الفارون من الجحيم.. أبرز تجارب الدول التي نجحت بعد رفضها إملاءات «صندوق النقد»

الفارون من الجحيم.. أبرز تجارب الدول التي نجحت بعد رفضها إملاءات «صندوق النقد»

في ليلة من ليالي صيف الولايات المتحدة تحديدًا في الثلاثين من يونيو (حزيران) عام 1944، غادر مدينتي واشنطن وأتلانتيك سيتي قطاران محشوان بمئات السادة الذين أتوا للولايات المتحدة من كل فج عميق ليشهدوا مولد اثنتين من أبرز المؤسسات المالية الدولية الأكثر تأثيرًا ونفوذًا، وربما إثارة للجدل أيضًا، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. توجه القطاران إلى بريتون وودز الواقعة على تلال نيوهامشاير من أجل حضور مؤتمر الأمم المتحدة النقدي والمالي.

التقى ممثلو 44 دولة بدعوة من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت بهدف وضع قواعد لنظام اقتصادي جديد يتلاشى التشوهات الاقتصادية والمالية التي أفرزتها الحروب بما في ذلك معدلات التضخم العالية التي مُني بها العالم في الثلاثينيات، ووضع الحواجز أمام التجارة الدولية وتراجع النشاط الاقتصادي.

وجاء في الخطاب الافتتاحي لوزير الخزانة الأمريكي ورئيس المؤتمر هنري مورغنتاو على لسان الرئيس روزفلت أنه يدعو إلى «إنشاء نظام اقتصادي عالمي ديناميكي تكون فيه جميع الشعوب قادرة على تحقيق وجودها بسلام وتتمتع على نحو متزايد بثمار التقدم المادي على كوكب أرضي مبارك بثروات طبيعية غير محدودة».

تحققت دعوة مورغنتاو في شطرها الأول كما أريد لها أن تتحقق، إذ خُلق نظام اقتصادي عالمي جديد تحت راية المؤسستين الماليتين الدوليتين وفقًا لما ارتأته مصالح الدول الغربية وبالأخص الولايات المتحدة.

غير أن استفادة الدول بثمار التقدم المادي وبالثروات الطبيعية كان قاصرًا، على ما يبدو، على تلك الدول دون غيرها، إذ لم يكتب لتجارب الصندوق مع دول العالم المختلفة نجاح يُذكر مقارنة بالنجاح الذي حققته الدول التي أدارت ظهرها للصندوق، ما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول حقيقة دور الصندوق، وما إذا كان يعمل لتحقيق الأهداف التي تحدث عنها المؤتمر وصارت ميثاقًا له فيما بعد، من مساعدة الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية على صياغة مناهج تفضي إلى تنمية مستدامة، إذ تجلى ذلك في العديد من التجارب التي سنلقي الضوء عليها الآن.

الأزمة الآسيوية 1997.. وجه آخر للمعجزة

دفعت معدلات النمو الاقتصادي القياسية التي حققتها الدول الآسيوية أواخر الثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين، فيما كان يعرف بـ«المعجزة الاقتصادية الآسيوية» إذ بلغت معدلات النمو الاقتصادي في تايلاند وماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية من 8 إلى 12% من الناتج المحلي الإجمالي لتلك البلدان؛ دفعت تلك المعدلات إلى جذب رؤوس الأموال قصيرة الأجل فتدفقت مليارات الدولارات مع تنامي توجهات الحكومات الآسيوية نحو مزيد من تسهيل حركة رأس المال الأجنبي دون معوقات مع ارتفاع في معدلات الفائدة، حتى استحوذت آسيا بحلول أواخر التسعينيات على نصف إجمالي تدفقات رؤوس الأموال الساخنة في العالم النامي آنذاك.

ونتيجة طبيعية لتلك الأموال الكثيرة، فقد ارتفعت أسعار بعض الأصول بنسبة كبيرة كالقطاع العقاري حتى تكونت فقاعة عقارية بدأت أصداؤها في تايلاند. في ذلك الوقت وقبيل حلول الكارثة كان موقف صندوق النقد الدولي مباركًا لذلك النزوح في رؤوس الأموال، فقد ورد في كتاب «صندوق النقد الدولي: قوة عظمى في الساحة العالمية» لمؤلفه أرنست فولف، أنه قد جاء في بيان نشرة الصندوق في 21 سبتمبر (أيلول) عام 1997 «إن تدفق رؤوس الأموال الخاصة أمسى عظيم الشأن بالنسبة إلى النظام النقدي الدولي، وأن النظام الليبرالي المشرع الأبواب بنحو متصاعد، أثبت أنه النظام الأفضل بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي».

لكن المستقبل كان يخبئ وجهًا آخر أكثر فزعًا للحكاية، مخالفًا لما وصفه الصندوق.

تايلاند وإندونيسيا في قبضة الصندوق

لم يكن ما يحدث هو النظام الأفضل للاقتصاد العالمي كما كان رأي الصندوق في ذلك الوقت، إذ انفجرت الفقاعة العقارية في تايلاند مخلفة انهيارًا مدويًا للعملة التايلاندية «الباهت» ما اضطر الحكومة التايلاندية إلى تعويم العملة، بعد أن عجزت عن الوقوف بجوار عملتها؛ بسبب نقص العملات الأجنبية مع ارتفاع في الديون الخارجية.

سرعان ما تساقطت قطع الدومينو واحدة تلو الأخرى، فهوت عملات معظم دول جنوب شرق آسيا وانخفضت أسواق الأسهم، وتراجعت أسعار الأصول الأخرى مع ارتفاع حاد في الديون الخارجية وهروب عنيف لرؤوس الأموال، ما أدى لأزمة ائتمان وحالات إفلاس مصرفية، لتصبح أزمة مالية إقليمية تمكنت من دول تايلاند وإندونيسيا وماليزيا وكوريا الجنوبية بشكل أكبر بينما تأثرت باقي دول المنطقة.

في ذلك الوقت العصيب، جاء الصندوق ليعرض خدماته، وهو الذي واجه انتقادات عدة في ذلك الوقت، لمساهمته في إحداث تلك الأزمة من خلال تشجيع الاقتصاديات النامية في آسيا على السير في طريق «رأسمالية المسار السريع fast-track capitalism» والتي تعني تحرير القطاع المالي عن طريق إلغاء القيود المفروضة على تدفقات رأس المال، والحفاظ على ارتفاع أسعار الفائدة المحلية لجذب المحافظ الاستثمارية ورؤوس الأموال المصرفية، وربط العملات الوطنية بالدولار لطمأنة المستثمرين الأجانب ضد مخاطر تلك العملات. ونتيجة لذلك التوجه وصل صافي استثمار المحافظ أو تدفق رؤوس الأموال المضاربة في تايلاند، على سبيل المثال، إلى حوالي 24 مليار دولار في السنوات الثلاث إلى الأربع الأخيرة قبيل حدوث الكارثة.

كان دعم صندوق النقد الدولي لتلك البلدان مشروط بتنفيذ سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية أو ما يعرف «بحزمة التكيف الهيكلي structural adjustment package» المعروفة اختصارًا بـ SAP التي قبلتها تايلاند وإندونيسيا بينما رفضتها ماليزيا.

وفي 11 أغسطس (آب) عام 1997 أعلن الصندوق عن حزمة إنقاذ لتايلاند قيمتها أكثر من 17 مليار دولار ولكن بشرط تنفيذ الـ(SAP)، ووافقت تايلاند من فورها فبدأت في عمليات تسريح كبيرة للعمال في مجالات التمويل والعقارات والبناء، وتصفية أكثر من 55 مصرفًا مفلسًا، وتخفيض المصروفات الحكومية، وغيرها من الإجراءات العنيفة.

تبعت تايلاند إندونيسيا إذ قبلت شروط صندوق النقد الدولي هي الأخرى بعدما أعد لها الصندوق حزمة إنقاذ بقيمة 23 مليار دولار، فأخذت تقلص هي الأخرى من حجم الإنفاق الحكومي لتقليص العجز، وتصفي المصارف المتعثرة، وترفع من أسعار الفائدة على رأس المال الأجنبي إلى مستويات قياسية وصلت إلى 80% من أجل استعادة ثقة المستثمرين الأجانب من جديد.

ماليزيا الناجحة.. هربت من الصندوق

على الجانب الآخر، رسمت ماليزيا مسارها الخاص للخروج من الأزمة الآسيوية بعيدًا عن برامج صندوق النقد الدولي. هنا يثور تساؤل هام في أذهان الكثيرين هو لماذا أدارت ماليزيا ظهرها للصندوق رغم حاجتها الماسة إلى قرضه بعكس الدول الأخرى التي هرولت إليه لإنقاذها؟

يشير الباحثان روس باكلي وسارالا فيتزجيرالد، في ورقتهما الموسومة بـ«تقييم استجابة ماليزيا لصندوق النقد الدولي أثناء الأزمة الاقتصادية الآسيوية» والمنشورة عام 2004 في مجلة سنغافورة للدراسات القانونية «Singapore Journal of Legal Studies» إلى أربعة مبادئ أدت إلى رفض ماليزيا برنامج الصندوق وهي: مدى ملاءمة سياسات الصندوق لماليزيا، وتعزيز السيادة والديمقراطية، وتعزيز تقرير المصير، وتجنب المخاطر الأخلاقية.

فتهدف سياسات الصندوق إلى فتح الاقتصاد على مصراعيه لينصهر في النظام المالي الدولي دونما مراعاة لاستعداده الهيكلي لمثل هذا الانفتاح. فيشرح روبرت وايسمان  في فصله الوارد في كتاب كيفين دانهير «Democratizing the Global Economy»، أهداف المركزية لسياسات التكيف الهيكلي لصندوق النقد الدولي إلى أنها تتمثل في فتح البلدان لتمكين الشركات عبر الوطنية من الوصول إلى عمالها ومواردها الطبيعية، وتقليص حجم ودور الحكومة، والاعتماد على قوى السوق لتوزيع الموارد والخدمات، وإدماج البلدان الفقيرة في الاقتصاد العالمي.

من أجل ذلك ينصح باكلي وفيتزجيرالد بأنه إذا كان البلد غير مستعد لقبول هذه الأجندة من حيث المبدأ، فقد يكون من الحكمة تجنب ذلك التواصل مع صندوق النقد الدولي. لذا كان أحد الأسباب الرئيسية لرفض ماليزيا سياسات صندوق النقد، أنها لا تلائم الأوضاع الاقتصادية الماليزية.

أما عن المسار الذي سلكته ماليزيا؛ فبحلول شهر يوليو (تموز) عام 1998، أعلن رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد عن تغيير كامل للسياسة الاقتصادية وإدخال برنامج إنعاش اقتصادي وطني، وهي سياسة معاكسة تمامًا لما كان يرمي إليه صندوق النقد الدولي في البلدان المجاورة، فقد عمدت ماليزيا إلى زيادة الإنفاق الحكومي لتحفيز الاقتصاد، ووضعت ضوابط على رأس المال للسماح للحكومة بمزيد من السيطرة على الاقتصاد ومنع تدفق رأس المال الأجنبي لمنع المضاربة على العملة المحلية «الرينغيت» الماليزي وربطه بالدولار بواقع 3.8 رينغيت لكل دولار.

بعد ذلك شرعت ماليزيا في إعادة هيكلة كاملة للنظام المالي سبقتها عملية تثبيت للاستقرار، إذ أنشأت مؤسسة تدعى «داناهارتا Danaharta» وظيفتها شراء القروض المتعثرة، ومؤسسة تدعى «ﺩﺍﻧﺎﻣﻮﺩﺍﻝ Danamodal» لإعادة رسملة المؤسسات المالية. أما مرحلة هيكلة النظام المالي فقد شملت إعادة دمج المؤسسات المالية وتنمية سوق السندات المحلية، والعديد من الإجراءات الأخرى.

الحصاد.. النجاح دومًا في البعد عن الصندوق

نتيجة لتلك السياسات المالية التوسعية فقد منعت ماليزيا اقتصادها من الانزلاق إلى الركود، حيث حفزت تلك السياسات الاقتصاد ما أدى لتحسن الثقة وتحسن الطلب المحلي وبالتالي النمو الاقتصادي، حيث وصل إلى 5.4% عام 1999؛ وكان الحصاد الأخير هو ديون أقل من جاراتها واستقرار كبير في النظام المالي.

على الجانب الآخر فقد تدهورت الأحوال الاقتصادية في كل من تايلاند وإندونيسيا عقب حصولهما على قرض صندوق النقد الدولي، ووقعت البلدان في شرك ركود حاد أدى إلى تراجع النمو الاقتصادي بدرجات كبيرة إذ وصل النمو الاقتصادي في إندونيسيا، على سبيل المثال، عام 1999 إلى 0.2% فقط، علاوة على سيطرة الشركات متعددة الجنسيات على الكثير من أصول البلدين سواء في المصارف التي تخلت عنها الحكومات وتركتها للإفلاس أو الشركات التي تعثرت بسبب الأزمة المالية، وهو المصير الذي تجنبته ماليزيا فيما بعد.

الوعد الكاذب بالازدهار.. المجاعة في مالاوي 2005

في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، دفع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي دولة مالا وي، تلك الدولة الحبيسة في جنوب شرق أفريقيا، دفعتها إلى إلغاء دعم الأسمدة بالكامل. وكانت نظرية المؤسسات الدولية والولايات المتحدة آنذاك أن مزارعي مالاوي يجب أن يتحولوا إلى زراعة المحاصيل النقدية للتصدير واستخدام عائدات النقد الأجنبي لاستيراد الغذاء.

ولكم ظلت المؤسسات المالية وبعض الدول الغنية التي كانت تعتمد عليها مالاوي في المساعدات، على مدار عشرين عامًا، بالضغط على الدولة الأفريقية الصغيرة من أجل الالتزام بسياسات السوق الحرة وخفض أو إلغاء الدعم الخاص بالأسمدة، إلى أن جاء العام 2005 ومالاوي على نفس الشاكلة.

ورغم أن مالاوي كانت تحوم حول المجاعة قبيل العام 2005 إلا أنها قد وقعت في شركها في ذاك العام بعد موسم حصاد كارثي للذرة، ليجد 5 ملايين من سكان مالاوي البالغ عددهم آنذاك 13 مليون نسمة، أنفسهم في حاجة إلى معونة غذائية طارئة وإلا سيموتون جوعًا.

كان على رئيس مالاوي المنتخب حديثًا، بينجووا موثاريكا، أن يجد حلًا للمجاعة التي تحصد الأرواح في شعبه بفعل سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على مدار عقدين من الزمان. فما كان منه إلا أن أخذ تلك السياسات وألقاها وراء ظهره، إذ بدأ على الفور في إعادة إعانات دعم الأسمدة، وكانت كلمة السر فيما حدث بعدها.

تربة مالاوي كغيرها من أرض أفريقيا جنوب الصحراء، مستنفدة بشكل خطير، والكثير من مزارعيها، إن لم يكن معظمهم، فقراء للغاية ولا يستطيعون تحمل تكلفة الأسمدة بأسعار السوق التي كانت باهظة الثمن بفعل السياسات التي أوصى بها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

وبحلول العام 2007/ 2008 وبينما كانت تضرب العالم لا سيما الدول الأفريقية المحيطة بمالاوي أزمة غذاء عالمية، كانت مالاوي سلة غذاء للدول المحيطة، علاوة على بيعها المزيد من الذرة لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أكثر من أي بلد آخر في الجنوب الأفريقي، وتصدير مئات الآلاف من أطنان الذرة إلى زيمبابوي.

وفي مالاوي نفسها، انخفض معدل انتشار جوع الأطفال بشكل حاد، كما تحولت شحنة مكونة من ثلاثة أطنان من الحليب المجفف مرسلة من قبل منظمة الأمم المتحدة للطفولة من أجل علاج الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، كان من المقرر إرسالها إلى مالاوي، تحولت إلى أوغندا لعدم وجود حاجة لها في ملاوي.

ويعود ذلك النجاح الاستثنائي في أساليب مكافحة الجوع في مالاوي إلى مخالفة سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي قادت البلاد إلى مجاعة مهلكة عام 2005 وقبلها كانت على شفير المجاعة لسنوات، تتسول على موائد الدول الأخرى.

  • Social Links:

Leave a Reply