للأمانة فقط
سقطت بغداد
دخل إلى بيتنا مذعوراً صارخاً: ” أبو محمد، راحت العراق، سقطت بغداد”.
هذا ما ردده جارنا ” أبو فؤاد” الذي هرع إلينا بطرقة واحدة لباب بيتنا الذي يبقى مفتوحاً طوال النهار صيفاً، ودخل قبل أن يُؤذن له، النبأ كان عظيماً، غليظاً، كان كبيراً، أكبر من أن يخطر ببال الجار الوقور أن يستأذن أو يستأنس للدخول.
أذكر أن أبي كان جالساً يُتابع برنامج “المُصارعة” المُفضّل لديه، صرخ بنا قائلاً: أين جهاز التلفاز، ضعوا لنا على قناة الجزيرة بسرعة.
باتت الغرفة كحلبة المُصارعة تماماً، صُراخ غير مفهوم، هتافات غوغائية، وصمت صاخب يعقب ذلك لتصبح كل الأعين شاخصة إلى الشاشة، لنرى المذيع محمد كريشان يعلن نبأ السقوط باكياً وهو يقول: هذا وقد شُوهدت الدبابات الأمريكية صباح هذا اليوم وهي تتقدم نحو مبنى وزارة الإعلام العراقية وسط العاصمة بغداد بعد أن شنت الطائرات الأمريكية في الساعات السابقة قصفاً جوياً مكثفاً وعنيفاً …
جفّت الشفاه، ودمِعت عيون الكبار قبل الصغار، الكُل في صمتٍ مُطبق، لا يوجد ما يُقال، لا يمكن تصديق المذيع، ومجيء أبا فؤاد كان يجب أن يكون مجرد حلم.
الجار كان جالساً بشكل تربيعي حانياً رأسه على صدره ودخان سجائره ملأ محيطه، أبي كان جالساً على رُكبتيه شاخص العينين نحو النبأ عسى أن نكون قرأناه بشكل مغلوط.
أنا لم أصدّق ماحدث كما هم.
العراقيون الذين رأيتهم يرقصون ويصفّقون للجندي الأمريكي وهو يعلق الجنزير حول عنق تمثال صدام ليسقطه ليهرولوا إليه فرحين ويضربونه بالأحذية للتمثال وليس للجندي الأمريكي، كان مشهداً عصياً على أن أصدّقه أو أصدّق أن أولئك كانوا من نطفة عراقية.
مرّت أياماً بعد ذلك وبات كل شيء قابل للتصديق ولم أصدّق أن بغداد سقطت، ومرت بعد سنين وألقي القبض على صدّام ولم أصّدق بعد أن بغداد يمكن أن تسقط، تم محاكمة صدام وإعدامه على مرأى عيون حُكّام العرب وإستنكارهم المُعتاد ولم أستطع بعد تصديق أن بغدادَ سقطتْ، قال بعض الإعلام العربي أن الذي تم إعدامه شبيه صدّام، وكان هذا الخبر به شيء من النصر المعنوي، فلم أصدّق أيضاً، ليس لإيماني بكذب الإعلام العربي، بل لأن الإعلام العربي لا يكون صادقاً في أخبار هزائمنا.
نعم، لم أصدّق شيئاً حتى ذلك الوقت، توالات بعد تلك الأحداث سقوط العواصم العربية الواحدة تلو الأُخرى ولكن على يد أبنائها “السقوط مقابل الحرية” فتم قتل القذّافي والتبوّل على جُثّته كوسمة أخلاق ثورية، وتم سقوط حسني مبارك على يد مُرسي وتم سقوط مرسي على يد السيسي، واشتعلت الثورة في سوريا وسقط الشعب بين قتيل ومعتقل ومُهجّر، اشتعل العالم العربي بأكمله ولم أزل بعد قادراً على تصديق أن بغداد سقطتْ.
وها أنا الآن خارج بلدي وبعد خمسة عشر سنة على نبأ سقوط بغداد وبعد موت اثنين من أبناء جارنا الذي كان وقتذاك يقول دائماً: العراق ستتحرر، أنا واثق من ذلك.
لم يكن ذلك كله مُهمّاً بالنسبة لي، ولا يمكنه أبداً التأثير على إيماني بأن بغداد لم ولن تسقط يوماً.
ولكنّي ومنذ أيامٍ قليلة صدّقتْ، بعد كثرة الأنباء التي وصلتني عن مئات الآلاف من العرب الذين يتسابقون للحجز في محافل عيد ميلاد رأس السنة.
عدم تصديقي للسقوط بات أمراً سخيفاً، حقّاً بات سخيفاً.
بغداد: أنتِ سقطّتِ، ونحن جميعنا نستعد للإحتفال بميلاد جديد لسنة عارٍ جديدة على الأمّة العربية بأكملها.
هامش: يُقال أن في السرد الأدبي يجب ألّا يُكرّر الكاتب كلمة بعينها أكثر من مرّة، وقد كررت كلمة بغداد كثيراً هنا، ليس لشيء وإنما لأن بغداد كلمة ضخمة جداً ولا مانع لدي أن أكتب نصاً كاملة تكون كل الكلمات فيه، بغداد، بغداد، بغداد.
ابن_النور
Social Links: