عمل النظام الأسدي، منذ بداية السبعينيات، على تعويم ونشر وإشاعة ظاهرة (كتابة التقارير الأمنية)، وشجّع ذوي النفوس الضعيفة على ممارسة هذا الفعل الدنيء، الذي كان أحد أُسس الدولة الأمنية التي أنشأها حافظ الأسد، وورثها ابنه بشار، وقد أصبحت مسألة كتابة التقارير الأمنية مهنة من لا مهنة له، ممن يقبل أن يكون أداة رخيصة بأيدي جلاديه، بهدف الوصول إلى الحظوة عند هؤلاء، وكذلك إلحاق الضرر بكل فرد لا يروق له. وبالتأكيد تمّت متابعة هذه الظاهرة أمنيًا، لتخرج منها ظاهرة التشبيح، فيما بعد، وهي التي نعيش آثارها الكارثية اليوم.
حول هذه الظاهرة المجتمعية المنبثقة عن الدولة الأمنية، توجهت (جيرون) بالسؤال إلى المختصين، لتقف معهم عند بعض التساؤلات مثل: كيف استطاع النظام الأسدي تجنيد الكثيرين من أجل ذلك؟ وما شعور الفرد وهو يكتب أي تقرير أمني يمكن أن يتسبب بالضرر لزميله أو حتى لأهله وذويه؟ ومتى ستنتهي هذه الظاهرة؟
الباحث في (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) الدكتور طلال مصطفى، وأستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق سابقًا قال: “لا شك أن ظاهرة كتابة التقارير الأمنية موجودة تاريخيًا في المجتمعات البشرية كافة، ومنها سورية، وحتى السبعينيات كانت ظاهرة كتابة التقارير الأمنية محدودة إلى حد ما، ومنبوذة من أفراد المجتمع السوري، وخاصة الناشطين في الحقل السياسي، بحيث كانت جميع الأحزاب السياسية السورية، ومن ضمنها حزب البعث، ترفض انتساب الأشخاص المعروفين بكتابة التقارير الأمنية إلى أحزابها، أو تفصل من يتبين أنه يتعامل مع الفروع الأمنية. لكن بوصول حافظ الأسد إلى السلطة 1970؛ تمّ تعزيز كتابة التقارير الأمنية كوسيلة من وسائل تعزيز سلطته المرفوضة حتى من حزب البعث، بحيث عمد النظام إلى الاعتماد على الموافقة الأمنية، كشرط لتعيين أي مواطن في أي وظيفة، مهما كان مستوى الوظيفة، من مستخدم في مؤسسة حكومية إلى وظيفة قيادية، وبالتالي أصبح المواطن السوري مضطرًا إلى مجاملة كتبة التقارير، اتقاء تقاريرهم الكيدية، وفي الوقت نفسه ينظر إليه نظرة دونية، بحيث نجد السوريين يرحبون بالأشخاص المعروفين بكتابة التقارير الأمنية، وبعد خروجهم يشتمونهم بأفظع الكلمات”.
أضاف مصطفى: “بعد الثمانينيات، وما حصل من تصادم بين النظام وانتفاضة الإخوان المسلمين؛ استغل النظام تلك الأحداث، وحشد أعدادًا كبيرة للانخراط في العمل الاستخباراتي، لتأسيس جيش من المخبرين المدنيين (غير الرسميين)، في مؤسسات المجتمع كافة، صغيرة كانت أم كبيرة، وقد كانت هناك عدة أسباب وراء وجود هذه الظاهرة (المخبرين)، منها الدافع المادي والدافع السياسي السلطوي، بحيث تتجنبه الناس خوفًا من قيامه بكتابة التقارير الأمنية وبخاصة الكيدية، وأيضًا بهدف حماية نفسه من الاعتقال. هذا بالإضافة إلى توظيف المخبريين الرسميين الذين يتم إرسالهم إلى كافة المؤسسات المجتمعية الحكومية وغير الحكومية، من قبل الفروع الأمنية، بحيث وصل أفراد المجتمع السوري إلى حد التشكيك بأي شخص يعمل معه، أو يقابله في أي مكان، وأصبح كل شخص يشك في الآخر أنه تابع للأمن”. وانتهى مصطفى إلى القول: “استطاع النظام الأمني السيطرةَ على السوريين، من خلال انعدام الثقة بين بعضهم، والعيشِ تحت هواجس الخوف من كتبة التقارير الأمنية، ولو كانوا من إخوتهم وأقاربهم؛ إذ وصل الأمر إلى أن يكتب الأخ بأخيه تقريرًا أمنيًا كيديًا؛ إذا ما حصل خلاف عائلي”.
أما الدكتور عمر النمر الاختصاصي في علم النفس، فيرى أن “كل الأجهزة الأمنية تتبع أساليب عديدة في جمع المعلومات، منها استغلال ضعاف النفوس وسيئي الأخلاق وخريجي السجون، حيث يجند هناك العديد من السجناء، ليكتبوا تقارير بأقرب الناس إليهم، مقابل تخفيف التعذيب أحيانًا، والإغراء المادي أحيانًا أخرى، وأحيانًا بإغراءات معنوية، مثل الدعم والشعور بالانتماء”. وتساءل النمر: “لماذا يقبل الناس بأن يخونوا أقرب الناس إليهم! علينا أن نتذكر أن الإنسان مفطور على حبّ الذات والشهوات والمال والجاه والنفوذ، وما حالة الرقي والاستقامة والأخلاق الفاضلة إلا حالة طارئة نتجت عن الدين والتربية الصالحة، لذلك ليس غريبًا أن ينحدر ضعيف الإيمان عديم المبدأ، إلى أن يبيع أعز الأصدقاء مقابل منفعة شخصية، مادية كانت أم معنوية، ولا سيما أن هناك من يدفع”.
الاختصاصي الاجتماعي السوري عبد الرحمن دقو تحدث إلى (جيرون)، وقال: “مسألة (كتابة التقارير لصالح جهات أمنية) هي أداة قديمة عبر التاريخ، وهي عامة لدى الدول في سياستها الداخلية وبالتالي توفر أكبر قدر من المعلومات عن حقيقة الجمهور: ماذا وكيف يفكر، وهل يشكل خطرًا على أمن المجتمع والدولة أم لا. وإلى هنا لا يعتبر هذا الأسلوب من المهام الأمنية التي تحمي المجتمع ومصالحه، من أي تخريب محتمل داخلي أو خارجي. لكن المشكلة عندما تتحول هذه الأداة إلى ترهيب للمواطنين تؤثر في تفكيرهم وحياتهم وإنتاجهم واندفاعهم نحو السلوك المبادر والإيجابي تجاه الدولة ومؤسساتها، خشية الوقوع ضحية هؤلاء وأهوائهم ونمط شخصياتهم السايكوباتي/ منعدم الضمير”.
تحدث دقو عن مواصفات كتبة التقارير قائلًا: “ينتقل (كاتب التقارير) من خدمة الدولة والمجتمع إلى كابوس يُرعب الناس، وبالمناسبة أصبحت هذه المهمة ذات شروط محددة، لا توكل إلا لمن تتوفر فيه؛ إذ يجب أن يكون سيئ السمعة، عاقًا، مؤذيًا، فاشلًا في حياته العلمية والمهنية، من أسوأ الناس وأراذلهم، مستعدًا للانحراف في كل سلوك، يتباهى في ميوله العدوانية تحت جنح القانون، بل يتجاوزه بكل جرأة وتحد، ويتلذذ بما تقترف يداه من أذى، من دون شعور بتأنيب الضمير أو بالذنب”.
بالنسبة إلى خطورة كتاب التقارير على المجتمع والفرد، يرى دقو أنه “قد تم تعميم هذه المهمة لتكون مأجورة، وتمنح صاحبها امتيازًا مرعبًا، إذ يعتبر المأجور فيها مصدر خطر على الضحية شخصيًا ومهنيًا، وعلى عائلته ككل، وبالتالي يمكن بتقرير واحد بحق شخص ما أن ينال من مواطنيته ويصبح مدانًا حتى تثبت براءته، وبالتالي سيكون حاضر الضحية ومستقبلها رهن لمزاج ذلك المريض نفسيًا، ينغص عليه حياته وربما يدفعه إلى الهجرة أو إلى التقوقع على ذاته (يمشي الحيط الحيط ويقول يا رب السترة، لا تحكي شيء الحيطان لها آذان)، وينعكس ذلك على القطاعات الإنتاجية والعلمية لكل مؤسسات الدولة، وما في ذلك من خسارة لطاقات بشرية ومادية”. عن شعور الفرد وهو يكتب أي تقرير أمني، يقول دقو: “من يمتهن هذه المهنة أو يرتهن لها بشكل أو بآخر؛ فهو يعاني من شخصية (سايكوباتية)، وهي تتصف باللامبالاة، وعدم الشعور بالذنب، ولا يحاسب نفسه ولا يؤمن بأي معتقد ديني على الإطلاق في قرارة نفسه، ويمكن أن يشكل خطرًا على أهله وأسرته، فكل من حوله هم مشاريع لموضوعات كتاباته، لا يشعر بالمواطنة ولا يفهمها، وجلّ ما يهمه مرضاة مصدر قوته، ليرضوا عنه بغض النظر عن صحة ما يكتب أو كذبه، وغالبًا ما يكون فاشلًا في مهنته أو تعليمه، وربما ساقطًا شعبيًا، على الرغم من تملق معارفه له تجنبًا لأذاه”.
تنتهي هذه الظاهرة -كما يرى دقو- “عندما يُفعَّل القانون ومؤسساته القضائية، ويُحمى من الفساد بكل أشكاله ومن أي وصاية غير قانونية. وعندما تخضع كل المؤسسات الأمنية للمحاسبة والقضاء، بما يوفر العدل والأمان لكل الناس. وعندما تفعل الدولة مؤسساتها الأمنية، لتكون لحماية الدولة والمواطن كحقيقة عملية على الأرض تلتف الناس من حولها حبًا لها ودعمًا لها، وليس خوفًا منها. وأيضًا عندما تعتمد الدولة في اختيار كوادرها الأمنية على الجامعيين، بعد تدريبهم في دورات قانونية وإنسانية ومسلكية ووطنية في التعامل مع المواطن وخدمته، واستيعابهم أنهم تحت القانون لا فوقه. وأخيرًا عندما تعتمد الدولة في معرفة أحوال الناس على خيرة الناس من المجتمع المدني ومن حكمائه ومن رجالاته الشعبيين الذين يخافون الله، ويحرصون على الوطن والمواطن والدولة ومؤسساتها”.
Social Links: