سوريا الحضريّة في قلب الانتفاضة:
يعكس حجم التدمير الحضري في سوريا حقيقة أنه في بداية القرن الواحد والعشرين، تحضّر معظم السكان السوريين، متبعين الاتجاهات العالمية(13). وقد ازداد النمو الحضري منذ استقلال البلد وتسارع على مدى العقود الأربعة الماضية. لقد غذّته الهجرات الريفية والنمو الطبيعي، وفي الآونة الأخيرة الهجرات الداخلية المهمة(14).
وقد استفادت دمشق وحلب من ديناميات التحضر، إذ استقطبت تجمعاتها ما يقارب من 8 ملايين نسمة في عام 2011(15)، أي أكثر من ثلث سكان سوريا. وحتى عام 2011، كان تجمع دمشق عبارة عن عاصمة ب 5 ملايين نسمة تتميز بنسيج حضري مستمر ذو كثافات عالية (حتى في المناطق النائية عن المركز) بما فيها الضواحي، أو القرى السابقة أو المدن التي تضم عشرات الآلاف من السكان (دوما، وداريا وجرمانا وغيرها). كما غذّى التحضّر أيضاً النمو السريع للمدن الصغيرة والمتوسطة، ولا سيما تلك التي تقع ضمن منطقة جذب لأقطاب حضرية أكبر (Ababsa et al. 2007).
وفي سوريا المتحضّرة هذه، بدأت الانتفاضة السورية منذ آذار/مارس 2011 وما بعد، منتشرة من المدن الصغيرة إلى الضواحي الأفقر، ومن قرى متاخمة للمدن إلى المناطق الداخلية للمدينة (Vignal 2012). وقد كان للمظاهرات والحشود جذور قوية في البيئات المحلية. ففي درعا، حيث بدأت الانتفاضة في عام 2011(*)، أظهر رينود ليندرز (Reinoud Leenders) وستيف هيدمان (Steve Heydemann) (2012) (تُرجمت على موقع العالم للدراسات/ المحرر) أن المناطق حيث جرت المظاهرات والنشاطات تضمّنت “السمات السياسية والاجتماعية التي سمحت مجتمعة بفعل جمعي وحشد شعبي مبكرين قائمين على المظالم والتطلعات”. وكما يذكّرنا ماثيو راي (Matthieu Rey) (2013)، يلعب “الحي” دوراً مركزياً في الثورات الحضرية في التاريخ السوري المعاصر. وهو يشير إلى أنه (وإلى اليوم) شبكات التضامن والانتماءات الأولية هي إلى حد كبير جزأ لا يتجزأ من هذا النطاق المحلي، على الرغم من أنها تتصل بالخارج. وهو يُظهِر على سبيل المثال أن مدينة إدلب (الشمال الغربي) دخلت الانتفاضة في صيف عام 2011 عندما قصفت سفينة تابعة للبحرية حي الرمل الجنوبي في اللاذقية (على ساحل البحر الأبيض المتوسط) في 14 آب/أغسطس، وهي منطقة يقطنها أحفاد مهاجرين من إدلب، وقد كانت الشبكات لا تزال نشطة فيها.
ومنذ آذار/مارس من عام 2011 وما بعد، ستكون الأحياء هي الأماكن التي سيتظاهر الناس فيها، لا سيما (لكن ليس حصراً) أيام الجمعة (وهي أيام عطلة رسمية في سوريا)(16). فالحي هو المكان حيث ينظّم الناشطون أعمالهم، كما يتبيّن على سبيل المثال من انتشار لجان التنسيق المحلية في البلد. وهو المكان حيث ستخطط شبكات التضامن العديدة، التي توفّر مأوى ودعماً ومعونة إنسانية للجيران المحتاجين أو للسوريين النازحين داخلياً، لعملها (Vignal, 2014a). وهنا هو المكان حيث بدأت عسكرة المعارضة، بالرجال المحليين الذين حملوا السلاح لحماية أحيائهم من قمع النظام –بالتوازي ولكن ليس مرتبطاً بالضرورة مع تشكيل الجيش السوري الحر في تموز/يوليو من عام 2011 (Kodmani and Legrand 2013). ويفسّر الطابع المحلي للانتفاضة، الذي ترسخ بعمق في الشبكات المُحكمة للمجتمع الحضري السوري، الصعوبة التي يواجهها النظام في التنبؤ بمجريات الأحداث، بينما تنتشر المظاهرات من مكان إلى آخر.
لذلك، فإن تشريح الانتفاضة ينعكس في تشريح القمع. فمنذ بداية النزاع، شملت السيطرة على الاحتجاجات، من وجهة نظر النظام، السيطرة الضرورية على الفضاء. وفي البيئة الحضرية، يُترجم ذلك إلى قمع المظاهرات بوسائل التدخل المسلّح؛ من قبل الجيش، أو الأجهزة الأمنية، أو الميليشيات (التي تُعرف بالشبيحة)، بالقصف من الدبابات (درعا في نيسان/أبريل أيار/مايو 2011) أو سفن حربية (اللاذقية آب/أغسطس 2011)، أو نشر القناصة على أسطح المباني (حمص وحماة ربيع عام 2011) وما إلى ذلك. كما تعمل السيطرة من خلال فرض القيود على تنقّل السكان. فقد ارتفع عدد نقاط التفتيش ارتفاعاً كبيراً وفي غضون أشهر قليلة أصبحت هذه النقاط سمة مألوفة في المدن السورية. وتضاعفت حملات الاعتقال (Yazbek 2012). وأشار مسؤولو النظام إلى المتظاهرين (ومن ثم إلى المعارضة المسلحة) بوصفهم أعداء “أجانب” و”إرهابيين” يهددون البلد، لتبرير الاجراءات القمعية المتخذة ضدهم، فضلاً عن الأعمال العسكرية ضد معاقلهم الاقليمية. فالتدمير بوصفه نتيجة، ولكن أيضاً التدمير بوصفه أداة حرب أمران متلازمان في سوريا.
التدمير وحروب العصابات الحضرية:
في سوريا، يسم عدم التماثل المواقع النسبية للفريقين الأساسين، في جهة يعارضون جيشاً نظامياً، طاقته البشرية منظّمة ومدربة، ويعتمد على إمدادات منتظمة من الأسلحة، أما على الجهة الأخرى، شبكة هشة من مجموعات مسلحة، تفتقر إلى التنسيق، غير مدرّبة، وتتوق إلى تسلح ومعدات مناسبة (O’Bagy 2013a). ففي الواقع تنبع المعارضة المسلحة من عدد لا يحصى من الحركات المحلية التي تتصدى للعنف الناجم عن قمع مظاهرات عام 2011. ومقاتلوها (بغالبية عظمى) هم رجال محليون يعملون في أحيائهم الخاصة.
وبالتالي تُترجم هذه العملية المعينة التي تتم “من أسفل لأعلى” لتكوين المعارضة المسلحة إلى تضاعف مواقع الحرب. ومن هذا المنطلق، حرب المعارضة السورية هي إلى حد كبير حرب عصابات تدور رحاها في مواقع متعددة أو (على نحو أدق) فهي مئات من أعمال حرب العصابات التي تجري من شمال إلى جنوب البلد. فمثلاً في عام 2013 قدّر يزيد صايغ أنه “منذ منتصف عام 2012 إن لم يكن قبل ذلك، كان (النظام) يقاتل في 80-100 موقع في أي يوم من الأيام، غالباً على قوس من 360 درجة ومن دون جبهات واضحة”.
وقد استفاد مقاتلو المعارضة من هذا الوضع. كما في كل أعمال حرب العصابات، إذ لديهم معرفة بالمكان ويعتمدون إلى حد ما على شبكات دعم في السكان المحليين. كما توفّر البيئة المبنية مأوى، يسهل حمايته ويسمح لهم بتحويل نوع القتال الذي يتّبعونه (مقاتلون مشاة وأسلحة خفيفة) إلى ميّزة. وعلى النقيض من ذلك، فإن الجيش النظامي مكبّل أكثر في الوسط الحضري، سواء من وجهة نظر تقنية (المناطق الحضرية أقل تكيّفاً مع مناورة الدبابات وما إلى ذلك) أو من وجهة نظر استراتيجية (قد يكون السكان داعمين لمقاتلي حرب العصابات). وفي عام 2011، كان الجيش السوري بشكل خاص غير مستعد لهذا النوع من الحروب (Sayigh 2013). إضافة إلى ذلك، فإن قتال العديد من حروب العصابات الحضرية في مواقع متعددة استنزف قوات النظام في الفضاء وكذلك في الزمن. ففي عام 2013 على سبيل المثال، كان على قوات النظام أن تعتمد على “العتاد الجوي لإعادة إمداد القوات المحاصرة في مراكزها في حلب وإدلب بسبب افتقارها إلى خطوط لوجستية برية تربط هذه المراكز. (وكانت قوات النظام) قلّصت تواجدها العسكري إلى دمشق وحمص من أجل تأمين خطوط إمداداها بينما نازع الثوار على حمص” (Nassief 2014).
ومن الناحية الكلاسيكية، تنطوي المواجهة الحضرية على تدمير البيئة المبنية. والضرر هو نتيجة مباشرة للقتال (المباني، والشوارع، والبنية التحتية، وتحويل مبنى إلى مأوى أو مركز استراتيجي وما إلى ذلك). ويمكن أيضاً تنفيذ التدمير لخدمة غرض عسكري، كما على سبيل المثال في تسوية المباني المحيطة بمكان أو مبنى معين بالأرض (ثكنات عسكرية، مشفى، مبنى حكومي وغيرهم) من أجل تأمينها أو الدفاع عنها. وعادة ما يتركز هذا النوع من التدمير في مناطق الجبهات، مما يخلق أراض محايدة، تزخر بالأنقاض ومحاطة بمباني متضررة. يصف جان بيير فيلو (2013) جميع السمات الكلاسيكية لمنطقة الجبهة حين يروي تجربته في حي صلاح الدين في صيف عام 2013، والذي يقع (منذ هجوم المعارضة المسلحة في صيف عام 2012) على “الجبهة الشرقية” للجبهة التي تقسم المدينة بين الشرق (المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة) والغرب (المناطق الخاضعة لسيطرة النظام). إذ أن الحي الذي كان يوماً ما مركزياً ومأهولاً بسكان الطبقة الوسطى، قد أُخلِي من سكانه وحُوِّل إلى منطقة أشباح من مباني محطمة، وشوارع أعيد تسميتها “شوارع الجنة”، حيث يكون المرء تحت تهديد مميت بالتعرض لإطلاق نار من قناصة الفريق المعاكس.
على أية حال، في سوريا، غالباً ما تتداخل خطوط الفصل وقد تختلف الجبهات محلياً. فليس هناك نوع قياسي من التدمير يقتصر على مناطق الجبهات. إضافة إلى ذلك، من أجل التحايل على الصعوبات التكتيكية في محاربة مجموعات مسلحة معارضة حضرية متعددة في ذات الوقت، لجأ النظام إلى تكتيكات جديدة يلعب فيها التدمير دوراً محورياً.
التدمير والتكتيكات العسكرية:
منذ عام 2012، استنزفت (بشكل متزامن) مدة النزاع والطاقة البشرية المحدودة والجبهات المتعددة الواجب التمسّك بها بشكل شديد قوات النظام وأثّرت على قدرتها لتحقيق مكاسب عسكرية واقليمية حقيقية.
لذلك كيّف جيش النظام تدريبه العسكري مع الحرب الحضرية، بمساعدة خبرة حليفتيه إيران وروسيا (Sayigh 2013). كما اعتمد بشكل متزايد على مشاركة ميليشيات أكثر ملاءمة للقتال في حروب حضرية، فأصبح حزب الله اللبناني الفاعل الرئيسي بشكل خاص في مكاسبه العسكرية منذ عام 2013 (Sullivan 2014). وعلى أرض الواقع، وُضِعت استراتيجية عسكرية جديدة، تهدف إلى استعادة المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة. إذ تُطوّق المنطقة، ومن ثم تقصف من دون هوادة. فيغادر السكّان، ويُجبر مقاتلو المعارضة على الانسحاب. فتدخل قوات النظام (الجيش، الميليشيات، والقوات الخاصة) المنطقة، وتطهّرها من أي مقاومة مُحتملة، ومن ثم تحتفظ بها. تسمح هذه الاستراتيجية للنظام بالاستفادة القصوى من مزاياه العسكرية (قدرته على القصف والتفجير من بعد، وهيمنته الحصرية على السماء، ومخزونه من مختلف أنواع القنابل) لبسط نفوذه على أرض العدو. وبالتالي فهذا يخفّف من صعوبات قتال حروب عصابات حضرية وحروب محلية متعددة.
منذ عام 2013، استُخدِم هذا التكتيك في معظم عمليات “الاستعادة” في سوريا (Nassief 2014). فعلى سبيل المثال، تجلّى ذلك في معركة القصير في ربيع عام 2013. والقصير هي مدينة تقع في جنوب حمص وتشرف على البوابة بين دمشق والمدن المينائية على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وقد استعادها النظام بعد أسابيع من حملة قصف مكثّف بالقنابل في نيسان/أبريل أيار/مايو من عام 2013. دُمِّرت أجزاء كبيرة من المدينة. وهرب السكّان، واضّطرت قوات المعارضة التي قُطِعت عن خطوط إمدادها، وضعفت نتيجة القصف المكثّف بالقنابل وخروج السكان (إن لم يتعرضوا للقتل) إلى الانسحاب. وقد أخذت قوات النظام المدينة في مطلع حزيران/يونيو (رغم أن البلدة الحدودية التي سكنها يوماً 30 ألف شخص كانت قد تحوّلت إلى ما لا يزيد عن مجرد ركام من الأنقاض الخالية). وقد استُخدِمت نفس التكتيكات في مدن منطقة القلمون، في الشمال الغربي لدمشق، خلال شتاء 2013/2014.
بالتأمّل في السوابق التاريخية، تعرض هذه العمليات جميع عناصر تكتيك الأرض المحروقة، والتي تُعرّف بأنها تدمير كل شيء يمكن أن يكون ذا فائدة أو مساعداً للعدو. وتعريف ما يشكّل “مساعدة للعدو” هو طبعاً واسع بقدر ما يمكن أن يكون، ويتوقف على تنوع تصور وحكم الأطراف المتحاربة. ففي حالة القصير، وكما في العديد من الأمثلة الأخرى في سوريا، يبدو أن النسيج الحضري يندرج ضمن هذه الفئة.
هوامش المترجمة:
13- على أية حال، الاحصاءات السورية الرسمية لا تشملهم بسبب التعريفات المحدودة جداً للحضري: في عام 2010، فقط 53% من مجموع السكان صنفوا رسمياً بوصفهم حضريين.
14- في الأعوام التي تلت ال 2000، ما يقدّر بنحو مليون ساكن من الجزيرة (المنطقة الزراعية الشمالية الشرقية)، الذين فروا من آثار الجفاف(القحط) الشديد، اتخذوا من المدن الجنوبية في البلد ملجأ لهم.
Social Links: