العدالة الانتقالية ومعوقات تطبيقها في سورية – المحامي فوزي مهنا

العدالة الانتقالية ومعوقات تطبيقها في سورية – المحامي فوزي مهنا

دعا منتدى الجبل الثقافي ضمن نشاطاته إلى ندوة حول العدالة الانتقالية للمحاضر الاستاذ فوزي مهنا و نظرا لأهميتها نعيد نشرها

العدالة الانتقالية ومعوقات تطبيقها في سورية

أولاً ـ تعريفها وأهميتها :
تُعرف العدالة الانتقالية بأنها عبارة عن مرحلة استثنائية تتلو وقوع الأزمات أو الثورات، ويُعني بها العدالة التي تعمل على كشف مشاكل الماضي بهدف معالجتها والتصالح معها للانطلاق نحو المستقبل، وبذلك تنتقل المجتمعات التي شهدت تلك الاضطرابات والحروب من حالات الصراع التي عايشتها، إلى حالة التوافق والسلام، وصولا إلى النظام الديمقراطي.
وتنبع أهمية العدالة الانتقالية من أنها الجسر الذي تعبر عليه المجتمعات التي تمر بأزمات وصراعات وحروب واضطرابات سياسية تتخللها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، مثل ما هو عليه الحال ببعض الدول العربية، من بينها بالطبع سورية، فتنقل هذه المجتمعات، من حالة عدم الاستقرار والفوضى إلى شاطئ الأمان، تنقلها من الدولة البوليسية أو الدينية إلى الدولة المدنية، من دولة حكم الشخص الواحد ودولة الرعب إلى دولة القانون.

ثانياً ـ نشأة وتطور مفهوم العدالة الانتقالية :

مفهوم العدالة الانتقالية هو مفهوم استثنائي للعدالة يختلف عن مفهوم العدالة التقليدية من حيث الأهداف والقواعد والمعايير والهيئات والآليات، والسبب في ذلك هو أن الظروف الاستثنائية تفرض معالجة استثنائية ولا تصح ولا تستقيم معها قواعد وآليات العدالة العادية، وبذلك فإن هدف العدالة الانتقالية ليس إدانة المجرمين وتطبيق القانون فقط، بمقدار ما تهدف إلى إعادة السلم الأهلي وتحقيق المصالحة الوطنية ومحو آثار المرحلة السابقة التي من شأنها التشجيع على استمرار زيادة حجم الخراب إذا لم يتم تجاوزها.

1. بعض التجارب الدولية في مجال تطبيق العدالة الانتقالية:
تختلف التجارب الدولية في مجال تطبيق العدالة الانتقالية كل منها عن الأخرى، من حيث وضعيتها وخصوصية كل مجتمع وطبيعة المرحلة السابقة التي مرّ بها، والسياق التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي يحكمه، وبالتالي نستطيع القول أنه ليس ثمة نماذج عالمية لعدالة انتقالية ثابتة حيال كيفية مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان السابقة، لكن في الوقت نفسه ثمة شواغل وأفعال جرميه متشابهة إلى حدٍ بعيد يُعبر عن بشاعتها وحجم الأضرار التي خلفتها الضحايا ومن تبقى منهم على قيد الحياة، إلى جانب المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان.
وهنا لا بد من التنويه إلى أن تجارب عدد من دول العالم التي سنتحدث عنها لاحقا، ومنها التجربة في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٩١ وإلى جانب تجربة جنوب إفريقيا والتي تعد من التجارب الرائدة التي يمكن الرجوع إليها عند صياغة نموذج للعدالة الانتقالية، نظرا لما تميزت به من خصائص حيال سياسات تطبيق مفهوم العدالة الا‌نتقالية، بعد أن أولت اهتماما لمنع إعادة إنتاج النظم السابقة ﻭتطهير أجهزة الدولة من براثن الفاسدين.

2. دور المنظومة الدولية في تحقيق العدالة الانتقالية :
لقد لعبت منظمة الأمم المتحدة دوراً مهماً في تحديد معالم العدالة الانتقالية من خلال مقاربة قائمة على احترام سيادة القانون، خلال فترات ما بعد الصراع والأزمات، وفي نهاية القرن العشرين تم التعويل على المحاكمات الجنائية الدولية، أو المحاكم المختلطة، كأهم آليات تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية، كما حدث في يوغوسلافيا السابقة، ورواندا، وسيراليون، وتيمور الشرقية، حيث تكلّلّت تلك الجهود بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، التي تعتبر قمة التطور في نضال البشرية ضد امتهان كرامة الإنسان وحقوقه.

ثالثا ـ أهداف العدالة الانتقالية :
ووفقاً للتجارب السابقة في العديد من دول العالم، فإن مفهوم العدالة الانتقالية يقوم أصلاً على ستة دعائم رئيسية ومترابطة، وهذه الدعائم هي :
1. البحث عن الحقيقة ومعرفتها
2. الملاحقة القضائية أو (المحاسبة)
3. التعويض وجبر الأضرار.
4 . تطهير المؤسسات العامة
5. الإصلاح السياسي والمؤسسي
6. المصالحة الوطنية.

رابعا ـ العدالة الانتقالية في دول الربيع العربي :
على الرغم من أن الثورات الديمقراطية العربية التي حصلت، قد أسقطت بعض رؤوس الأنظمة التسلطية في بعض البلدان، فإنها لم تكن بالواقع تحمل في سيرورتها التاريخية مشاريع راديكالية لبناء دول ديمقراطية حقيقية، وهذا ما جعل هذه الثورات تتعرض لانتكاسات مؤلمة، من خلال مصادرتها وركوب موجاتها من قبل حركات الإسلام والمال السياسي وتجار الدماء كما تجار الأوطان، بالإضافة للتدخلات الخارجية، التي حرّفتها عن مسارها الطبيعي والتاريخي، مثلما هو حاصل اليوم مع كل من الثورات السورية والليبية واليمنية، وإلى حد ما المصرية.
ومع ذلك، فقد وضعت بعض هذه البلدان تعاريفها الخاصة لمفهوم العدالة الانتقالية، مثلما حصل في تونس ومصر والمغرب واليمن، وكذلك من قبلهم لبنان.
من الجدير بذكره هنا أن المغرب يعتبر صاحب تجربة فريدة في عالمنا العربي من خلال ما قام به من مصالحة وطنية هادئة نتج عنها شكل من أشكال التعامل مع “العدالة الانتقالية” باعتبارها تمت من داخل النظام نفسه ولم يتم تنفيذها بعد انتهاء حرب أهلية أو ثورة، تدفع شعوبنا العربية اليوم وخاصة الشعب السوري ثمنها باهظا نتيجة لتعنت نظام الاستبداد.

خامسا ـ العدالة الانتقالية في سورية:

_1. التحديات والصعوبات:
من المعروف أنه كلما طال ليل الاستبداد كلما كان المخاض عسير اً وطويلاَ، وكلما كانت الملفات وصعوبات التحُّول الديمقراطي، والتحديات أكثر، وبالتالي كلما كانت مرحلة العدالة الانتقالية أطول وأصعب وأكثر تعقيدا، لذلك فإن الشعب السوري اليوم يواجه كما نشهد ، حصاد ما خلفته تلك السياسات.
وبناء على ذلك فإن تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية في سورية يواجه العديد من المعوقات والتحديات والتي تعتمد إلى حد كبير على طبيعة انتقال السلطة، لما من شأن ذلك عبور الدولة إلى بر الأمان، إن كان لجهة سقوط النظام القسري، أو من خلال مفاوضات تسليم السلطة، والتي في الحالتين على ما يبدو أنه بات بعيد المنال، بعد أن كشف العالم شرقه وغربه عن زيف ادعاءاته المنادية بالحرية والديمقراطية،
ومهما يكن سيناريو انتقال السلطة، فإن جهود تحقيق العدالة الانتقالية في سورية سوف تواجه تحديات كبيرة قام بتلخيصها مشروع “اليوم التالي لدعم الانتقال الديمقراطي في سورية” الذي أعدته مجموعة من المعارضين السوريين في آب عام 2012 ولعل أهمها:
أ. عدم الوعي بمفهوم العدالة الانتقالية.
ب. الانقسامات الاجتماعية الحادة والتي نجمت عن تفاقم التوترات العرقية والطائفية والقومية ، وهو ما خلق حالة من عدم الثقة ساهم بتكريسها كل من النظام والمعارضة والتدخلات الخارجية على حد سواء.
ج. عدم كفاية الموارد الأساسية، نظرا لما تكبدته البلاد من خسائر فادحة أدت لضعف الاقتصاد السوري.
د . القدرة المحدودة والشرعية المهددة وذلك من خلال سيطرة النظام على مؤسسات الدولة بكافة أشكالها، التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتسخيرها بما يخدم استمراريته.
هـ الحاجة العاجلة للمساءلة، وازدياد المخاوف من أن يلجأ البعض إلى الثأر والانتقام عما لحق بهم من انتهاكات.

2. الآليات والإجراءات:
سبق وأوضحنا أن لكل دولة سارت على طريق العدالة الانتقالية تجربتها الخاصة، صحيح أن تلك التجارب متشابهة إلى حد بعيد من حيث الأسباب والنتائج، إلا أن إجراءات وآليات تطبيق العدالة الانتقالية في كل منها تختلف من دولة إلى أخرى، في سورية ما يقارب الثمانية أعوام، ولا زالت الدماء تهدر والبلاد تتكسر يوما بعد يوم، تحولت على أثرها كما الثورة للمتاجرة بها في الأسواق الدولية بين معارضة عاجزة ركب موجتها الإسلام السياسي ونفوذ المال الفاسد، ونظام تسلطي قمعي، لا يزال يتخندق عند إعلان التصحيح.
وبكل الأحوال فإن مفهوم العدالة الانتقالية يرتبط ارتباطا وثيقا مع طيلة عمر الأزمة أو قُصرِها، إذ أنه من المعروف أنه لا يمكن للعدالة أن تستقيم دون مكاشفة الماضي والبناء عليه، وذلك للولوج لمستقبل زاهر.
في ضوء ما سبق نجد أنه من الصعوبة بمكان تنفيذ معظم آليات العدالة الانتقالية في سوريا بشكل متزامن، لأن كل آلية تحتاج لمدة معينة تبعا لإجراءاتها ونمط عملها رغم أن كل الآليات بالنهاية يجب أن تُفضي للهدف نفسه، وهو العبور إلى الدولة المدنية الديمقراطية.

3. دور المجتمع المدني:
لا شك بأن مؤسسات المجتمع المدني تستطيع أن تلعب دورا كبيرا لإنجاح خطط العدالة الانتقالية في سوريا من خلال نشر الوعي العام والقانوني عند المواطنين بضرورة الالتزام بالقانون ومخاطر الانزلاق لحالات الانتقام الفردية التي لن تنتهي إلا بوجود محاكمات قانونية ذات مصداقية، وتقديم العون اللازم لتشجيع الضحايا وذويهم على تقديم الدعاوى بمواجهة الفاعلين مشفوعة بشهاداتهم، وتشكيل هيئات من المحامين للدفاع عنهم، كما تلعب تلك المؤسسات المدنية دورا كبير في توثيق الجرائم والانتهاكات، وكذلك الإشراف على سير العدالة الانتقالية، وتقديم المساعدة والمشورة للجان تقصي الحقائق، وهنا تكمن أهمية هذه المنظمات لتكمل عمل الدولة، ولبناء علاقة أقوى مبنية على أسس القانون والعدالة بين المواطن والدولة، وخاصة عندما تكون هذه الدولة تمر بمرحلة ما بعد الأزمات، وذلك لما من شأنه ضمان الانتقال من حالة الاستبداد والشمولية إلى حالة الديمقراطية والمدنية والتعددية.
يُذكر هنا أن بناء المجتمع المدني وتفعيله تتضمن في الوقت نفسه إعادة بناء الدولة بحيث تصبح دولة مؤسسات وقوانين يتم فيها الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والقضائية والتنفيذية) وتتمتع خلالها النقابات المهنية باستقلاليتها، حيث تلتحم بمجتمعها المدني وتتفاعل معه تعبيرا عنه وانبثاقا منه، وذلك من خلال ما يقدمه المجتمع المدني وتنظيماته من سند واستشارة ورقابة وتوجيه ومتابعة لخطط الدولة وبرامجها، وتحقيق تعبئة اجتماعية باتجاه البرامج التنموية للدولة في جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لما يمثله المجتمع المدني من انتشار واسع، لجميع أطياف المجتمع، باعتبار أن مؤسسات المجتمع المدني هي قرينة الحداثة وأدوات للتحديث في الوقت نفسه.
———————————–
المحامي فوزي مهنا

  • Social Links:

Leave a Reply