سوتشي وسورية التي يريدون – فوزي مهنا

سوتشي وسورية التي يريدون – فوزي مهنا

إلى أين يريد أن يذهب بنا بعضُ السوريين اليوم، ممن سيذهبون إلى سوتشي؟ أليست مفارقة عجيبة، أنه بالرغم من مضي قرابة ثماني سنوات من عمر المحرقة السورية التي أودَت بالوطن، وما رافقها من تضحيات جسام ذهب ضحيتها مئات الآلاف من السوريين، وتشريد الملايين، ما يزال هناك من يؤمن بأن المؤامرة الكونية وحدها دون غيرها هي التي ساهمت في تدمير الأوطان؟!

متى سيدركون أن عهد الأنظمة الشمولية التي تملك الأوطان وما عليها، مثله مثل عبادة الأوثان، مثله مثل القطار البخاري، مثله مثل السفر على ظهور الجمال، قد رحل إلى غير رجعة، إنها سيرورة التاريخ وقوانين الطبيعة، لا يُمكن لقوةٍ في العالم -مهما بلغت- زحزحتها قيد أنمُلة.

متى سيعلمون أن أهم أسباب انهيار الدول يكمن في الاستبداد، باعتباره سببًا قويًا في ضياع الملك، ثم سوء اختيار الأعوان، ثم الكيد الخارجي على الدولة، فضعف الرقابة على المسؤولين، وفقًا لما ذهب إليه ابن خلدون، ثم الظلم الذي يقول عنه إنه مؤذن بخراب العمران، وأخيرًا طول البقاء في السلطة، وأن الأمم تموت عندما لا يصبح بمقدورها التمييز بين الحق والباطل، وفقًا لجلال الدين الرومي، وأن الدولة عندما تصل إلى مرحلة تعجز فيها عن الاستجابة للتحديات التي تجابهها، يحصل فيها شرخ في الروح، يقود ذلك إلى موت القدرة الروحية والأخلاقية على الإبداع والتجديد التي من شأنها مجابهة تلك التحديات، فتدخل عندئذٍ الدولة في مرحلة الانهيار، وفقًا لما ذهب إليه المؤرخ البريطاني توينبي.

وبالتالي؛ فإن الدول لا تموت قتلًا بل انتحارًا، وفقًا لتوينبي، وهو ما يؤكد عليه أيضًا مؤرخ الحضارات ديورانت بقوله: “إن الحضارات العظيمة لا تنهزم إلا عندما تدمر نفسها من داخلها”، في حين ذهب بورك إلى أن الدولة التي لا تملك الوسائل التي من شأنها مسايرة المتغيرات العامة، لن تستطيع الاحتفاظ ببقائها، وأن الفساد عندما ينخر بمختلف إدارات الدولة، ويكون البعض فوق الدولة وفوق القانون، ينهار مبدأ العدالة والمساواة لديها، وبالتالي تفشل كل محاولات الإصلاح المطلوبة، فتعجز السلطات عن تلبية تطلعات شعوبها، استجابةً للتحديات التي أشار إليها توينبي، وهذا ما يقود إلى موت القدرة الروحية والأخلاقية لدى عامة الناس في الإبداع والتجديد، فضلًا عن ضعف القدرة على مجابهة المستقبل؛ ما يساهم في تفكيك روابطها الوطنية المبنية على القسر، فينقسم عندها الشعب بعضه على بعض، ويصبح الجيش جيوشًا، كما شهدته الحالة السورية تمامًا، وبذلك فإن مقدمات انهيار الدولة تكون قد بدأت تلوح فعلًا، ولا يهمّ -حينئذ- عمر هذه الأنظمة وقوة أحزمتها الأمنية، سواء أكانت تعود إلى عدة عقود أم حديثة الولادة، فالنتائج الكارثية ستكون واحدة في كلتا الحالتين، على اعتبار أن المسارات الخاطئة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى نتائج خاطئة.

نسوا أن انهيار الدول إنما يعود لأسباب داخلية بالدرجة الأولى، أي عندما يتوفر لدى شعوبها الاستعداد والقابلية للتفكك والانقسام، وما الغزو الخارجي إلا الضربة القاضية التي تتلقاها الدولة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأن سورية كانت تعيش أزمة سياسية ومجتمعية حقيقية، لكن بصمتٍ مطبق، مثلها مثل أية تجاوزات كانت تحصل، لا أحد كان يجرؤ أن يُشير إليها، فضلًا عن أن التاريخ الحضاري الإنساني لا يقبل السكون أبدًا، أي أن الدول إما أن تتقدم إلى الأمام، فتبني دولة المؤسسات والقانون، وتصون كرامة الإنسان وتراعي حقوقه، أو أنها ستكون بطريقها إلى الانهيار.

وبالتالي؛ فإن الدولة حينما تعجز عن تحقيق أي من خطوات الإصلاح المطلوبة، والحد من تفشي آفة الفساد، على الرغم من تعدد محاولات وخطط الإصلاح والتطوير، ومحاربة الفساد الكثيرة، التي قامت بها، تكون بذلك قد ساهمت في إحداث تلك الشروخ الروحية، التي تكلّم عنها توينبي في المجتمع، ومن ثم؛ فإن توفر هذه الأسباب مجتمعة هو من جعل المؤامرة تفعل فعلتها على هذا النحو الذي نشاهد، وهو ما أدى إلى انهيار الدولة، وليست المؤامرات الكونية وحدها التي عنها يتحدثون.

إلى أين سيذهبون بسورية؟ بعد أن أفرغوها اليوم من شعبها وطاقاتها وسيادتها، بتوافقهم غربًا وشرقًا على إضعافها، وإحباط تطلعات شعبها في الحرية والكرامة وإقامة الدولة المدنية الديمقراطية، ودولة القانون.

ثم أية سورية يريدون، عندما يعودون بنا إلى ما قبل وقوع الكارثة تمامًا، بالإبقاء على النهج نفسه من رأسه حتى أخمص قدميه، أي (الجمل بما حمل) وهو النهج الذي لم يتردد قط في تخوين كل صوت مخالف، والتشبُّث بنهج الممانعة ومحوره الإيراني الروسي الذي باتت سورية بموجبه اليوم في قلب الصراع بل محوره الأساس!

وللتعرف على سورية المستقبل التي يريدها هؤلاء، يُمكن تلخيص ذلك على النحو الآتي:

– مع الاستمرار على نهج “المقاومة”، بما يضمن استمرار رفع شعارات الممانعة والتوازن الاستراتيجي إلى يوم الدين، مع سورية وجيشها العقائدي الذي ما لبث أن انقسم على نفسه عند أول المنعطفات.

– مع سورية بقيادات بعثية، وجبهة وطنية متخشبة مغرقة بالتبعية والانقسام، ومجلس للشعب لا يثق بكفاءته (65 بالمئة) من المواطنين، وذلك حسب الاستبيان الذي قامت به مجلة الاقتصادي السورية بالعام 2007.

– مع سورية بجهازها الحكومي الذي نخر فيه الفساد وتجذّر به الروتين، من جرّاء المحسوبية الحزبية والفساد، حتى بات شعار الجهاز الوظيفي العام أن (الموظف الرديء يطرد الموظف الجيد من الوظيفة العامة).

– مع سورية الخالية من أي معارضة، في ضوء استمرار حالة الطوارئ، المتمثل بقانون الإرهاب الجديد، الذي يحاسب كل ميل سياسي مغاير، ويلاحق كل ذي فكرٍ مخالف.

– مع سورية ببعض قضائها المُسيّس، والذي لا تتردد السلطة التنفيذية بالتغّول عليه والتدخل في شؤونه، كلما اقتضت الحاجة، من خلال تقديم المعارضين السياسيين وكل ذي رأي مخالف، لمحاكم استثنائية.

– مع سورية التي تنفق بسخاء على إقامة القلاع الحزبية والقصور الأمنية، بينما لا زالت بعض قصور العدل لديها إما مستأجرة أو أبنية لا تليق أبدًا بهيبة القضاء وتعزيز سيادته.

– مع سورية التي تُحصِّن الوطن بزيادة الإنفاق على التسليح والدعاية والإعلام، بدلًا من بناء المواطنين وتحصينهم، بزيادة الاستثمار على الأدمغة والعقول.

– مع سورية دولة التقدم والاشتراكية، التي لا تنفق على البحث العلمي أكثر من (0,2 بالمئة) بينما تنفق الإمارات وحدها (0,6 بالمئة)، فيما ينفق أعداؤنا الصهاينة (2,4 بالمئة) طبعًا كان ذلك قبل بداية الأزمة.

– مع سورية والإبقاء على عدم إعمال مبدأ فصل السلطات، والاستمرار في تسخير الوظيفة العامة والمال العام لمصلحة حزبية ومصالح سياسية وانتخابية، بمخالفة صريحة لنص الفقرة الخامسة من المادة الثامنة من الدستور الحالي 2012.

– مع سورية التي تحتل المرتبة 108 من أصل 169 دولة بفرص التنمية وخط الفقر، الذي بلغ معدله فيها ما بين (28,6 و30 بالمئة) وفقًا لتقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة عام 2009 والمرتبة 111 بالعام 2010 وفقًا للمصدر نفسه، يذكر هنا أن الصهاينة يحتلون المرتبة 23.

– مع سورية التي تقبع في المرتبة 127 من أصل 178 دولة، أي في ذيل قائمة الدول العربية المعنية بمكافحة الفساد، والتي لا ينافسها على هذه المرتبة سوى اليمن السعيد، وذلك وفقًا لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2010، في الوقت نفسه التي احتلت فيه “إسرائيل” إلى جانب إسبانيا المرتبة 30.

– مع سورية التي يبلغ حجم الفساد في اقتصادها، وفقًا لما صرّح به أحد أصحاب سوتشي، وزير التجارة السابق “قدري جميل” لصحيفة (الاقتصادي) السورية، بتاريخ 11 شباط/ فبراير 2009، ما بين (30 إلى 40 بالمئة) ضاربًا مثالًا على ذلك عقد ترميم مطار دمشق الذي بلغ 40 مليون يورو، فيما التقارير الصادرة تقول إن المصروف كان فعليًا لا يتجاوز 14 مليون يورو؛ ما يعني أن حجم النهب العام قد بلغ ضعفي المبلغ الحقيقي الموضوع على الأرض، على حد قوله.

– مع سورية التي تنزلق سنة بعد أخرى في مستنقع الفساد، وفقًا لتقارير منظمة الشفافية الدولية، التي تُقيِّم وتُرتِّب الدول، طبقًا لدرجة وجود الفساد بين المسؤولين والسياسيين فيها، والتي كانت سورية بموجبها تحتل بحجم الفساد عالميًا، في عام 2003 المرتبة 69، في حين نجدها تقفز مرة واحدة بعد ثلاث سنوات، أي في عام 2006 إلى المرتبة 97، ثم لتحل بالمرتبة 142 بعدها بعام واحد، إلى أن استقرّت عند المرتبة 127 في عام 2010، أي قبل بدء الأزمة تمامًا.

– مع سورية التي ساهمت في تأسيس منظمة دول عدم الانحياز عام 1961، والتي جاهد رجال الاستقلال، ومن جاء بعدهم، وناضلوا كثيرًا، لتبقى بعيدة عن أي صراع دولي، باتت اليوم في متن كل الصراعات، بل في فوهة البركان.

سورية التي يريدون لم تستطع منع الانتهاكات الصهيونية الصارخة على السيادة السورية بين كل فترة وأخرى، على الرغم من أكثر من أربعة عقود، على تحصين البلد المقاوم بالنظام الأمني الصارم، والتوازن الاستراتيجي، الذي كان من شأنه استعادة الجولان، بل جعله وسط سورية كما كانوا يتوعدون!

نخلص للقول إن سورية الضعيفة، التي لا تعترف بنصفها الآخر، وينهش بها الفساد ويضرب فيها الوهن، هي التي يريدون، سورية التي يريدون تقضُّ مضاجعها (العصابات الإرهابية المسلحة)، بعدما تعيث فيها دمارًا وخرابًا فتسقط الدولة، مما يجعلها تستعين بميليشيات طائفية وقوى إقليمية ودولية متعددة لحمايتها.

ختامًا يبقى السؤال: “إذا كانت الحرية التي تؤسس لبناء الأوطان وتساهم في تحصينها، ممكنة بألف قتيل، كما سبق لغاندي الهند أن ردّدّها يومًا؛ فلماذا عشرة آلاف أو أكثر؟”، ثمنًا لهذه الأيقونة المقدسة.

  • Social Links:

Leave a Reply