليًا.
الأمر الذي قد يُقلق روسيا هو اعتقادها بأن الولايات المتحدة لن تبقى على موقفها غير المبالي بما يحدث في سورية على المديين المتوسط والطويل، كذلك يُقلقها احتمال تكبّدها خسائر كبيرة في الأرواح بين جنودها وضباطها وطياريها، لأن المعلن هو مقتل 30 عسكريًا روسيًا فقط، وإن كانت “رويترز” تظن أن العدد أربعة أضعاف هذا الرقم، وهو أمر قد يحصل فيما لو استمر الوضع السوري على ما هو عليه دون حل سياسي واضح وقابل للتطبيق.
تحاول روسيا التملص من بيان جنيف1 عبر التذرع بتغيّر الأوضاع الميدانية على الأرض، لكن كون هذا البيان هو نتاج توازنات إقليمية وأوربية ودولية، يجعلها مستمرة في التزامه، ولا تقدر على رفضه أو نسفه من أساسه.
أغلبية الأهداف الروسية لم تُنجز بعد، فالنظام السوري يبدو أنه “صامد” لكن الخطر لم يزل عنه، وقوته في تآكل مستمر، كذلك لم يستطع الروس تحجيم التدخل الإيراني، خاصة أن السياسة الإيرانية متلونة، وتتغير وفق الظروف، وهي بدأت تنتقل من مرحلة السيطرة العسكرية على الأرض إلى مرحلة السيطرة الاقتصادية والتغلغل في نسيج المجتمع السوري.
كما أن غرق موسكو في “مستنقع أفغاني” جديد أمر وارد، ولاحت معالمه في وقت سابق عندما زاد عدد القتلى من العسكريين الروس في سورية، بعدما كان الضحايا من موظفي شركة (فاغنر) الأمنية الروسية فقط، خاصة إذا كان هناك فخ يُنصب لها بشكل غير مباشر من الولايات المتحدة.
قد تمتلك روسيا القدرة العسكرية لإدارة حرب معقدة مثل الحرب السورية، لكنها في رأي المعارضة السورية تفتقر إلى الحد الملائم من التخطيط الذي يجعل أهدافها السورية المباشرة قابلة للتحقيق، ولا تملك القدرة السياسية على رسم استراتيجيات سلام بعيدة الأمد، تحقق مصالح الشعب السوري والمصالح الروسية في الوقت نفسه، خاصة عندما يجري الحديث عن كسب روسيا النظام السوري الذي لم يعد مقبولًا دوليًا، مقابل خسارتها صداقة الشعب السوري ودعمه.
ويبقى أحد المفاصل المهمة والمؤثرة في مجريات حوادث الشرق الأوسط، وهو “إسرائيل”، التي يحاول الكرملين عقد شراكة عميقة معها، لكن مهما تعمّقت تبقى لا توازي جزءًا صغيرًا من الشراكة المتجذرة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”.
يزعم الروس أنهم حققوا مكاسب في علاقتهم مع تركيا والسعودية، لكن هذه المكاسب كان يمكن تحقيقها دون حروب ومآسٍ وتكاليفَ باهظة، ودون التدخل العسكري المباشر في سورية.
تستطيع موسكو الآن القول إن لها نفوذًا عند السلطة والمعارضة، لكن هذا الادعاء غير دقيق، فالمعارضة السياسية السورية غير متوافقة مع موسكو، ولا تُنسّق معها، وخاصة ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية والهيئة العليا للمفاوضات، على الرغم من ازدياد الفاعلية الروسية بعد التقارب مع تركيا والسعودية خصوصًا، كما أن الفصائل العسكرية المنخرطة في اتفاقيات أستانا يمكن أن تنقلب عليها لأن أغلبية أمراء هذه الفصائل لا همّ لهم سوى ضمان حصتهم في الترتيبات المقبلة.
قد تُرغم التوافقات الدولية والإقليمية الروس على التزام موقف وسطي في معايير التسوية السورية، خاصة مع إدراكهم المتزايد أن النصر العسكري وحده لا يمكن أن يقود إلى استقرار راسخ وطويل المدى، بل لا بد أن يرتبط عاجلًا أم آجلًا بمفاوضات سياسية فيها الكثير من التنازل لكل الأطراف وعلى رأسها النظام.
كذلك، لا بدّ من الأخذ في الحسبان أن روسيا غير قادرة، اقتصاديًا وتقنيًا، على الاستمرار برمي مئات الأطنان من الأسلحة كل يوم، خاصة وأنها مُكلفة من جهة، وتُعاني عيوبًا تجعلها أشبه بالذخائر العمياء، وتتسبب بسقوط ضحايا كثر من جهة ثانية، وقد يتسبب هذا بخسائر لحلفائها على الأرض، ووفق ما قال رسلان بوخوف، مدير مركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيات في موسكو، فإن العمليات في سورية أظهرت بعض العيوب في الأسلحة وأساليب القتال الروسية، وفي مقدمتها ضعفها في إصابة أهداف متحركة وكثرة أعداد الضحايا نتيجة القصف، كما تواجه روسيا مشكلة عدم توفر ذخيرة من الإنتاج المتسلسل لإصابة أهداف متحركة.
سادسًا: خاتمة
بعد عامين من تجربة الغزو الروسي لسورية، واستخدام قوة نارية هائلة، يبقى موضوع نجاح روسيا في إحياء دور الأسد أمرًا مشكوكًا فيه، وسيبقى حسابات لا تتطابق مع المنطق ولا التاريخ ولا الواقع، ولابد من أن ينتبه الروس إلى أنه إذا كانت “الامبراطورية” السوفياتية بقوتها وعظمتها انهارت بعد سبعة عقود من تأسيسها، فإن الوجود الذي أحرزوه في سورية التي غدت “مستعمرة” لهم، وفي المنطقة، لن يمنحهم أكسير الحياة، خاصة بوجود شركاء لهم على شاكلة النظام السوري وإيران، وكلاهما مستعد بكل بساطة للتآمر عليهم، والانقلاب على أي تفاهم أو توافق، وأيضًا بوجود ملايين المتضررين من حرب افتعلها النظام ودمّر فيها سورية وقضى على أهميتها الشرق أوسطية لعقود طويلة.
Social Links: